في التاريخ الحديث، كانت الإشارة الدائمة وأحيانًا الشكوى المزمنة هي من وجود دور مصري زائد عن الحد في التفاعل مع المتغيرات السودانية. لكن جاءت حرب الجنرالين البرهان وحميدتي الأخيرة ليتحول الحديث إلى شكوى مزمنة جديدة ولكن هذه المرة في الاتجاه العكسي تمامًا، ألا وهو دور مصري شاحب أقل بكثير من المتوقع أو المطلوب سواء لأمنها أو أمن السودان الشقيق.
في هذا الصدد، تكرر تعليقان في توصيف الدور المصري في الأزمة السودانية الراهنة، ربما بات من الضروري تعقبهما تحليليًا بأكثر مما حظيا في الأيام الماضية.
التوصيف الأول، هو أن خيارات مصر كانت محدودة للغاية وحركتها كانت مقيدة وتأثيرها – باستثناء إخراج جنودها – كان تأثيرًا ضعيفًا.
التوصيف الثاني، هو أن قوى إقليمية ودولية أبعد جغرافيًا من مصر وأقل مساهمةً في تشكيل تاريخ ومعطيات السودان الحديث، كان تأثيرها في هذه الأزمة أكبر بكثير من القاهرة بصورة بدت مفارقة محزنة وغير مفهومة لأحكام الجيو استراتيجي الحاسمة ولمحددات الأمن القومي المصري الراسخة منذ آلاف السنين.
السؤالان اللذان نطرحهما هنا، كيف كانت مصر الحالية مسئولة عن محدودية خياراتها في أزمة السودان الراهنة وكيف كانت مصر المأزومة اقتصاديًا من الرئيس السادات إلي الآن مسئولة تاريخيًا عن انحسار الدورين العربي والإفريقي للقاهرة بحيث تم دفع تأثيرها حتى في مجال أمنها الوجودي إلى الهامش.
أولًا: لماذا كانت مصر 2023 مسئولة عن محدودية خياراتها في التعامل مع نزاع الجنرالين المسلح في الخرطوم؟
بالنسبة لبلد غارق في أزمته الاقتصادية والمالية إلى أذنيه ويمتلك -كما سيتم تفصيله لاحقًا – منظورًا ضيقًا لدوره الجيو سياسي فإن آخر ما يتمتع به هو القدرة على المبادأة في السياسة الخارجية ويميل سلوكه عادةً إلى الحذر من إغضاب المانحين والمقرضين، ويميل بالتالي إلى سلوك رد الفعل. بل ورد الفعل البطيء لأن مخاطر الصراع مع دول الخليج مثلًا بخصوص قضية إقليمية قد يعني في لحظة ما تهديد قدرة مصر على توفير الاحتياطات الدولارية اللازمة لاستيراد السلع الأساسية مثل القمح والذرة والزيت للشعب المصري.
لم يكن اختيار الجنرال حميدتي لقاعدة مطار مروي العسكرية كأول هدف عسكري لكسب حربه مع غريمه البرهان صدفة ولا مفاجأة فقد بنى خطته على أن الاستيلاء على القاعدة واحتجاز من فيها من الجنود المصريين الذين يعملون على الطائرات الحربية المصرية في القاعدة باتفاق رسمي بين البلدين يضمن له الفوز في الجولة الأولى للحرب.
السبب في ذلك كان واضحًا للغاية، ألا وهو رغبة حميدتي في تحييد مصر وشل قدرتها على التأثير في الأزمة إذ أن أرواح أبنائها من الجنود الشجعان سيكون بمثابة تقييد ليديها ورجليها. وهذا ما حدث حرفيًا.
لقد وضع حميدتي في ذهنه ٣ اعتبارات. الاعتبار الأول هو قناعته المطلقة بأن مصر إذا انحازت لطرف في الحرب، سيكون للجيش النظامي رمز الدولة السودانية وليس لميليشيات الدعم السريع غير النظامية ذات الطابع القبلي والمناطقي لغرب السودان وأجزاء من تشاد.
الاعتبار الثاني، أن مصر لديها تاريخ سابق خاصة في استخدام سلاح الجو في إفشال تمردات سابقة على الدولة السودانية مثل قصفها جزيرة آبا وقمعها لانقلاب هاشم العطا اليساري على النميري ١٩٧١.
والاعتبار الثالث، إن احتجاز قوات الدعم السريع للجنود المصريين هو رسالة لحلفاء حميدتي الإقليميين المعادين لمصر مثل إثيوبيا بأنه الحليف الأقرب لهم في السودان وأن عليهم أن يتدخلوا لصالحه إذا احتاج إليهم أو إذا غامرت مصر بالتدخل لصالح البرهان بأي صورة من الصور.
كان حميدتي هنا يلعب إقليميا بورقة سد النهضة، أي يجير لصالحه التصاعد الحاصل في الصراع المصري – الإثيوبي في السنوات العشر الأخيرة بسبب مشروع سد النهضة الذي يهدد حياة وأمن مصر المائي.
وكان أيضا يلعب محليًا بورقة قسم وازن من القوى المدنية التي قادت الحراك الثوري ضد البشير منذ ديسمبر ٢٠١٨ وهي القوى التي لم تستطع القاهرة التفاهم معها بصورة مقنعة واعتبرت هذه القوى – سواء كان ذلك دقيقًا أو غير دقيق – أن القاهرة وقفت في صف الانقلاب العسكري ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ الذي قاده البرهان وحميدتي عندما كانا حلفاء ضد الحكومة المدنية. وتحدثت وقتها واحدة من أقرب المسئولين آنذاك في الحكومة المدنية إلى القاهرة مثل مريم الصادق المهدي عن خذلان الحكومة المصرية للمكون المدني ورفض حتى الرد على اتصالاتهم لحصار الانقلاب أخلاقيا.
ثانيا: كيف سمحت حاجة مصر إلى المعونات والقروض والودائع الدولارية من الدول المانحة في الخليج للتمدد والتحكم فيما يدور في فنائها الخلفي؟
عاملان مركزيان شكلا سياسة مصر الخارجية المنكمشة والمنكفأة الواقعة في خانة رد الفعل وليس خانة الفعل منذ أول عجز عن سداد الديون الخارجية في عهد السادات 1975، هما الحاجة المزمنة للمانحين العرب والأجانب الذين يتكفلون بتقديم المساعدات والقروض الخارجية لسد الفجوة المزمنة في العملة الصعبة وبين الصادرات والواردات على مدى الـ٥٠ عامًا الأخيرة. والعامل الثاني، هي القيود الخانقة التي فرضتها معاهدة عملية السلام مع إسرائيل.
فالمعاهدة، لم تكتف بإنهاء دور مصر القيادي لأمتها العربية فحسب، بل حولته لدور “وظيفي ” في إطار الاستراتيجية الأمريكية.
ولكننا سنركز هنا على قيد الأزمة الاقتصادية كعامل كان تأثيره أكبر بكثير في القصة السودانية من عامل أو قيد معاهدة السلام المنفرد مع إسرائيل.
لا تمثل مصر الفناء الخلفي للسودان ولا يمثل السودان الفناء الخلفي لمصر فحسب وإنما السودان بصفة وصدفة موقعه الجيو سياسي بعروبته وإفريقيته معًا، تجتمع وتتجمع وتتكثف فيه حالة التدهور الحاصل في الدور المصري عربيًا وإفريقيًا في العقود الأربعة الأخيرة.
فمصر المحتاجة للغير لكي تطفو اقتصاديًا، سمحت للدول الخليجية وإسرائيل ناهيك عن الدول الغربية ذات النفوذ القديم في السودان بالاستئثار بالملعب السوداني والتلاعب بقواه القبلية والإثنية والمناطقية والمدنية والعسكرية.
وتم استغلال ضعف الدولة السودانية لخلق حلفاء لهذه الدولة الخليجية أو تلك، ولم يعد حج القوى السودانية السياسي يتم كما كان في السابق إلى القاهرة، وإنما إلى الرياض وأبو ظبي. تتحرك الإمارات حليفة مصر لدعم حميدتي رجل إثيوبيا المعادية لمصر وتضعف من وحدة موقف القاهرة والخرطوم في موضوع النيل شريان حياة مصر وتسعى للاستحواذ على ما تستطيع من ذهب السودان الذي يضع حميدتي يده على معظم مناجمه حتى لو كان الثمن هو تفكك الدولة السودانية بكل ما يحمله ذلك من خطر داهم على أمن ووجود مصر. خطر لن تعاني منه الإمارات أو أي دولة عربية تبعد عن السودان آلاف الأميال.
ولا تتفوق فقط استثمارات السعودية والإمارات على مصر جارة السودان، ولكن تتفوق عليها في النفوذ السياسي سواء على البرهان وحميدتي أو على القوى المدنية سواء بوجهها التقليدي مثل الأمة والاتحادي.. الخ.. أو بوجهها الحديث مثل قوى الحرية والتغيير والمهنيين النقابيين.
لهذا، لم تحتج مصر عندما شكلت لجنة رباعية لإدارة الأزمة بين المدنيين والعسكريين بعد الإطاحة بالبشير وضمت الإمارات والسعودية مع أمريكا وبريطانيا، وتم تجاهل ضم القاهرة إلى عضويتها. ولم تحتج عندما تجاهلتها الآلية الإفريقية الثلاثية للقضية السودانية.
ولم تحتج طبعًا عندما جرى أول تداول سياسي أمريكي في الأزمة بعد اندلاع الاشتباكات واحتجاز الجنود المصريين ليس مع المسئولين المصريين، وإنما بين وزير الخارجية الأمريكي ووزيري خارجية الإمارات والسعودية.
وتجلى التهميش للدور المصري في مساعي وقف إطلاق النار بين الجنرالين المتحاربين ومساعي التسوية السياسية للأزمة وحتي في جهود إجلاء الرعايا الأجانب خاصة الغربيين التي تطلبت مزايا لوجيستية كانت كلها لصالح مصر، لكنها ذهبت كلها لأطراف أخرى عربية خليجية وأطراف غير عربية أبعد جغرافيًا عن المسافة القصيرة نسبيًا بين مصر وشقيقتها السودان.