انحاز نجيب محفوظ لصوت أحمد عدوية مبكرا، رغم هجوم المثقفين عليه، ورأى فيه ترجمة لفوضى العصر في قالب موسيقي، نجح عادل إمام في البقاء خالدا في أذهاننا، رغم أنه تعرض للهجوم نفسه، وأمام حالة الانبهار بنجاح مسلسل جعفر العمدة يحاول البعض ربط رأي نجيب محفوظ بمحمد رمضان، وفي رأيي هو قياس فاسد.
نجاح جعفر العمدة أبهر بعض المثقفين، لكن هذا الانبهار يخبرنا عن شيء لا علاقة له بالثقافة، بل عن عبادة النجاح والشك في الذات الذي تتزلزل أمامه القناعات، وهو أمر لا يخص محمد رمضان من قريب أو بعيد؛ لأنه “ثقة في الله نجاح”، لكن المتثاقفين” زيرو ثقة بقناعاتهم أو نجاحاتهم”، أما رأي نجيب محفوظ فلا يتبنى في تلك الحالة، إلا لأنه يبدو رأي “سكسي”، يوهمك أنك تخلصت من أمراض اليسار في تناوله للفن، بينما هو ليس إمعانا في ذلك المرض، الذي يتطرف في الحب والكره، بناء على مازورة ما في مخيلته لا تشبه أبدا الواقع، إما نفاق مخيلة المثقفين أو نفاق الجماهير.
آفة حارتنا ليست النسيان فقط، بل أيضا أن لا قناعات أصيلة، بل قناعات “حراقة”.
محمد رمضان، لا يخصنا، على عكس عادل إمام أو عدوية، فالأول عندما أطلق فانتازيا البطل الشعبي في مخيلة الجماهير، كان يحارب بالنيابة عنهم أشرارا حقيقيين، قهروه فعلاـ، سواء كانوا رجال سلطة أو رجال أعمال فاسدين، قهروا الشعب لزيادة نفوذهم وثرواتهم، في لحظة تغيير حقيقية تغيرت فيها تركيبة المجتمع عنوة، كما تشكلت من قبل عنوة، ولم يتمكن الجمهور إلا عبر مخيلة السينما من الانتصار عليهم، أما عدوية فقد أبرز بصوته طريقة تعبير غير متكلفة، وغنى من خلال تعبيرات يستخدمها الناس في حياتهم، والاثنان تمكن فنهما من الصمود، وهو شيء أكبر من النجاح اللحظي، شارك في مشروع عادل إمام وعدوية كبار الممثلين والمؤلفين والملحنين، وكان عادل ابن جيل يقدر الثقافة حقا، أما عدوية فجاء في لحظة تحتاج فيها الموسيقى إلى تغيير في النظر، بعد فشل التخت الشرقي في أن يكرر نفسه.
قد ينطبق رأي نجيب مثلا على مطربي الراب أو حتى المهرجانات، أما ثلاثية سامي ورمضان: البرنس والأسطورة والعمدة، فهي أبعد ما تكون عن التعبير عن الناس أو الانتصار لهم، محمد رمضان لم يعد يخص الناس من الأساس، ولا يقدمهم على حقيقتهم في مسلسلاته، ولا ينتصر لهم في شيء، اللهم إلا إذا كان المقصود أن تنتصر القبلية، وأن تجد الذكورة المهانة التي لم يعد لها مكانا في الزمن، أسطورتها على الشاشة.
هل يهتم رمضان وسامي حقا بالناس وما يرضيهم، أم يهتم فقط برضا المؤسسات السيادية وأمراء الخليج، أما الناس ونفاقهم، فليسوا إلا وسيلة عبور لتأكيد شيء واحد، قوة النجاح التي تنهزم أمامها أي قيمة أخرى. النجاح لا يعني أنه فن جيد، قل فنا شعبويا، رخيصا، مسليا ولا تتورط أبدا في تلبيسه عباءة الفن الجيد.
لا أزمة أبدا أن نحب فنا مسليا ورخيصا، فن نسيطر عليه، ولا يسيطر علينا، بتعبير الكاتب سامي الكيال، للسبب نفسه نفضل منصة نيتفليكس بعد يوم مرهق، ونبتلع رداءة أعمالها المحببة إلى النفس، ويجب ألا نشعر بالذنب تجاه هذا الحب للمسلي والرخيص، لأنه وحده القادر على مواساتنا في حياة ضاغطة وعنيفة، وبعد يوم مرهق، وقد نحتاج جميعا مثقفين وجماهير إلى بطل ملحمي يخوض مغامرات غير منطقية وينتصر، تلك التوليفة ثابتة منذ بداية تاريخ السينما والتليفزيون في العالم كله، ومطلوبة.
لا يشبه المسلسل مثلا حي السيدة زينب، ولا ناسه، بل هي تخيلات مخرجه عن ذلك العالم، حماسة الناس وحبهم للمسلسل يحسب له ولصناعه، إمتاع الناس، إمتاعنا عبر أي توليفة كانت أمراً عظيماً وجهداً مشكوراً، لا يمكن التعالي على هذا، أما خلط الأمور، ودفع مفهوم الفن إلى التسطيح والانسحاق أمام نجاح المسلي، فليس تواضعا بل حماقة.
أما تحليل أسباب نجاحه، لأن الناس في حاجة إلى بطل متزوج من 4 سيدات، ثري من الربا رغم تدينه، يقهر الجميع ويدور الجميع في فلكه، فهو أمر إن دل على شيء لا يدل على وجدان جمعي وجد مطلبه، بل وجدان جمعي في أزمة تستحق القلق والتفكير، وجدان يجد أن الحل الذي يرضيه، هو أن يعود بعقارب الزمن إلى الوراء، وأن ذكورته المهانة؛ لأنها لم تعد صالحة للزمن، في حاجة إلى فانتازيا من أجل تحقيقها في حاجة إلى انتقام.
أما عن عوالم نجيب محفوظ، فقد كان في ثلاثيته الخالدة، أول من أشار إلى ضرورة تحطيم ذلك النموذج لا الانتصار له.
مبروك لمحمد رمضان ولسامي على النجاح، سنقبل المتعة بكل تأكيد بدون تعال، أما الجماهير، فلا أظن أنهما يعرفانهما حقا.
أنهي المقال بهذا التعريف لدور المثقف من رواية السكرية لنجيب محفوظ:
“إني أؤمن بالحياة وبالناس، وأرى نفسي ملزمًا باتباع مُثلهم العليا ما دمت أعتقد أنها الحق؛ إذ النكوص على ذلك جبن وهروب، كما أرى نفسي ملزمًا بالثورة على مثلهم ما اعتقدت أنها باطل؛ إذ النكوص عن ذلك خيانة، وهذا هو معنى الثورة الأبدية!”.