قبل أقل من عامين، كشفت فرنسيس هوجن، وهي عالمة بيانات ومهندسة برمجيات أمريكية، ومديرة سابقة في فيسبوك عن عشرات الآلاف من وثائق فيسبوك الداخلية، لهيئة الأوراق المالية والبورصة وصحيفة وول ستريت جورنال، ثم عدد من البرامج الأميركية المعروفة، أبرزها برنامج “60 دقيقة”، الشهير أوضحت الوثائق التي كشفتها هوجن، وهي أيضا موظفة سابقة في جوجل قبل أن تنتقل إلى فيسبوك في 2018، أوضحت ما كان يتشكك فيه الكثيرون من قبل بالفعل، من أن “خوارزميات فيسبوك”، (والخوازميات هي مجموعة الخطوات الآلية التي تحل مشكلة ما على غرار البحث على الإنترنت، أو فرز الوثائق، أو جدولة المواعيد)، هي ليست خوارزميات عفوية أو بريئة أو تلقائية، فهي مصممة بالدرجة الأولى لصنع أكبر قدر ممكن من التفاعل، بغض النظر عن تأثير ذلك التفاعل على نشر خطاب الكراهية والعنف، أو الصحة العقلية للمراهقين، أو المعلومات المضللة، وغيرها من الموضوعات الخطرة، بل كشفت فرنسيس عن أن فيسبوك أوقف برنامج “النزاهة المدنية”، الذي كان مخصصا لكبح التضليل في المعلومات والتهديدات الأخرى لأمن الانتخابات، وذلك بعد نهاية انتخابات الرئاسة 2020 التي فاز بها الديمقراطي جو بايدن. ليس ذلك فحسب، بل كشفت المبرمجة عن أن فيسبوك يمنح معاملة تفضيلية ومميزة للحسابات ذات الشهرة، أو التأثير الكبير، فلا يُلزمها بنفس السياسات “الأخلاقية”، التي يلزم بها “صغار”، المستخدمين، أو المستخدم العادي.

ما كشفته فرنسيس، أكد بالمعلومات ما كان الكثيرون يشعرون به بواسطة الحدس والتجربة الشخصية، إذ يمكن بسهولة ملاحظة أن خطاب الكراهية، والآراء المحرضة والتنمر الإلكتروني ينتشر بسهولة، واتساع أكثر بكثير مما تنتشر به الخطابات التي تخلو من كل ذلك، وقد علمنا جميعا تلك التعليقات الكارهة القليلة، التي تحصل على اهتمام هائل على الرغم من أنها وردت بين آلاف التعليقات الإيجابية والإنسانية. جاءت الوثائق التي كشفتها فرانسيس فقط؛ لتقول إن إحساسكم لم يكن مجرد انطباع، إن له أسبابا واقعية.

وحتى من غير وثائق فرنسيس، وانطباعاتنا الشخصية، فإننا نعرف أن للتفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي طابعا، قد يجوز وصفه بالعدمي، إنه الوجه الآخر للعدالة العمياء، هذه المرة يكمن العمى في فكرة التفاعل، التي لا  يهمها إن كنت توافق على “المنشور”، أم ترفضه، فهو ينتشر بمجرد تفاعلك معه. وككائنات عاطفية، يتحكم فيها الانفعال متشجعة بالاختباء وراء الشاشات والكيبورد، راغبة في إثبات التفوق الأخلاقي، فإن المواد الصفراء، والغبية، تجذبنا أكثر، إننا إن لم نوافق عليها، نندفع لنعلن رفضنا إياها، فنمنحها انتشارا أوسع. إنه درس يعيه حتى بعض الإعلاميين بعيدا عن الإنترنت، فيفضلون أن يظهروا في صورة الغبي أو المستفز؛ ليحققوا الجدل فالانتشار ومن ثم الأموال، عن أن يكونوا “عاقلين”، وموضوعيين فيبقون على هامش النقاش، في عصر تحولت فيه السوشيال ميديا من مرآة للواقع المادي إلى صانعة لرأي عام ينعكس تاليا في برامج التلفاز، وحتى في زمن ازدهار الصحافة الورقية، كثيرا ما خبر الصحفيون مكالمات الأشخاص الذين يطلبون الاهتمام، حتى لو من خلال الهجوم عليهم. “اشتموني لكن لا تتجاهلني”، يقول هؤلاء وهم ليسوا على خطأ، فالمثل – الإعلامي – يقول: لا توجد دعاية سيئة.

لا بد، أن سبب حديثي عن تلك المسألة الآن قد اتضح لك، إنه التلاسن المؤسف الذي بدأ منذ فترة طويلة بين مصريين وسودانيين؛ منحصرا أولا في ملاعب كرة القدم، قبل أن ينفجر بقوة أكبر مع تفجر الأوضاع السياسية والإنسانية بالسودان، التي تسببت في لجوء عديد من الأشقاء السودانيين ضيوفا معززين على وطنهم مصر، وما شهدناه من تصاعد مؤسف – انخفض خلال أيام لحسن الحظ – من تلاسن يرفض فيه مصريون استقبال السودانيين بحجة “دول بيشتمونا”، ويرفض فيه سودانيون اللجوء إلى مصر للسبب نفسه. ولحسن الحظ – مرة أخرى – أن ذلك لم يؤثر كثيرا على اللجوء الطبيعي، والبديهي لآلاف الأشقاء إلى مصر، لكنه ترك أو على الأقل كاد يترك، مرارة وعكارة في صفو العلاقات التاريخية بين الشعبين.

ولم أبدأ الحديث بذكر “خطاب الكراهية في خوازميات التواصل الاجتماعي”، لأقول إن المشكلة في موقع فيسبوك، فمهما كانت مخاطر السوشيال ميديا فإنها لا تخترع الواقع، وإنما قد تضخمه أو تروّج لخطابات موجودة بالفعل فتوحي فحسب، أنها الأغلبية وإنما نتذكر تلك الخوازميات لنذكّر أنفسنا أنها ليست الواقع بل تعبر عن جزء صغير من خطابه، يكون أحيانا صغيرا جدا فتضخمه الخوازميات أو جهات منظمة ومدفوعة وأحيانا مدفوع لها، وفي الوقت نفسه، ندرس أسباب الاستجابة لتلك الخطابات وذلك التحريض، لنفقأ الدمّل قبل أن يستشري في الجسد، لا نتجاهله بالقول إن تلك “خناقات كورة”، أو “لعب عيال”، فنستيقظ يوما لنجد أنفسنا موصومين بعنصرية مخجلة، للحديث عنها كلام آخر.