في الآونة الأخيرة، تواجه إسرائيل أزمة سياسية وقضائية داخلية غير مسبوقة، بعد محاولات حكومة الائتلاف اليميني المتطرف، بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لتمرير ما أسماه بـ “إصلاح قضائي” مثير للجدل، يهدف إلى إضعاف سلطة المحكمة العليا في عملية صنع القرار.

في مقالهما المنشور في The National Interest، يشير زكي شالوم وصوفيا شميدت، الباحثان في معهد دراسات الأمن القومي/ INSS في تل أبيب، إلى أن العديد من الإسرائيليين ينظرون إلى المحكمة العليا في البلاد على أنها منارة لحقوق الإنسان والليبرالية. ومع ذلك، يرى آخرون أنها مؤسسة غير ديمقراطية تتمتع بسلطة كبيرة.

وقد اشتمل الإصلاح القضائي الذي طرحته حكومة نتنياهو على خطط للحد من سلطة القضاء بعدة طرق. منها، طلب أغلبية بسيطة في الكنيست -البرلمان الإسرائيلي- لنقض قرارات المحاكم، وزيادة تمثيل الحكومة في لجنة تعيين قضاة المحكمة العليا، وإلغاء المتطلبات القانونية التي توجب على الوزراء الانصياع لنصائح المستشارين القانونيين بتوجيه من النائب العام.

أصبحت العلاقة متوترة خلال الأشهر الماضية حتى دفعت إدارة بايدن إلى تغيير خطابها تجاه إسرائيل

يقول الباحثان: كان رد الفعل على الإصلاح المقترح غير مسبوق في التاريخ الإسرائيلي، فقد اندلعت احتجاجات حاشدة في جميع أنحاء البلد، حيث تدفق ما يصل إلى مائتي ألف شخص إلى الشوارع في تل أبيب، وأكثر من نصف مليون آخرين في جميع أنحاء المدن الإسرائيلية.

كما دعا اتحاد نقابات العمال -الهستدروت- الإسرائيلي إلى إضراب في جميع أنحاء البلاد. كذلك توقف 750 من جنود الاحتياط  عن الرد على استدعائهم للتدريب.

أيضا، حذر ضباط الاحتياط والجيش من شعبة العمليات الخاصة بالمخابرات العسكرية الإسرائيلية في رسالة مفتوحة من أن “التشريع المعني سيدمر كل ما خدمناه وكافحنا من أجله. لن ندع ذلك يحدث”.

اقرأ أيضا: التطبيع السعودي مع إسرائيل.. لن نشاهد “السادات” في القدس مجددًا

لذلك، أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، مساء الاثنين 27 مارس/ آذار، تجميدا مؤقتا للتشريع.

وبغض النظر عن التداعيات السياسية الداخلية، توقع شالوم أن تكون العواقب الاستراتيجية والسياسية طويلة المدى على العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وكذلك على مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

علاقة راسخة

كانت علاقة إسرائيل مع أمريكا تاريخياً مهمة، حيث كانت الولايات المتحدة حاسمة في ضمان أمن وسلامة إسرائيل في الشرق الأوسط وبقية العالم، وذلك منذ نشأة دولة الاحتلال في الأراضي الفلسطينية.

ومع ذلك، فقد أصبحت العلاقة متوترة خلال الأشهر الماضية، حتى دفعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى تغيير خطابها تجاه إسرائيل.

يقول شالوم وشميدت: كانت التصريحات الصادرة عن الإدارة توبيخًا بشكل متزايد، وتتدخل في السياسة الداخلية الإسرائيلية. هذا أمر غير معتاد إلى حد كبير، لأن الولايات المتحدة -عادة- لا تفعل ذلك علانية تجاه الحلفاء، وتاريخيا، تبنت الإدارات الأمريكية هذه السياسة تجاه إسرائيل.

يضيفان: هذا التغيير حدث نتيجة لعدة عوامل، بما في ذلك الضغط من الجالية اليهودية الأمريكية -التي كانت داعمة جدًا لمعارضة حكومة نتنياهو- والشخصيات التقدمية الراديكالية داخل الحزب الديمقراطي والكونجرس، التي تمارس ضغطًا قويًا على الإدارة، لاتخاذ موقف واضح ضد الإصلاح القضائي المقترح.

وخلال مكالمة بين بايدن ونتنياهو، أكد الرئيس الأمريكي “إيمانه بأن القيم الديمقراطية كانت دائمًا، ويجب أن تظل، سمة مميزة للعلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وأن المجتمعات الديمقراطية تعززها ضوابط وتوازنات حقيقية، وأن التغييرات الأساسية يجب متابعتها بأوسع قاعدة ممكنة من الدعم الشعبي”.

وبعد لقائه مع نتنياهو في 30 يناير/ كانون الثاني، أعلن وزير الخارجية أنتوني بلينكن أن “العلاقة بين بلدينا، ما نعود إليه مرارًا وتكرارًا هو أنها متجذرة في المصالح المشتركة والقيم المشتركة. ويشمل ذلك دعمنا للمبادئ والمؤسسات الديمقراطية الأساسية “.

لم يمر هذا الموقف القوي تجاه إسرائيل دون أن يلفت الانتباه وتعرض لانتقادات واسعة ، بما في ذلك من قبل عضو الكنيست اليميني ووزير البعثات الوطنية أوريت ستروك ، الذي غرد بالعبرية: “عزيزي السيد بلينكن ، أفهم أنك قررت تقديم درسا في الديمقراطية. حسنًا، الديمقراطية هي أولاً وقبل كل شيء واجب الدولة في تحديد مسارها وفقًا لأصوات مواطنيها، حيث يتم منح كل منها وزنًا متساويًا، دون تدخل أجنبي”.

توتر متزايد

منذ التجميد (المؤقت) للإصلاح القضائي، ازداد التوتر بين واشنطن وتل أبيب.

في 28 مارس/ آذار، أعلن بايدن أن نتنياهو لن يتلقى دعوة إلى البيت الأبيض “على المدى القريب”. وقال للصحفيين “مثل العديد من المؤيدين الأقوياء لإسرائيل، أنا قلق للغاية. أنا قلق من أنهم يحصلون على هذا بشكل صحيح. لا يمكنهم الاستمرار في هذا الطريق. لقد أوضحت ذلك نوعًا ما”.

بالتزامن، وصف وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش الولايات المتحدة مؤخرًا بأنها “مسيئة ومقلقة وخطيرة”. ويشير الباحثان إلى أن “مثل هذه التعليقات غير مسبوقة”. بالإضافة إلى ذلك، فإنها تتزامن مع فترة من الأمن الداخلي والخارجي الهش في البلاد، حيث تصادفت مع  أعياد الفصح ورمضان.

كما أن نتنياهو نفسه انتقد بشدة إدارة بايدن، مؤكدا أن “إسرائيل دولة ذات سيادة تتخذ قراراتها بإرادة شعبها وليس على أساس ضغوط من الخارج، بما في ذلك من أفضل الأصدقاء”.

ومع ذلك، تجد إسرائيل نفسها الآن في موقف غير آمن، حيث تفقد الدعم السياسي والعام من واشنطن، وتتحرك ببطء نحو الدعم الاقتصادي والسياسي والأمني المتناقص من حليفها الأقدم والأقوى “وهذا يشكل تهديدا بشكل خاص في ضوء صعود إيران كقوة نووية “، وفق شالوم.

يقول التحليل: قوبل التدخل الأمريكي القاسي في الشؤون الداخلية لإسرائيل بإدانة جريئة من داخل الدولة. بدلاً من إضعاف الحكومة الإسرائيلية ونتنياهو، نشطت تصريحات إدارة بايدن، مؤيدي نتنياهو داخل كل من الجمهور والائتلاف الحكومي. حتى الشخصيات السياسية في الوسط واليسار أعربت عن كراهية لسياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل.

ومن المتوقع أن يكون لذلك نتائج حاسمة فيما يتعلق بمكانة أمريكا في الشرق الأوسط بشكل عام، والعلاقة الأمريكية- الإسرائيلية بشكل خاص.

يضيف: تعرضت صورة الولايات المتحدة، كقوة مصممة على دعم حلفائها -مع احترام عملياتهم السياسية الداخلية والامتناع عن التدخل في شؤونهم الداخلية- لضربة قوية.

تسبب الإصلاح القضائي والاحتجاجات الإسرائيلية في وضع غير مسبوق لم تتضح عواقبه على المدى الطويل بعد

اقرأ ايضا: المحكمة العليا الإسرائيلية تحمي العنصرية والتطهير العرقي وقتل الفلسطينيين

تداعيات رئيسية

أشار شالوم وشميدت إلى أنه يجب على الحلفاء الموالين لأمريكا في العالم العربي -مثل السعودية ودول الخليج والأردن ولبنان- أن يأخذوا في الاعتبار أن الولايات المتحدة قد ترغب في المستقبل في التدخل في شؤونهم الداخلية. ولا سيما فيما يتعلق باستعدادهم لتبني إجراءات ديمقراطية، ومواكبة قضايا حقوق الإنسان، ومعاملة الأقليات. وهذا سيجعلهم يفكرون مليًا فيما يتعلق بتعهدات الولايات المتحدة بالدعم في حالة وجود تهديدات حقيقية وملموسة لأمنهم من قبل القوى المتطرفة، ولا سيما إيران.

ووفق التحليل، سيكون لسلوك الولايات المتحدة في الاضطرابات الداخلية الأخيرة نتيجتان رئيسيتان في إسرائيل.

أولاً، أنها كشفت حدود قوة الولايات المتحدة في مواجهة إسرائيل. حيث أدركت واشنطن أن اعتماد إسرائيل على الولايات المتحدة لا يمنعها من توضيح أنها لن تتسامح مع تدخل أمريكي مفرط في شؤونها الداخلية.

علاوة على ذلك، في هذه المرحلة “أصبح من الواضح أن التدخل الأمريكي في دعم معارضة حكومة نتنياهو ليس له تأثير حقيقي على سياستها، إذ تبدو الحكومة الإسرائيلية -أكثر من أي وقت مضى- مصممة على تنفيذ الإصلاح القضائي”.

ثانيًا، ستؤدي التصريحات ضد نتنياهو بالتأكيد إلى إضعاف صورة الولايات المتحدة “كوسيط نزيه” في عملية سلام تؤدي إلى تسوية الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني.

يقول الباحثان شالوم وشميدت: لقد أصاب هذا الخطأ الفادح سلطة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وسيجعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لواشنطن للمضي قدمًا في مبادرة سلام أمريكية في المنطقة.

يأتي ذلك، جنبًا إلى جنب، مع انعدام الأمن العام بشأن القيادة الأمريكية العالمية، في ضوء جهود واشنطن الفاشلة لردع روسيا عن مهاجمة أوكرانيا، والحقبة التي قادها دونالد ترامب “الرئيس الأمريكي السابق”، والانسحاب الأمريكي الكارثي من أفغانستان.

وأكدا أنه “بشكل عام، تسبب الإصلاح القضائي والاحتجاجات الإسرائيلية في وضع غير مسبوق، لم تتضح عواقبه على المدى الطويل بعد”.