قبل ثورة (1919)، أنشد شاعر العامية المصرية الكبير “بديع خيري”، أغنية “دنجي دنجي”، باللهجة السودانية، لحنها فنان الشعب الشيخ “سيد درويش”، عندما قرأ كلماتها في إحدى المجلات دون أن يكون قد التقى بعد مع مؤلفها.
كانت تلك إشارة بلغة الفن لقوة الوشائج التي تجمع المصريين والسودانيين، أنهما شعب واحد ونهر النيل يجمعهما.
ببساطة كلماتها وعمق معانيها وإيقاعها المتدفق، خاطبت تلك الأغنية المشاعر السودانية، ونجحت إلى حد كبير في تطويق حساسيات، كان المحتل البريطاني يسعى إلى تكريسها.
مصر في حاجة مماثلة الآن لاستدعاء ما هو مشترك من وشائج، وتنحية ما هو عابر من حساسيات وقوفًا مع السودان في المحنة الحالية، التي تعترض مستقبله ومصيره.
السودان مسألة أمن قومي على درجة عالية من الحساسية.
هذه حقيقة تستدعي العمل والتصرف وفقها.
لا يصح التلكؤ بأية ذريعة في مد يد العون إلى الشعب السوداني المنكوب بالحرب الداخلية، التي نشبت في جنباته.
أول ما هو مطلوب، تسهيل المرور للنازحين هربا بالحياة داخل الأراضي المصرية.
بالأرقام، هناك أربعة ملايين سوداني يعيشون في مصر، يعملون فيها ولا يعانون أي تمييز، شأن كل من نزح إليها من عرب آخرين اضطرتهم ظروفهم القاسية إلى مغادرة مواضع الاقتتال في أوطانهم.
إذا ما أضيفت أعداد أخرى، فهم على الرحب والسعة رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها مصر.
إنه استثمار استراتيجي يصب لصالح البلد، ويؤمن حقه في مياه النيل على مدى طويل.
في توقيت متزامن لافت برسالته، اتسعت موجات نزوح السودانيين إلى دول الجوار الأخرى، وأجليت البعثات الدبلوماسية الدولية من العاصمة الخرطوم.
النزوح والإجلاء في نفس اللحظة، كان تعبيرًا عن إدراك عام أن الحرب قد تطول، وأن تداعياتها الخطرة تتجاوز السودان إلى مستقبل القارة كلها، واستراتيجيات البحر الأحمر.
لا يمكن لدولة عاقلة تدرك حقائق ما حولها أن تدير ظهرها لما يحدث في السودان، كأنها في منأى عن الأخطار المحدقة.
هذه حقيقة أخرى تستدعي التساؤل بكامل الجدية عن الدور المصري، ومأزقه في السودان.
بما هو إنساني ملح وضاغط، فإن أي تردد في الاستجابة لمتطلبات السودانيين في الحياة بأمن، وكرامة جريمة كبرى بحق الأمن القومي المصري.
وبما هو سياسي، واستراتيجي يطرح سؤالًا معلقًا في فراغ السياسات والمواقف: ما العمل؟
إذا لم تكن هناك إجابة متماسكة، فإن الحوادث سوف تداهمنا بأخطارها، إثيوبيا سوف تكون أكثر تعنتا، وعنادًا في رفض توقيع أي اتفاق قانوني ملزم بشأن سد النهضة مع دولتي المصب مصر والسودان.
الأخطر، أن تضرب وحدة السودان في صميمها، وتجد مصر على حدودها المباشرة دويلات جديدة متحاربة تستنزف أمنها وسلامتها.
بأي حساب وحدة السودان شأن مصري مباشر، ومصلحة مصرية مؤكدة.
ما العمل إذن؟
لا توجد أية إشارات ذات قيمة لدور مصري فاعل، ومؤثر في حركة الحوادث السودانية بحثًا عن حل سياسي ممكن يوقف آلة التقتيل.
العالم كله يتبنى فكرة وقف مستدام للاقتتال، والبحث عن تسوية سياسية دون أن يتبلور حتى الآن مشروع محدد له آلياته.
بصورة لا تخفى حرصت الخارجية الأمريكية على إبعاد مصر، أو عزلها بمعنى أصح عن أية جهود، أو اتصالات للتوصل إلى هدنات تمهد لتسوية سياسية.
كان مثيرًا للالتفات أن الوزير الأمريكي “أنتوني بلينكن”، أجرى اتصالات مرة بعد أخرى مع الإمارات والسعودية لهذا الغرض، فيما استبعد مصر الأكثر قربًا جغرافيًا واستراتيجيًا من السودان.
هناك فرضيتان رئيسيتان لتفسير السلوك الأمريكي:
الأولى: أن مصر تفتقد أي تأثير على أطراف الصراع، وأن أدوارها وأوزانها تراجعت إلى حدود لا تسمح لها بلعب أية أدوار.
والثانية: أن أمريكا تسعى لتهميش الدور المصري، أكثر مما هو عليه في معادلات الإقليم، وأوزان القوى فيه لصالح قوى أخرى.
الفرضيتان تكملان بعضهما في رسم صورة المأزق المصري.
لم تكن الدعوة الإسرائيلية لاستضافة طرفي الاقتتال في السودان، والتوسط بينهما لإنهاء الحرب والتوصل إلى تسوية محض مزحة.
كانت مقاربة أولى حاولت بها أن تطرح نفسها لاعبًا مباشرًا في أية جهود تنتسب إلى فكرة السلام، كأنها دولة طبيعية في الإقليم، وقوة سلام تعمل على وقف الحرب لا آلة بطش، واحتلال وسلطة فصل عنصري في فلسطين المحتلة.
ولم يكن التأكيد الأمريكي على أنها أحيطت علمًا بالمبادرة الإسرائيلية، سوى لفت انتباه لها دون التورط في إبداء الرأي بها.
الكلام الإسرائيلي يكاد يلخص المستوى الذي وصل إليه التدهور العربي.
لم تبادر مصر وبادرت إسرائيل! كأنها تتمركز في المتن ونحن نقف على الهامش.
إذا كان يمكن النظر الآن إلى المبادرة الإسرائيلية بأنها عبثية، فقد تختلف الاعتبارات تاليًا، خاصة أن طرفي الحرب على صلة اتصال وتفاهم وتطبيع معها.
بالوقت نفسه نشأت أفكار أوروبية خافتة، لكنها مسموعة، تدعو إلى إسناد دور جوهري لمصر لم تتضح معالمه حتى الآن.
هناك خشية أوروبية متصاعدة من أن تمتد النيران المشتعلة في السودان إلى دول الجوار الإفريقية، وأن تنال من استراتيجيات البحر الأحمر، وتضر بمصالح محققة أو منتظرة.
الأخطر تفكيك البلد نفسه بنزاعات جهوية وعرقية، كأننا أمام زلزال مرتقب قد يضرب القارة في صميمها بوضوح كامل، ليست من مصلحة مصر التورط عسكريًا في السودان، أو أن تخوض بالنيابة حروب الآخرين.
اللافت -هنا- أن “قوات الدعم السريع”، خططت مسبقًا لمنع هذا الاحتمال، ظنًا أن المصريين سوف ينتصرون للجيش السوداني.
جرى استهداف قاعدة مروي في بداية الاشتباكات، لتحييد أي دور مصري محتمل.
كما جرى بوقت لاحق اغتيال مساعد الملحق الإداري في السفارة المصرية بالخرطوم، أثناء قيامه بواجبه في إنهاء ترتيبات مغادرة مواطنيه للأراضي السودانية في رسالة مشابهة.
كان ذلك عملًا مخططًا؛ لترهيب المصريين في السودان أن حياتهم ليست آمنة.
التورط في الحرب خطيئة استراتيجية، وتجاهل الرد بالمثل خطيئة مماثلة.
مأزق السياسة المصرية الحالية، أنها تقف في وسط الأنواء دون بوصلة ترشد، لما يصح وما لا يصح من مواقف.
تماشي الخطاب الدولي السائد، تكرر نفس الكلام عن وقف إطلاق النار، وتمديد الهدنة الهشة لأطول فترة ممكنة؛ بحثًا عن تسوية سلام بين الطرفين المتقاتلين، دون أن تستبين حسابات ورؤى تتسق مع مصالحها الاستراتيجية الخاصة.
هذه مسألة موروثة منذ توقيع اتفاقيتي “كامب ديفيد”، دون أدنى محاولة للخروج من إسارها.
عندما خرجت مصر من الصراع العربي الإسرائيلي تهمشت أدوارها في عالمها العربي، وقارتها الإفريقية والعالم الثالث كله، ودفعت الثمن فادحًا من هيبتها التي تضررت بشدة.
الهيبة مسألة سياسات، ومواقف وقدرة على المبادرة، والتأثير في مجريات الحوادث.
لم يكن ممكنًا، أن تحفظ هيبتك وأنت تتنكر لتاريخك وحلفاء الأمس.
كان الانخراط المصري في مطاردة النفوذ السوفييتي بالقارة مع أجهزة استخبارات غربية وفق اتفاقية أطلق عليها “السفاري”، عملًا مشينًا بأي معيار أخلاقي وسياسي واستراتيجي.
عندما أخليت مواقعك في القارة باستهتار بالغ، بدأت دول أخرى تملأ الفراغ على رأسها إسرائيل.
وقد كانت محاولة اغتيال الرئيس الأسبق “حسني مبارك”، في أديس أبابا (1995) من جماعات إسلامية متطرفة تتمركز في السودان، داعية إلى فجوة جديدة بين البلدين تمددت إلى إفريقيا كلها.
هكذا لم يكن لمصر أية أدوار مؤثرة في الشأن السوداني عندما هبت انتفاضتها الشعبية (2019).
بالوقت نفسه نشطت إثيوبيا في الفراغ المصري، طرحت نفسها لاعبًا رئيسيًا في التوفيق بين المكونين العسكري، والمدني قبل أن تنفجر التحالفات وتأخذ السودان إلى مشارف المجهول.
المأزق المصري في السودان حاضره مزعج وماضيه مؤلم.
إذا لم تكن هناك مقاربة جديدة تحاول أن تستعيد شيئًا من الهيبة المفقودة، فإن الأمور سوف تسوء بأكثر من أي توقع.