تملأ المغالطات المنطقية حياتنا، ونستخدمها بأنفسنا أحيانا أو يخدعنا بها الآخرون، وقد يتم ذلك حتى من دون قصد أو من دون وعي، كمجرد خطأ في التفكير، والمغالطة المنطقية باختصار هي محاولة إثبات حجة أو رأي، بواسطة استدلال خاطئ. كأن تحاول (مثلا)، التقليل من شأن لاعب كرة من خلال الطعن في سلوكه الشخصي، على الرغم من أن ذلك السلوك لا علاقة له بموهبة اللاعب ومهاراته الرياضية أو العكس، إثبات أن زميله لاعب عظيم لأنه خلوق. وتسمى تلك مغالطة “الرنجة الحمراء”، وهي محاولة التشويش على نقطة معينة من خلال جر الحديث إلى نقطة أخرى. تلك من أشهر المغالطات. وأكثر منها مغالطة التعميم التي نقع فيها جميعا، ومنها أن تكوّن رأيا في شعب كامل بسبب تجربة فردية، أو بسبب سلوك بعض الموتورين على الإنترنت. بصفة عامة، تتعدد المغالطات المنطقية حتى أنها تبدو أحيانا بلا حصر.

وهكذا كانت إحدى أكثر المغالطات انتشارا خلال عرض المسلسل الرمضاني المتميز “تحت الوصاية”، هي تلك التي تعلقت بالحجة التالية التي تقول: قانون الوصاية والولاية على أموال القصر ليس قانونا ظالما، لأن الأم أيضا قد تكون سيئة أو سفيهة وليست كالأم الشجاعة في المسلسل، والتي لعبت دورها الفنانة الكبيرة منى زكي، ففي أرض الواقع ربما يكون الجد أو العم هو الشخص العاقل والمسؤول، وتكون الأم هي الأكثر ضررا على أموال وميراث أطفالها. (وهذا بخلاف من يرى أن تصرف الأم (حنان)، في المسلسل هو في حد ذاته تصرف متهور وسفيه ويثبت أنها غير أمينة على أطفالها أو ثروتهم).

يبدو ذلك للوهلة الأولى كلاما منطقيا سليما، فبالفعل، ليس شرطا أن تكون الأم هي الأكثر أمانة أو مسؤولية أو خبرة فيما يتعلق بالمال، إذ ربما يكون الوصي الآخر، الجد أو من يحل محله من ذكور العائلة، هو الأكثر عقلانية وحرصا على أموال أحفاده أو أبناء أخيه. ومن الخطأ أن نعمم ما رأيناه في المسلسل الدرامي على الواقع، فكثير من الأجداد والأعمام كانوا شخصيات محترمة ومسؤولة، بل ربما كانوا أفضل من الأمهات أنفسهن.

الواقع أن المغالطة هنا تختبئ أو تتخفى جيدا. إنها واحدة من المغالطات التي تنتمي إلى ما يسمى “مغالطات الصلة بالموضوع”، إنها مغالطة تقوم على حجة سليمة لكنها غير قادرة على علاج الموضوع أو المشكلة. ذلك أن ما نناقشه هنا ليس الفارق بين مهارات، أو أمانة الأم ومهارات وأمانة الجد أو العم. إن النقطة الأساسية التي تشوش عليها هذه المغالطة، هي نقطة تجاهل الأم، واستبعادها من الإشراف على أموال أقرب الناس إليها؛ أبناؤها الذين حملتهم في بطنها، ومنح ذلك الحق إلى شخص آخر، هو بالتأكيد أبعد في القرابة إلى هؤلاء الأطفال. إن ذلك يعني ببساطة أن القانون لا ينظر إلى المرأة/ الأم كإنسان يتساوى مع الأب. كأن الأب كوّن الأسرة وأنجب الأطفال وحده، وبموته ينتقل الإشراف على مال الأطفال إلى شخص هو من خارج الأسرة. كأن الأم التي حملت وولدت وأرضعت وربّت، والأهم: التي هي أكثر من يعرف احتياجات أطفالها، مدارسهم وملابسهم وأدويتهم وأحلامهم. هي مجرد شبح، شخص غير موجود، غير موثوق فيه. معدوم الشخصية القانونية.

تشوّش إذن المغالطة على هذه الحقائق السابقة، وبدلا منها تضع جدالا آخر يتعلق بالفرق بين البشر (الأم والجد)، في الأمانة أو مهارة إدارة الأموال. لكن المسألة ليست المهارة ولا الأمانة، التي تختلف بالطبع بين البشر. وإنما هي مسألة “الحق”، حق الأم تماما كالأب في الولاية على الأطفال، الأم قبل أي شخص آخر. وعلى سبيل المثال، تصور أنك ذهبت إلى البنك لتتصرف في أموالك، لتفاجأ بأن البنك قد عيّن شخصا آخر لإدارة مالك، لأن ذلك الشخص أكثر منك مهارة أو مسؤولية. سيبدو ذلك جنونا بلا شك، لأنه يتجاوز على الحقيقة الأساسية وهي أن المال مالك تماما، كما يتجاوز قانون الولاية على حقيقة أن هؤلاء هم أطفال الأم أيضا، وليس الأب وحده. ومن ثم فإن الولاية لابد أن تكون لها قبل أي شخص آخر من خارج الأسرة.

نظرة واحدة إلى رقم وسنة قانون أحكام الولاية على المال، أي (القانون 119 لسنة 1952)، تفسر نصف اللغز فالقانون يعود إلى مدة أقدم من سبعين عاما، إلى مجتمع مصري كان مختلفا تماما عن مجتمع اليوم. مجتمع كان فيه تعليم وعمل المرأة هو الاستثناء وليس الأصل، مجتمع لم يكن للمرأة فيه حق التصويت في الانتخابات. مجتمع كان شائعا فيه أن تتجوز الفتاة – وتترمل – وهي لا تزال طفلة.