كل عام وأنتم جميعًا بخير فها هو شهر رمضان المعظم ينتهي ويقدم إلينا عيد الفطر المبارك، ورغم الظروف الاقتصادية والمعيشية شديدة الصعوبة التي يعاني منها أغلب المصريين، إلا أن كعادتنا موائد الرحمن لم تختفي ولم تندثر رغم الأزمة، ومستويات التبرع وأفعال الخير زادت وفق شهادات الكثير من الأصدقاء العاملين في المؤسسات الخيرية والفاعلين في الأنشطة الخدمية الكثيرة والمتنوعة، وهو ما يؤكد دومًا على معدن وجوهر المواطنين المصريين، واستمرار الأثر الروحاني الكبير لشهر رمضان في زيادة أفعال التضامن والتكافل الاجتماعي، بدوافعها الإنسانية والدينية المختلفة.
لكن وبنهاية شهر رمضان والأعياد وعودة الحياة لطبيعتها، ندرك جميعًا أن حجم التكافل والتضامن الاجتماعي يتغير، وللأسف فإن الكثيرين ممن تصلهم المساعدات والمساهمات المتنوعة في توفير الغذاء والاحتياجات في رمضان، يعودون للمعاناة في باقي الشهور، وتعود مخاطر زيادة مستويات الجوع مرة أخرى بشكل قوي.
العديد من التقارير الصحفية والدراسات البحثية كانت قد رصدت ظواهر عديدة للتكيف والتعايش مع الأزمة الاقتصادية ومستويات التضخم الراهنة والتي دفعت الكثير من الأسر لتقليل الإنفاق على الطعام أو تخفيض الوجبات أو استبدال العناصر الأغلى سعرًا بعناصر أقل في التكلفة حتى لو على حساب القيمة الغذائية، ولاسيما في ظل وصول مستويات التضخم في أسعار المستهلكين إلى 32.9% في شهر فبراير / شباط الماضي، بحسب بيانات البنك المركزي المصري، والتي يقود هذا الارتفاع فيها أسعار الغذاء والشراب التي ارتفعت بمفردها لأكثر من 61% جنبًا إلى جنب مع ارتفاع تكلفة النقل والمواصلات، وهو ما يعني مزيدًا من المعاناة المعيشية للشرائح الأكثر فقرًا والتي تنفق نسبة أكبر بكثير من الدخل الخاص بها على بنود الطعام والشراب مقارنة بالفئات الأعلى، حيث تنفق الشريحة العاشرة من السكان الأكثر فقرًا أكثر من 47% من دخلها على ذلك البند، بحسب بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك الصادر عن جهاز التعبئة العامة والإحصاء في نسخته الأخيرة قبل 3 سنوات.
هذه الأرقام والنسب مرشحة بشدة لمزيد من السوء في ظل ما أشرنا إليه من مستويات التضخم، وانخفاض لقيمة العملة الوطنية أمام الدولار في بلد يستورد أكثر من 40% من احتياجاته الغذائية من الخارج، وبالتالي ترتفع مستويات أسعار الغذاء أكثر وأكثر مع انخفاض قيمة العملة، والتي لازالت مرشحة للاستمرار في إطار وضع اقتصادي مليء بالمصاعب، بسبب استمرار سياسة التشدد النقدي العالمية، وارتفاع أسعار الطاقة، واستمرار الحرب الروسية الأوكرانية التي تلقي بتأثيراتها على الدول النامية جميعًا.
وعند الحديث على مستوى الدولة ككل، فإن مساهمة المجتمع المدني وبرامج وأنشطة الجمعيات الأهلية لا تكون هنا أمرًا ملائمًا، بل يجب الحديث عن تخطيط السياسات العامة للدولة عبر برامج وأنشطة وإجراءات حكومية محددة، تتطلب مزيدًا من الجهود والنفقات لتحسين الأوضاع الاجتماعية والمعيشية في ظل مستويات التضخم الآنية.
وبالرغم من الجهود التي تقوم بها الحكومة في برامج الدعم النقدي والحماية الاجتماعية المختلفة ومحاولات تخفيف آثار التضخم عبر زيادة الأجور والمعاشات، إلا أن سياسة الدعم التمويني تحتاج لإعادة نظر في ظل هذه المتغيرات التي نتحدث عنها، فقديمًا كانت تتبنى مصر برنامج ثابت لدعم السلع الغذائية وذلك على مدار عقود طويلة منذ العهد الناصري وحتى تبني سياسة الدعم النقدي بدلًا من الدعم السلعي في السنوات الأخيرة، كانت فلسفة الدعم السلعي تهدف لتوفير الغذاء والسلع الأساسية للمواطنين بأسعار مخفضة تناسب الفقراء وأصحاب الدخول الضعيفة، بغض النظر عن التكلفة الحقيقية لإنتاج تلك السلع، وتحمل الموازنة العامة للدولة عبء تمويل هذا الفارق، وما اعترت هذا البرنامج من عيوب عديدة مثل وقائع الفساد في تهريب وإخفاء بعض السلع التموينية بسبب وجود أكثر من سعر لذات السلعة، لكن المستهدف الحكومي من تلك السياسة كان بشكل واضح تمكين المواطنين من الحصول على غذاء مناسب يمنع الأمراض ويحسن الصحة بغض النظر عن المستوى المادي للمواطن، حتى وإن كانت بعض السلع المضرة بالصحة كانت تدخل ضمن حزم الدعم في البداية مثل الحلاوة الطحينية على سبيل المثال.
الدعم النقدي الذي تبنته الحكومة على مدار سنوات برغم مما سببه من تحسن في موقف المالية العامة من جانب، وتوفير الأموال لضخ مزيد من الاستثمارات الحكومية الهامة، إلا أنه في أوقات كالتي نراها الآن، ربما يجدر بصناع القرار العودة لدعم عدد من السلع الأساسية التي تحافظ على حد أدنى من القيمة الغذائية النافعة للمواطنين الأفقر لمنع زيادة مستويات الجوع، وهو تمامًا ذات الفلسفة التي تدفع الحكومة لعدم المساس بسعر رغيف الخبز المدعم منذ عقود طويلة رغم تراجع حجمه وجودته، وهو ما دعمته دراسات سابقة للبنك الدولي أكدت على أن دعم الخبز في مصر رغم كل عيوبه كان يمنع مستويات الفقر والجوع من التدهور، وبالتالي ربما دعم سلع أساسية مثل الزيوت وبعض الحبوب قد يحافظ على الشريحة الأكثر فقرًا من المواطنين التي تنفق القدر الأكبر من دخلها على الغذاء.
ربما أيضًا يكون الوقت مناسبًا لدعم تكلفة الإنتاج للقطاع الخاص، فبرغم صعوبة تخفيض أسعار الطاقة في ظل استمرار ارتفاعها عالميًا، مما يعني أن تكلفة الإنتاج ستزيد، بالإضافة لتكلفة تمويل الإنتاج التي تزداد صعوبة مع وصول أسعار الفائدة إلى 19.25%، فلماذا لا تفكر الحكومة في إطار تعديل سياستها المالية، إلى تخفيض الضرائب المرتبطة بالاستهلاك مثل ضريبة القيمة المضافة وتحديدًا المرتبطة بإنتاج السلع الغذائية الأساسية، وإن كانت تلك الأداة تحديدًا ستواجه تحدي كبير في تحقيق نتائجها، من حيث الرقابة على انخفاض أسعار تلك السلع في حال تخفيض الضريبة، وهو أمر يرتبط بكفاءة أجهزة الرقابة على الأسواق في ظل مجتمع قوامه 100 مليون مواطن، ويوجد كثير من أشكال الإنتاج والأسواق غير منخرطة في إطار السوق الرسمي، وبالتالي هو حل ممكن نظريًا لكن يشوبه العديد من الصعوبات العملية.
المقترحات السابقة وربما مقترحات أخرى ترد في أذهان البعض عن ضرورة تخفيض الإنفاق الاستثماري الحكومي، وتحسين قواعد بيانات المستحقين للدعم في برامج الحكومة، أو توسيع المستفيدين من أنشطة المجتمع المدني لتخفيف مستويات الفقر، والاستفادة من وجود مظلة كبيرة مثل التحالف الوطني للعمل الأهلي وظهور قانون يكافح هدر الطعام تحديدًا، كلها أفكار هامة تحتاج لنقاشات أكثر عملية وعمقًا لتطبيقها وإقرارها، وعلى اختلاف الحلول والأفكار والمقترحات، يجب أن نسعى جميعًا بكل ما نملك، لعدم تفاقم أزمات الجوع ونقص التغذية بعد نهاية الشهر الكريم، والتي تمتد آثارها لما هو أبعد وأكثر من اللحظات الحالية.
وكل عام وأنتم جميعًا بخير.