يبدو أن المواجهات العسكرية التي نشبت في السودان بين قوات الدعم السريع والجيش فاجأت مصر كما فاجأت غيرها، إلى درجة أنها لم تستطع سحب قواتها التي كانت موجودة باتفاق مع الجيش السوداني. لكن، وفى حين يمكن تصور أن يتفاجأ الآخرون بتحول خلافات طرفي المنظومة العسكرية السودانية إلى مواجهة مسلحة على هذا النطاق الواسع وبهذه السرعة، كان الطبيعي أن تتلقى مصر، بما لها من ارتباطات وعلاقات بالسودان، إنذارًا مبكرًا بما تسير نحوه الأحداث، لتستطيع تدبير أمورها.
مع ذلك، فإن الأمر يتعدى وضع القوات المصرية التي كانت في السودان، أو مدى علمها أو قدر المفاجأة بما حدث. فبخلاف السودان وشعبها الشقيق، ستكون مصر أكثر من يتأثر بهذه الأحداث الخطيرة، ليس فقط لروابط القربى والصلة العاطفية التي تجعل مصر تُدمي لأى جرح يصيب السودان، وإنما أيضًا لأن السودان هي المصدر المباشر لكل ما يصل مصر من مياه النيل، وشريكها الأهم والأقرب في أي ترتيبات تتعلق به، خاصة مع إثيوبيا، ولأن مصر هي الملجأ الأقرب والأكثر استعدادًا لاستقبال أبناء السودان الفارين من القتال، ولأنها ستشارك الشعب السوداني معاناة تداعيات انفراط عقد النظام والأمن في السودان، واحتمالات استغلاله من جانب قوى وتنظيمات لا تريد الخير لأى من البلدين.
وبينما يفرض ذلك على مصر التعامل مع هذا الوضع المتفجر بسرعة وجدية والتزام نشط أكثر من أي طرف أجنبي آخر، فإن هذا التحرك سيكون محملًا بأعباء التركة المعقدة للعلاقات المصرية السودانية. وليكون الحديث محددًا، ورغم اشتراك البلدين في معاناة الاستعمار البريطاني، ومبادرة مصر فور نيلها استقلالها إلى قبول ممارسة شعب السودان حق تقرير المصير والاستقلال دون مماطلة أو عرقلة، فقد وقعت هذه العلاقات ضحية لسلسلة من الأخطاء وسوء الفهم من الجانبين، والكثير من الممارسات الخبيثة التي استغلت كل فرصة لتعميق عدم الثقة بينهما.
أدى ذلك إلى اقتناع قطاعات غير قليلة من السودانيين -بغض النظر عن صحة هذه الاقتناعات- أن مصر، كدولة وسلطة، رغم ما قد يحملونه لها ولشعبها من مشاعر حميمة وصادقة، لا تقدر مشاعر السودانيين تجاهها، وإنما تميل إلى التعالي والأنانية والانتهازية، ولا يحركها في علاقتها بالسودان إلا مصالحها، بل أنها كثيرًا ما تحاول استغلال السودان لمساندتها دون حرص على مصالحه، وأن مصر عمومًا لا تبحث في السودان عن أصدقاء أو شركاء، وإنما عن تابعين. ترتب على هذه التصورات أن أصبح اقتراب السياسيين السودانيين من مصر أمرًا مشوب بالريبة، حتى أن حكومات السودان، بما في ذلك القريبة إلى مصر أصبحت تحاول إخفاء هذا القرب، وأصبح الابتعاد عن مصر والاختلاف معها وسيلة لكسب شعبية لدى الرأي العام.
كما أن مواقف مصر منذ بدأت انتفاضة الشعب السوداني للتخلص من الرئيس السابق عمر حسن البشير في عام 2018 لم تحسن من هذه المشاعر، بدءًا بزيارة وزير الخارجية ورئيس المخابرات العامة إلى الخرطوم في خضم المظاهرات الشعبية الغاضبة، ثم استقبال الرئيس السوداني في القاهرة قبل أسابيع قليلة من سقوطه، وصولاً إلى اتخاذ مواقف فُسِرت على أنها دعم مصري ظاهر للمنظومة العسكرية، ليس كجيش دولة شقيقة، وإنما كمنافس للقوى المدنية في عملية تحول سياسي معقد.
وصحيح أن هناك شغفًا تاريخيًا بالبحث عن المسئول عن ذلك، وما هي أخطاء كل طرف، إلا إنني أرى أن الأهم الآن هو البحث عن كيفية مواجهة الوضع الحالي، وعن كيف يمكن أن يكون ذلك بداية لوضع العلاقات المصرية السودانية على مسار أكثر صحة.
* * *
استعادة هذه الخلفيات للعلاقات المصرية السودانية ضروري لنتبين الطريق أمامنا ونحن نتعامل مع الموقف المتفجر الحالي، وللبحث عن السبل التي يمكن بها لمصر أن تسهم بفاعلية في مساعدة السودان على تخطي هذه الأزمة، وأن تتفادى في تحركها ما يمكن أن يفسده، ودون أن تكون تحركاتها سببًا في تعقيد الأمور. والحقيقة أن نجاح مصر اليوم في اتخاذ النهج الصحيح في السودان، وتلافي ما يأتي به التاريخ من عراقيل، وتحقيق نتائج تفيد السودان وشعبه، من شأنه فتح صفحة جديدة في علاقات البلدين، وبدء بناء الثقة على أسس جديدة.
بداية، فإن أي تحرك مصري مقبول في السودان ينبغي أن يكون هدفه، أولاً وقبل كل شيء، تحقيق استقرار السودان وصالح أبنائه، لا تحقيق مكاسب تكتيكية أو تصفية حسابات ضيقة كما تفعل أطراف خارجية أخرى ليس لديها نفس مكانة مصر. يعنى ذلك أن تدخل مصر يجب ألا يكون لصالح طرف بعينه أو ضد طرف آخر؛ ولا أن يكون بهدف تحقيق مصالح أو الحصول على مكاسب لمصر، لأنه لا توجد مصلحة أو مكسب لمصر يتقدم على استعادة الاستقرار والسلام للسودان وشعبه؛ كما أنه لا يصح أن يكون تحرك مصر لمنافسة طرف خارجي أو الدفاع عن نطاق حيوي لمصر، لأن هذا ليس المنهج الذي يليق بمصر إزاء أقرب دول العالم إليها.
هذا هو المعنى الذي يمكن أن يُفهم في إطاره حديث الرئيس عبد الفتاح السيسي عن امتناع مصر عن التدخل في الشؤون الداخلية للسودان. إلا أنه لا ينبغي أبدًا أن يكون معناه ترك السودان فريسة لهذه التفاعلات الخطيرة، أو لجهود أطراف خارجية أخرى سواء حسنت نواياها أو ساءت مقاصدها، بينما تمتنع مصر عن مساعدة السودان وأبنائه على الخروج من هذه الأزمة، بل وبذل كل ما تملك من قدرة لكي يتخذ طريقه نحو السلام والاستقرار والرخاء في أقرب وقت ممكن.
ونقطة البداية الحيوية لأي تحرك مصري ينبغي أن تكون السعي إلى تحقيق وقف شامل ودائم لإطلاق النار، استفادة مما تحقق من خطوات، ومن وجود قدر واسع من التوافق على ذلك على المستوى الدولي، وبين القوى السياسية السودانية. يتطلب ذلك التواصل المباشر مع طرفي النزاع، ومع القوى الدولية التي تتحرك في هذا الصدد، ومع الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي، ومع الأمم المتحدة. وتقتضي الواقعية إدراك أن طرفي هذا النزاع لن يأتيا إلى وقف إطلاق النار طواعيةً، ولن يقتنعا به بسهولة، ما دام توافرت لديهما الأموال والسلاح. كما أنها تقتضي إدراك أن الأطراف الخارجية التي تناصر كل من طرفي هذا النزاع لن تتخلى عن حليفها السوداني لو قارب على الهزيمة، سواء دفاعًا على المصالح التي قام عليها التحالف، أو حفاظًا على سمعتها كحليف يعتمد عليه في أوقات الشدة. بناءً على ذلك، فإن وقف إطلاق النار لكي ينجح ويستمر يتطلب توافر شرطين:
الأول: هو الحد مما يصل إلى الطرفين من سلاح وأموال لأبعد درجة ممكنة، وهو ما يتطلب صياغة توافق دولي على فرض حظر على تدفق السلاح والأموال إلى الطرفين حتى يتوقف القتال، والعمل على تقنينه وإنفاذه من خلال الأمم المتحدة، ولا غرو من السعي إلى إتمام ذلك من خلال الفصل السابع لميثاق المنظمة، رغم ما على ذلك عادة من تحفظات.
الثاني: وهو ضروري لتحقق الشرط الأول، هو قبول أن وقف إطلاق النار لن يتحقق إلا على أساس لا غالب ولا مغلوب من الفريقين، بغض النظر عن مدى التكافؤ في المكانة بين جيش يفترض فيه أن يكون مؤسسة وطنية، رغم ما لحق بسمعتها ومكانتها داخليًا وخارجيًا، وقوات عسكرية نشأت في ظروف غير طبيعية، وأُلحقت بمؤسسات الدولة بصورة مصطنعة. فبدون هذا الشرط لن يتعاون الطرفان المتقاتلان مع جهود وقف إطلاق النار، ولن تدعم القوى الخارجية التي تقوم بتسليحهما وتمويلهما مساعي منع تدفق السلاح والأموال.
وينبغي هنا التصدي بكل قوة لمقولة أصبحت تتردد بشكل متكرر، وهى أن هذه الحرب ستستمر طويلًا، وأن العملية السياسية في السودان قد انتهت إلى الأبد ولا سبيل لاستعادتها، وأن السودان في طريقها إلى أن تصبح مثل الصومال، حتى لا تصبح نبوءة تحقق ذاتها.
وقف إطلاق النار هذا لا بد أن يعقبه مباشرة العودة للعملية السياسية التي تهدف إلى استكمال الانتقال إلى حكم مدني ديموقراطي، ودمج قوات الدعم السريع في هياكل القوات المسلحة، وهي العملية التي كانت قد قطعت خطوات هامة مؤخرًا حتى أوشكت على الانتقال إلى مرحلة التنفيذ، لو لم تنشب الاشتباكات الأخيرة، لكن بعد إصلاح نقاط الضعف التي تبين أنها تعاني منها، وتطويرها على النحو الذي يأخذ في اعتباره التطورات الأخيرة. سيحتاج ذلك إلى جهد دبلوماسي نشط، ودور خارجي كبير لا بد أن تساهم فيه مصر بكل ما تملك من إمكانيات.
عندما تضطلع مصر بمثل هذا الجهد، سيكون عليها أن تأخذ في اعتبارها ما كشفت عنه التجربة الطويلة لتقلب السودان بين الحكم المدني والعسكري، لا سيما ما جرى منذ حكم عمر حسن البشير وجبهة الإنقاذ في نهاية الثمانينات. وبغض النظر عن رأينا في فكرة تولي القوات المسلحة الحكم، فقد ثبت أن المجتمع السوداني بقواه المدنية وقبائله وتركيبته الجغرافية والعرقية وجماعاته الدينية المختلفة، لا سيما ذات الخلفية الصوفية، أقوى من أن تخضع لحكم القوات المسلحة، كما أن القوات المسلحة السودانية لا تملك من القوة ولا من التماسك التنظيمي ولا المكانة الأخلاقية ما يجعلها قادرة على إخضاع القوى المدنية في المجتمع، وبالتالي فإنه لا مجال لافتراض أن السودان يلزمه حكم عسكري قوي يثبت دعائم الدولة كما يرى البعض.
لا أحد يتصور أن هذين الهدفين -وقف إطلاق النار واستكمال العملية السياسية- ستكون سهلة أو سريعة وسلسة، لكنهما في الحقيقة يرسمان المسار الوحيد الذي يحمل فرصة حقيقية للنجاح في إنقاذ السودان من هذه الأزمة.
* * *
أما من حيث التطبيق العملي لما سبق، وكيف يمكن لمصر إدارة هذه المرحلة، فأتصور أن نقطة البداية ينبغي أن تكون خطابًا صريحًا مفتوحًا من رئيس مصر إلى شعب السودان وإلى العالم، تسبقه اتصالات مكثفة لبلورة قراءة متكاملة للساحة الداخلية والدولية وتمهد الجو له، يعقبه عمل دبلوماسي نشط لا يتوقف لتنفيذ ما يرد به. مثل هذا الخطاب ينبغي أن يتحدث عن مشاركة كل مصري لمشاعر وآلام أشقائه في السودان في هذه الأيام الصعبة، وعن حرص مصر وأبنائها على تقديم كل ما يمكنهم لمساعدة السودان في محنته، التي هي محنتنا معًا. ثم يشدد على أن هناك فرض عين على مصر أن تقف إلى جانب السودان في هذه اللحظة الصعبة، ليس فقط لعبورها، وإنما لاتخاذها نقطة انطلاق لبناء المستقبل الأفضل الذي يرجوه شعب السودان لنفسه من أمان ورخاء وتقدم. ثم ينتقل الرئيس إلى الجزء العملي من كلمته، طارحًا خطة متكاملة تشمل النقاط التالية:
- وجوب تثبيت وقف إطلاق النار وتحويله إلى حالة دائمة كنقطة انطلاق ضرورية، مع توجيه رسالة شديدة للطرفين المتحاربين بأنهما يعملان ضد صالح السودان، وأن وقف إطلاق النار هو بداية وفائهما بالأمانة التي وضعها الشعب السوداني على عاتقهما.
- إعادة إطلاق العملية السياسية وفقًا لصيغة معدلة للاتفاق الإطاري، تستوعب كافة القوى السياسية السودانية الراغبة في المشاركة، وتعكس ما استجد من حقائق، على أن تعمل وفقًا لجدول أعمال سريع ومركز لبدء عملية الانتقال في وقت مبكر قبل خريف العام الجاري 2023.
- الدعوة إلى مؤتمر اقتصادي دولي لدعم السودان ليس فقط في إزالة آثار أعمال العنف، واستيعاب عودة المهجرين، وإنما أيضًا إعادة بناء الاقتصاد السوداني، مع الإعراب عن استعداد مصر لاستضافة هذا المؤتمر، ووضع كل إمكاناتها الدبلوماسية والفنية تحت تصرف السودان لإنجاح هذا المؤتمر، ومتابعة نتائجه.
- إعلان تعيين مبعوث رئاسي رفيع المستوى، يفضل أن يكون وزير سابق، ويكون لديه مهارات دبلوماسية جدية، تكون مهمته الاتصال مع مختلف الأطراف السياسية السودانية، والطرفين المتخاصمين، والقوى والمنظمات الدولية، لحشد الجهود لوقف إطلاق النار واستكمال العملية السياسية، وعقد المؤتمر الاقتصادي.
- الدعوة إلى تشكيل آلية عربية إفريقية مشتركة لمتابعة هذه الجهود، وتوفير الظهير والضامن والمرجع لها بجوانبها الأمنية والسياسية والاقتصادية.
هذا على أن يختم الرئيس رسالته بالقول أن هذا هو واجب مصر تجاه السودان، وأن هذه الروح التي تتوقعها مصر من أشقائها في السودان إذا ما تعرضت لمحنة، وأن مصر لا تنسى أن الخرطوم كانت المدينة التي انطلقت منها أكبر لحظة تضامن مع مصر عقب حرب 1967 من خلال القمة العربية عام 1968.
وأخيرًا، فإن من بين الثوابت الشائعة عن سياسة مصر تجاه السودان هي أنها لا تحتمل وجود نظام حكم مناهض لها في الخرطوم. وقد أثبتت التجارب -بحلوها ومرها- أن أفضل وسيلة لتحقيق ذلك هي بناء علاقات وثيقة وعميقة مع مختلف مكونات المجتمع السوداني، تستند إلى رصيد كاف من الود والثقة والاحترام، بحيث تطمئن مصر إلى أن أيًا كان من يختاره السودانيون للحكم، فإنه سيكون قريبًا لها، يحمل لها ما تحمله له من تقدير وثقة وود.