ليس هدف هذا المقال الحديث عن الضمانات -برغم أهميتها- التي يجب أن تتوفر في انتخابات الرئاسة المصرية 2024 بما يحقق نزاهتها، وشفافيتها والمنافسة العادلة بين مرشحيها، ولا عن أهداف الخوض في مواصفات وشخص المرشح المحتمل ولا المرشح المفاجأة ذي الخلفية العسكرية أو المدنية – برغم ضرورة ذلك لنشهد مباراة في الدوري الإنجليزي لا الدوري المصري، ولا الحديث عمن أعلن ترشحه بغض النظر عن قدرته على تقديم مشروع بديل لصيغة الحكم والاقتصاد القائم، وليس من هدف المقال -أيضا- كيف يمكن للحوار الوطني أو السياسي الذي سينطلق بعد أيام أن يساهم في تهيئة الأجواء لهذه الانتخابات؟ ولا من هدفه الحديث عن مصالح وتطلعات الأطراف الإقليمية والدولية فيها.. إلخ
يهدف المقال أن يناقش: كيف سيكون حال مصر المجهدة عند لحظة فتح باب الترشح؟ وفي أثناء العملية الانتخابية، وعند حلف الرئيس القديم أو الجديد لليمين؛ لبدء ولايته التي تستمر لست سنوات.
هنا يصبح السؤال هل نصل سالمين إلى لحظة الانتخابات الرئاسية المتوقع أن تبدأ بعد ثمانية أشهر؟ -خاصة أن الإنهاك أو الإجهاد طال مصر كلها -الدولة والنظام والمجتمع وبالطبع الفاعلين في الاقتصاد والسياسة أيضا.
لقطات خمس
اللقطة الأولى: الفقر يزيد والغذاء يقل
أدى تخفيض قيمة العملة نتيجة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي في 2016 إلى زيادة نسب الفقر بين المصريين بحوالي 5% تقريبا؛ إذا ارتفعت من 27.8% إلى 32.5% بما يعنيه ذلك من وقوع حوالي خمسة ملايين مصري في براثن الفقر.
تنتهي أحدث دراسة عن كيف يعيش الفقراء في ظل الغلاء؟
إلى أن الفئات الأكثر فقرا لا تتأثر بارتفاع الأسعار فقط؛ لمحدودية دخولها عموما، ولكن لأن أكثر السلع ارتفاعا في الأسعار كانت السلع الغذائية. وصلت نسبة زيادتها إلى 61.5 في المائة في فبراير الماضي، وهي التي قادت زيادة المؤشر العام لأسعار المستهلكين، وشهدت معظم مجموعات الغذاء الرئيسية زيادات كبيرة على رأسها الحبوب، والخبز واللحوم والدواجن والألبان والجبن والبيض.
تشير أحد البحوث المسحية التي أجريت بعد التعويم الجزئي للجنيه في مارس 2022، والمتوقع أن نشهد مزيدا منه تحت مسمى سعر صرف مرن- إلى تراجع استهلاك 85% من الأسر المصرية من اللحوم، وخفضت 75% منها استهلاكها من البيض و73% منها استهلاك الدواجن، و61% منها الأسماك، و60% منها قللت استهلاكها من اللبن.
عللت النسبة الأكبر من الأسر هذا التخفيض في الاستهلاك؛ بارتفاع الأسعار.
في المقابل تتجه الأسر الفقيرة إلى استبدال بعض العناصر الغذائية الأخرى أقل تكلفة، وأقل كذلك في القيمة الغذائية -كما يوضح المسح- فالسلعتان اللتان زادا استهلاكهما هما: البطاطس وأنواع من المكرونة.
رأينا أن يقتصر رصدنا على الغذاء فقط برغم ما تشهده الاحتياجات الأساسية الأخرى من صحة، وتعليم من زيادات كبيرة نتيجة التضخم الذي يعد أحد مسبباته؛ هو تراجع قيمة الجنيه أمام العملات الأخرى.
سيزيد النظام في موازنة العام القادم من مخصصات برامج الحماية الاجتماعية، والدعم بنسبة ٥٠٪، لكن التضخم الذي يلقي بوطأته علي حياة المصريين، سيقلل إلى حد كبير من تأثير هذه الزيادات.
اللقطة الثانية: الاتفاق مع الصندوق
ثلاثة عناصر أساسية في الاتفاق الأخير مع صندوق النقد الدولي -ديسمبر 2022- وهي: دور أكبر للقطاع الخاص ينتج عن بيع مزيد من أصول الدولة المصرية، وانسحاب المؤسسات التي يطلق عليها سيادية من الاقتصاد، وسعر صرف مرن.
استدعى التأخر أو عدم الجدية، أو بالأحرى عدم التوافق بين مؤسسات الدولة حول هذه البنود مع إدراك تداعياتها على الاستقرار الذي هو أحد أهم ركائز النظام، استدعى ذلك، تأجيل المراجعة الدورية التي كان يعتزم أن يقوم بها الصندوق مارس الماضي، لكن الأهم أن الفجوة التمويلية التي كانت يمكن أن تملأ.
بتطبيق هذه السياسات باتت محل شك (قدرتها بعض المؤسسات بـ17مليار دولار العام المالي الحالي، وتصل إلى27 مليارا العام المالي القادم)، مما دفع أحد مؤسسات قياس المخاطر إلى تغيير تصنيف مصر الائتماني من مستقر إلي سلبي، بما يعنيه من زيادة تكاليف الاقتراض الذي يعد أحد المرتكزات الأساسية للصيغة الاقتصادية التي باتت تحكم عمل الدولة المصرية، والتي سيكون لها تداعياتها المستقبلية -بغض النظر عمن يسكن القصر الرئاسي.
إن تخفيض قيمة الجنيه المصري تدفع تكاليف التصنيع المحلي نحو الزيادة؛ إذ يوضح مؤشر مديري المشتريات التراجع العميق والمستمر للمؤشر الرئيسي لنشاط الأعمال على مدار الشهور الماضية.
يواجه بيع الأصول المصرية عقبات كثيرة أقلها عدم الوصول إلي سعر “عادل”، للجنيه من منظور المشترين، لكن على ما يبدو فإن هناك مؤسسات داخل الدولة المصرية – علي أقل تقدير- غير متحمسة لهذا البيع وبهذا الشكل، وأيًا كانت دوافعها: انحيازا للوطنية المصرية، أو دفاعا عن مصالحها أو تلبس الأولى بالثانية أو تدثر الثانية بالأولى- فإن توفير فجوات التمويل ستكون معضلة ساكن القصر الرئاسي القديم أو الجديد؛ حتي يجري الوصول إلى صيغة جديدة تحكم الاقتصاد بخلاف ما جرى علي مدار السنوات العشرة الماضية، والتي لن يكون من بينها مزيدا من الإنفاق على المشاريع الكبرى التي بات من الحتمي إبطاؤها -وفق تصريح مديرة الصندوق -أبريل الجاري.
اللقطة الثالثة: مزيد من القمع
في اتفاق صندوق النقد الأخير جرت مراجعة بعض محددات الصيغة الاقتصادية، التي حكمت عمل النظام على مدار السنوات العشرة الماضية، ولكن على ما يبدو – وبرغم قرب انعقاد الحوار الوطني- فإن الصيغة السياسية غير مطروحة للمراجعة. صحيح أن الأزمة الاقتصادية كانت يمكن أن تمثل مدخلا لاستعادة السياسة؛ خاصة إذا اعطيت قوة دفع في الانتخابات الرئاسية، لكن الإجهاد الذي طال الجميع مع غياب الرؤية حول ضرورة ربط الاقتصاد بالسياسة التي انتجته، يجعل احتمال استعادة السياسة من هذا المدخل محدودا.
ساكن القصر القادم أيا كان- سيواجه ضعفا أو تآكلا لمؤسسات الدولة، وتبديدا للميراث التاريخي الذي حكم الدولة المصرية على مدار عقود وهو قيام مؤسساتها بالحد الأدنى من وظائفها بغض النظر عمن يشغل منصب الرئيس فيها.
هيمنت الهواجس الأمنية علي عمل المؤسسات، وهو ما يمكن تفهمه في لحظة تهددت فيها مقومات الدولة بعد 2013 ولكن استمراره وتغوله وتحوله إلى فائض قمع، وهيمنة أضعف هذه المؤسسات، وهو ما برز جليا في أزمة السودان التي غاب عن التفاعل معها المجتمع المدني بمؤسساته الإغاثية، والإعلام بالتغطية ورسم الخرائط، ومراكز التفكير بإنتاج الرؤى والتصورات …إلخ.
وإذا كان النظام لا يملك إلا القليل؛ ليستثمره في معالجة الأزمة الاقتصادية والتخفيف من حدتها، فإنه على ما يبدو لا يريد أن يستثمر ما تبقى له من موارد سياسية، مستشعرا أن فتحه ولو بابا مواربا من حرية في المجال العام، وحرية الإعلام وإطلاق سراح المعتقلين وتعديل في بعض القوانين.. كل هذا من شأنه أن يفتح باب المطالبات بالمزيد، التي ستكون سبيلا لاستعادة يناير من جديد.
سيندفع النظام إلى مزيد من القمع بغية الحفاظ على الوضع القائم خاصة؛ أنه لا يملك فائض سياسة ولا فائض اقتصاد أو موارد سياسية واقتصادية، فقد استنزفها كلها، ولم يتبق له غير فائض القمع الذي يوجهه نحو السياسيين بالحبس، ونحو الفئات الاجتماعية الأكثر فقرا بالسياسات النيوليبرالية.
اللقطة الرابعة: معارضة لا تملك الكثير؛ لتغيير قواعد اللعبة التي باتت معقدة بما يفوق قدرتها على التخيل ناهيك عن الفعل.
القواعد ترسم في الداخل والخارج معا، وإلا بالله عليكم ما الموقف من استحواذات الخليج، والعلاقة مع إسرائيل والولايات المتحدة؟ وتتشابك فيها المؤسسات -مؤسسات الدولة مع القطاع الخاص المحلي مع شبكات المصالح الدولية والإقليمية.
ترسم القواعد في بيئة تتسم بعدم اليقين الاستراتيجي الذي نشهده في تحولات هيكل النظام الدولي، وتغير طبيعة الاقتصاد، وتغير هياكل الدولة التي تحولت إلى شبكات متعددة بما لا يمكن معه الحديث عن تماسكها، ولن أتحدث عن الأجيال الشابة في مصر -تصوراتها وأحلامها وتطلعاته وثقافتها.
ستظل المعارضة المصرية مستقطبة منقسمة على ذاتها، وستزيدها الانتخابات الرئاسية انقساما حول المشاركة من عدمها، وحول المرشح الذي يحسن اختياره والأولى بالتأييد فيهم … إلخ، والأخطر أنها لا تملك تصورا لما بعد الانتخابات -إن فازت أو خسرت، ففي إدراكي أن الحركة السياسية يمكن أن تكتسب قوة دفع فيما بعد الانتخابات بمقدار استعدادك وأدائك فيها أيضا. هذا ما فهمه النظام فمنع مقدماته -كما أشرت في اللقطة السابقة.
اللقطة الخامسة: عدم يقين يتطلب مرونة استراتيجية
لن تكون الحرب في السودان آخر الحروب في الإقليم، ولن تكون الحرب الأوكرانية آخر حروب العالم، ولكن يكون التنافس الأمريكي الصيني هو ما يحكم العالم بل هناك الهند الصاعدة، واليابان وألمانيا المسلحة، والمصالحة أو الاتفاق السعودي الإيراني، وتركيا ما بعد أردوغان أو في ولايته الجديدة، وإسرائيل المنقسمة التي يحكمها اليمين الديني المتطرف، وساحات مقاومتها التي تتكامل وتتداخل، والخليج الذي تستعد دوله لمرحلة ما بعد النفط، وتعيد صياغة هويتها الوطنية على أسس تقوم علي مصلحتها أولا.. يمكن أن استرسل في تعداد العوامل الهيكلية، التي ستعيد رسم ملامح العالم الجديد من تطورات تكنولوجية وذكاء اصطناعي وتغير مناخي وتصاعد لصراع الهويات -وهو ما أشرت إلى بعض ملامحه في مقالات عديدة؛ ولكن ما أحب أن أؤكد عليه إن القادم الجديد أو القديم لقصر الاتحادية يجب أن يتعامل مع بيئة جديدة، وفق أدوات جديدة وأفكار جديدة ونخب جديدة ومؤسسات جديدة، ولا أدري ما الذي يتوفر منها في مصر المنهكة المجهدة؟!
تبقي نقطتان:
الأولي: وهي أن اطرافا داخلية وفي الإقليم تستثمر في الإنهاك، لمصالح عدة ليس مجال الخوض فيها الآن، لكن الإجهاد الوطني بيئة مثالية لقتل السياسة، وتغلغل النفوذ الخارجي، وخلق قناعة لدى المصريين بأنه ليس هناك أفضل مما هو قائم، وبالتالي بلوغ 2024 دون تكلفة حقيقية للسلطة والمعارضة.
الإنهاك يعطل أي تغيير محتمل، لكن تداعياته المستقبلية ستكون خطيرة على المجتمع والدولة والإقليم على السواء.
الثانية: لا يهدف المقال إلى مصادرة الحديث العملي في مسائل الانتخابات، أو بث التشاؤم في نفوس المصريين -فهم يملكون منه الكثير؛ ولكن محاولة لوضع أجندة مختلفة للتفكير فيها من قبيل:
- ما تداعياتها علي مقومات حياة المصريين الأساسية من مأكل وتعليم وصحة؟
- كيف سنتعامل مع مشكلة الديون التي ستكبل أي ساكن لقصر الاتحادية؟
- كيف سنفكك بنى القمع التي ترسخت في جنبات البيروقراطية المصرية، واستخدم فائضه وسيستخدم ضد المواطن العادي قبل المعارض السياسي؟
- كيف نعيد رسم قواعد اللعبة التي باتت تحكم الاقتصاد والسياسة والمجتمع معا؟
- وأخيرا وليس آخرا؛ كيف نتعامل مع عالم جديد لا نعرفه، وتتشكل ملامحه الآن في الاقتصاد قبل السياسة، وبالتكنولوجيا قبل الثقافة؟
- فبدون الخوض في هذه القضايا وغيرها ستزيد الانتخابات الرئاسية مأزقنا ولن تساهم في إخراجنا منه.