لم يكن في تقديري بالأسبوع الماضي أن يتجاوز طرحي لموضوع التنوير مقالًا واحدًا، تعمدت أن يكون على رأسه عنوان صِغْتُه في صورة تساؤلٍ تاركًا للقارئ الكريم حرية أن يراه كما يشاء استفهاميًا أو استنكاريًا، إلا أن حوارات مع بعض الأصدقاء أعقبت نشر هذا المقال قد أثارت شهيتي لمزيد من التدوين.
كان واحدًا من أهم هذه الحوارات قد دار حول ما يتعين على مجموعة المثقفين أداؤه من مهام في عملية التنوير الذى أفهمه -كنشاط إنساني مُتصل تاريخيًا- بكونه تخليصًا للعقل من أي وصاية للآخَر، وما هي آليات العمل الواجبة في هذا السياق.
كان الأمر يقتضي استدعاء تجربة التنوير الأوروبية -وبالتحديد الفرنسية- في القرن الثامن عشر باعتبارها الأحدث تاريخيًا، والأنجح من زاوية تحقق نتائجها واقعيًا على الأرض. مع بداية حركة التصنيع الكبرى التي اجتاحت أوروبا في ذلك الوقت تَبَدل واقع القارة العجوز، بتطور نمط الإنتاج مما أدى إلى تغيير طبيعة المجتمعات الأوروبية من مجتمعات بدائية ريفية يسيطر عليها النبلاء، ورجال الدين بأفكارهم الأصولية بالغة التشدد إلى مجتمعات متقدمة تزخر بالورش، والمصانع والآلات الحديثة التي يديرها رجال مال وأعمال وصُناع يحملون أفكارًا تقدمية نوعًا ما، فانتقل التأثير في المجتمع -بدفعٍ من تغير موازين القوى والثروة- من الطبقة الإقطاعية المُتحفظة الانغلاقية إلى الطبقة البورجوازية الأكثر مرونة وانفتاحًا، بالإضافة إلى ما صاحب ذلك من تَنَامٍ تدريجي في دور الطبقة العاملة بحُكم الضرورة التي اقتضتها عملية التصنيع في بداياتها، مما ساهم في ترسيخ أثر تلك الطبقة في ضوء ما طرحته الثورة الفرنسية من شعارات الحرية والإخاء والمساواة.
من هنا كانت البداية الحقيقية للتنوير في أوروبا تفعيلًا للتراث الفكري التنويري العظيم الذى سبق تلك المرحلة زمنيًا، فقامت الطبقة البورجوازية والطبقة العاملة الناشئتين حديثًا بدعم الثورة الفرنسية وشعاراتها للتغيير، لينحسر دور الإقطاعيين، وحلفائهم الأصوليين إلى أن تلاشى بكل ما يحمله من قيمٍ تقليدية؛ لتحل محلها قيم أخرى تتماشى مع التغيير الذى أصاب التركيبة الاجتماعية.
في لحظة من لحظات تاريخ فكرنا العربي، أُسدِل الستار فأوقف مسار تيارٍ عظيم الأثر على الفكر الإنساني برمته، لينشأ تدريجيًا جدار ثقافي هائل تنامى وتعددت طبقاته، فتراكمت تحت ظله عبر القرون حواجز من الموانع، والعوائق حالت دون مواكبة التقدم فخمد وهج العقل العربي واندثرت فضيلة التفكير الحر.
وقف الجدار الثقافي الهائل على الشاطئين الشرقي والجنوبي للمتوسط حائلًا، دون استقبال أفكار التنوير في صيغتها الحديثة التى انبعثت من شاطئه الشمالي في القرن الثامن عشر، وما تلاه باستثناء قليل من الثغرات التاريخية تمكن بعض مفكرينا الحديثين -إن صح الوصف- في مطلع القرن الماضي من استغلالها بطروحاتٍ، كادت أن تؤتى أُكُلها، إلا أن هذا الجدار الهائل الذي تدعمت ركائزه، وترسخت علاقاته بمرور الزمن بسبب ما نشأ من تحالفٍ بين كل من الفكر الأصولي المتشدد، والبورجوازية العربية الانتهازية والاستعمار الأجنبي، ونظم الحكم المتعاقبة ذات الطبيعتين الثيوقراطية والأوتوقراطية، حال دون تطور تلك الأفكار للمستوى المطلوب من خلال تعطيل فِعل العنصرين المساعدين: التاريخ والجغرافيا، فأُحبِطت المحاولات التالية لمفكرينا الحديثين الجدد، منذ منتصف القرن الماضي في استعادة روح إشراقات التنوير.
في هذا السرد التاريخي المبسط، لا يمكنني أن أجد من الأعذار ما يتلائم مع تخاذل البورجوازية العربية خلال القرن العشرين -باستثناء ربعه الثالث الذى انزوت خلاله مؤقتًا في جُب التاريخ- في الاضطلاع بمهام التنوير، حيث لم تَحِل محل الطبقة الإقطاعية -كما حدث في أوروبا- إذ وُلدت بورجوازيتنا العربية داخل رحم الإقطاع، فكانت امتدادًا طبيعيًا له بنفس رموزه وبذات قِيَمِه، ليحدث نوع من التعايش بينهما دعم فيه كل منهما الآخر، فلم ينشأ أي تركيب اجتماعي جديد يحمل قيمًا ثقافية مختلفة رغم بعض الإشراقات فردية الطابع.
عادت البورجوازية العربية للظهور ثانية مع بداية الربع الأخير من القرن العشرين، لكنها تحالفت هذه المرة بشكلٍ أكثر وضوحًا مع أصحاب الفكر الأصولي المتشدد المدعوم ماليًا من مجتمعات مُغايرة، تسعى اليوم للخروج من العتمة، فلم تحجم تلك بورجوازتنا فحسب عن الاضطلاع بمهام التنوير، بل شاركت فعليًا في القضاء على النذر اليسير مما تبقى من أفكاره للدرجة التي وصلت؛ لأن تُطرح على طاولات النقاش الثقافي موضوعات تجاوزها الزمن فعليًا، فإذا بها تُطل علينا في مفارقة تاريخية لا مثيل لها أفضت في نهاية الأمر إلى سيطرة الأصوليين على حكم مصر، وهو أمرٌ لم يكن ليحدث دون أن يكون مدعومًا بِفِكرٍ توارثته الأجيال باعتباره المقدس الوحيد، رغم كونه مجرد فكرٍ إنساني صنعه البشر في ظروف زمن مختلف، وهو بهذا المفهوم يقبل بل ويستوجب النقد والنقض، فباتت النظرة العامة لأي محاولة فكرية مختلفة للتغيير إعمالًا للعقل محكومٌ عليها بالهرطقة والنبذ على أقل التقديرات. منذ ما يزيد عن القرن من عُمر الزمان (نعم ما يزيد عن المائة عام)، أصدر المرحوم الإمام محمد عبده كتابه الأهم “الإسلام بين العلم والمدنية”، الذي جاء فيه نصًا في باب تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض كأحد أصول الإسلام: “اتفق أهل الملة الإسلامية، إلا قليلًا ممن لا يُنظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقى في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه، وطريق تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة، حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل”، أين نحن الآن من فِكرِ الإمام؟
أحسب أن المسألة تقتضى بالدرجة الأولى ضرورة تحديد المهام المطلوب إنجازها بدقة، كمتطلباتٍ عمليةٍ قابلةٍ للتنفيذ لأجل الخروج من المأزق التاريخي للعقل العربي. وأظن أن تفكيكًا علميًا هادئًا بدأبٍ ودون ضجيج لتراثنا الثقافي، قد صار واحدًا من أولى تلك المهام من خلال إعادة الاعتبار لدراسات علماء التنوير العرب، منذ المرحوم الشيخ رفاعة الطهطاوي وحتى هذه اللحظة في ضوء منجزات العلوم الإنسانية، وعلى رأسها الفلسفة والبحث العلمي المُحايد المجرد، وهي مهمة أرى ضرورة أن تتشارك في أداءها أطراف عديدة، تأتي جماعة المثقفين في طليعتها للانعتاق من فكر الظلام صوب مفاهيم تأسيسية، كالمساواة والمواطنة والعدالة، ومن ثم التجهيز للانطلاق صوب أنوار الحضارة بعدما أخفقت البورجوازية العربية في الاضطلاع بهذه المهمة، للأسباب التي أوردتها بهذا المقال وبمقالي السابق.
ولعل الفرصة الآن قد صارت سانحة مع البدء الفعلى بعملية “الحوار الوطني”، الذي سترى فعالياته النور بعد غدٍ بإذن الله، وقد أُدرِجَت على جدول أعمال لجنته الثقافية موضوعات تشمل “المؤسسات والسياسات الثقافية، والصناعات الثقافية من السينما والمسرح والدراما والموسيقى، والنشر والترجمة ودعم الإبداع”، بالإضافة إلى موضوعات أخرى أُدرِجَت على جدول أعمال لجنة التعليم والبحث العلمي تشمل “إعادة هيكلة مؤسسات البحث العلمي بتطويرها من خلال تحديد أولوياته، وإزالة معوقاته، ورسم استراتيجيته على المستوى القومي”.
وأنت إن أخذت بالاعتبار موضوعات أخرى ذات صلة أُدرجت على جدول أعمال لجنة حقوق الإنسان، والحريات العامة من قبيل “العقوبات السالبة للحريات في قضايا النشر، والالتزام بنص المادة 53 من دستور 2014 المتعلقة بإنشاء المفوضية المستقلة؛ للقضاء على كافة أشكال التمييز”، ستدرك أهمية اللحظة التي تفرض ضرورة التمسك بعملية “الحوار الوطني”، كفرصة تاريخية لا يجوز إهدارها بأي عُذرٍ كان.
**الصفحة 128 من كتاب “الإسلام بين العلم والمدنية”- الطبعة الأولى الصادرة في 2011 عن دار الشروق.