ربما يتفاجأ البعض عندما يقرأون أن جميع رؤساء مصر الضباط، كانوا يعلمون حق العلم أن نظمهم السياسية ليست هي الوضع الطبيعي للسلطة والحكم في البلاد، وليست هي ما ينبغي أن يدوم، بل كانوا ولا يزالون يدركون أن هذا وضع استثنائي، طال بأكثر مما يجب، والأكثر أنهم كانوا يلمحون إلى ذلك، أو يقولونه صراحة، في لحظات الصدق مع النفس، أو مع خلصائهم، وخاصة في أوقات الصدمات و الكوارث الكبرى، أو الفشل المدوي، ولكن مشكلتهم المستعصية هي عدم استعدادهم لدفع ثمن التحول إلى نظام طبيعي أو شبه طبيعي، ولو تدريجيًا.
ولكي نكون منصفين، بحيث نغلب الفهم الموضوعي على غواية الإدانة السهلة، وعلى منطق الخصومات الإيديولوجية، والثارات التاريخية، يجب أن نتعرف على أصل رؤية الرؤساء الضباط المتوارثة خلفًا عن سلف، وأن نعترف بالقدر الوجيه من أسبابهم للخوف أو القلق من مخاطر العودة للحالة الطبيعية، وهذه المخاطر ليس على دورهم ومصالحهم فقط، ولكنها أيضًا مخاطر -من وجهة نظرهم- على استقرار البلاد ككل، وعلى وحدتها الوطنية، ومن ثم تكون مهمة جميع الأطراف -بعد الفهم- هي البحث عن الحل الآمن، والمخرج الأقل تكلفة.
من الإجمال إلى التفصيل:
منذ أسس البروفسور دانكوارت روستو في بداية ستينيات القرن الماضي دراسات التحول المدني الديمقراطي في الأكاديمية الأمريكية في ستينيات القرن الماضي، وذلك حين كانت دول أمريكا اللاتينية، ومعظم الدول حديثة الاستقلال في آسيا وإفريقيا تخضع لحكم ضباط الجيوش، فقد انعقد الإجماع ولا يزال على أن نجاح النظم العسكرية في مهماتها الوطنية يتوقف علي تأسيس، وتوطيد مؤسسات دستورية مدنية ذات فاعلية ومصداقية.
يتطلب قيام هذه المؤسسات من الرؤساء الضباط قبول المشاركة المجتمعية الجادة، وغير التابعة في شئون الحكم والسياسة كافة، أي الحكم بالتفاوض مع شركاء، وليس بالأوامر إلى منفذين، وإذًا يحتاج هذا التحول إلى برلمان فاعل ومنتخب بحرية، ولا يحال بينه وبين الرقابة ومساءلة الحكومة ومراجعة وتصحيح السياسات المطبقة، كما يحتاج إلى سلطة تنفيذية منتخبة بناءً على برامج معلنة والتزامات واضحة، فضلًا بالطبع عن إقرار الحريات والحقوق الأساسية.
عند هذه النقطة، أي قبول المشاركة المجتمعية في الحكم، ووفقًا لمجمل تاريخ نظام الضباط في مصر، يظهر التردد، أو التراجع أحيانًا إلى المربع رقم (1)، كنمط دائم، أو اختيار متكرر، وذلك منذ لحظة تأسيس هذا النظام في أزمة مارس/ آذار 1954، حين حسم الصراع على السلطة بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر لمصلحة الأخير وزملائه.
نجيب كان يسانده الإخوان المسلمون واليساريون وساسة العهد الملكي، في مطلب النظام الديمقراطي التعددي، وعبد الناصر يسانده الجيش والقوى الاجتماعية الناقمة على الأوضاع القديمة يريدون نظامًا تعبويًا مغلقًا، يكون منيعًا ضد السطو الإيديولوجي أو الرجعي عليه، على نحو ما سنشرحه توا من طريقة تفكيرهم.
ومع ذلك، فقد بقي الإدراك الداخلي قويًا لدى النظام الجديد بأن هذا وضع استثنائي، ويستحيل أن يكون هو الحل الدائم لمشكلات السياسة والحكم في البلاد، فلم تكن عمليات تغيير مسمى التنظيم السياسي الوحيد إلا اعترافًا بفشل كل تلك المحاولات أو التحايلات، وكذلك، كانت تطبيقات ما كان يُعرف بالعزل السياسي في الحقبة الناصرية، وبالتأكيد يذكر المخضرمون أن مطلب العودة للأوضاع الطبيعية (أي الحكم المدني الديمقراطي) كان هو اللافتة التي رفعها عبد الحكيم عامر في جولة صراع النفوذ مع جمال عبد الناصر، ردًا على محاولة ناصر عزل رفيقه أو الحد من نفوذه.
في تلك الفترة أيضًا، كان أكثر أعضاء مجلس قيادة الثورة حماسًا للنظام التعبوي المغلق يتوالي انسحابهم من المشهد أسفًا على على ما جنته أيديهم، غير أن الشاهد الأكثر دلالة هنا هو قول جمال سالم لناصر وهو يزوره في مرض الموت: “ياجمال. اعمل نظام فإنك لن تبقى حاكمًا لمصر من قبرك“.
كذلك، كُتب وقيل الكثير عن اعترافات ومراجعات عبد الناصر نفسه بعد هزيمة 1967، وكُتب وقيل الكثير عن وعود بيان 30 مارس، والشائع من لحظتها حتى اليوم أن الرجل أجل الإصلاح أو التحول إلى ما بعد معركة إزالة آثار العدوان، لكن لا شيء يثبت أنه كان لن يتردد أو يتراجع مرة أخرى، إذا جد الجد وأدرك أن الإصلاح قد يحد من سلطته، ناهيك عن أن يستبدله، ولو على سبيل الافتراض النظري.
ومع ذلك، ففي وسط هذه المراجعات والأحاديث الإصلاحية، وقعت مثلًا مذبحة القضاة، لا لشيء إلا لرفض كبار القضاة الالتحاق بالتنظيم السياسي، وهو ما كان توسيعًا للشمولية السياسية، وتضييقًا للمشاركة والتعددية، ومد تلك الشمولية حتى إلى السلطة القضائية، وذلك بدلًا من الحد منها في النواحي الأخرى، كالحقوق والحريات، وفقًا لنصوص بيان 30 مارس نفسه.
استمرارًا لتأصل الشعور العميق لدى الرؤساء الضباط بالطبيعة الاستثنائية لنظام حكمهم، كانت شعارات الديمقراطية والحريات هي محور أو سلاح دعاية أنور السادات في الصراع على السلطة مع “مراكز القوة” في مايو 1971.
وعلى أية حال، لم يختلف أنور السادات عن ناصر في هذه النقطة، أي نقطة رفض المشاركة المجتمعية في إطار التحول الجاد نحو الأوضاع الطبيعية، فعلى الرغم من إلغائه للتنظيم السياسي الواحد، واعتماد التعددية الحزبية، فقد كان هو نفسه الذي انقض على الأحزاب تجميدًا ومصادرة وتخوينا، ثم سجنا في سبتمبر 1981، ولا تزال عبارته الاستنكارية الشهيرة مخاطبًا الأحزاب: “إيه العبط ده… هو أنتوا عاوزين توصلوا للسلطة؟! واضح انكوا فاهمين المعارضة غلط”.
ولا تقل عبارة حسني مبارك: “خليهم يتسلوا” شهرة عن تلك العبارات القديمة للسادات.
قبل أن ننتقل إلى الحقبة الراهنة، أعود إلى تحفظي السابق على غواية الإدانة السهلة لتردد الرؤساء الضباط في السماح بالتحول المدني الديمقراطي، أو اختيارهم ديمومة الاستثناء في لحظة الحسم. وأذكر القارئ بأنني قلت إننا نحتاج لفهم طريقة تفكيرهم، والتعرف على القدر الوجيه من أسبابهم في هذا الاختيار السلبي، أو في ذلك التردد المتكرر.
من الواضح أنهم جميعًا كانوا دائمي التخوف من انقضاض الجماعتين الإيديولجيتين في المجتمع (أي اليسار الماركسي واليمين الديني الإسلامي) على السلطة من خلال عملية سياسية مفتوحة، سواء بالانتخابات أو بالوسائل الانقلابية.
وبالطبع، فإن كلا من الفصيلين كان يؤمن بالانقلاب أو الثورة، وكان ذلك هو جوهر الصراع في أزمة مارس 1955 الشهيرة، كما قلنا، وقد ظلت دروس وتجليات هذا الصراع تخبو وتظهر منذ تلك اللحظة المؤسسة وحتى اليوم، فلا ننسَ أن اغتيال السادات كان برصاص اليمين الديني، وذلك بعد عدة سنوات من التأزم والاغتيالات والتحريض، بل إن توظيف السادات لذلك اليمين الديني لإضعاف اليسار والقوميين كان حلقة في تأمين سلطته المطلقة، ولا ننسَ أن الإرهاب الديني تفشى في البلاد طوال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، حتى حادث الأقصر عام 1997، فيما ظلت جيوبه منتشرة، وخلاياه نائمة، فضلًا عن امتداداته العالمية، التي بلغت ذروتها في هجمات 11 سبتمبر 2001 الشهيرة على الولايات المتحدة.
المفارقة أن المجتمع ككل، وكذلك قواه السياسية المدنية كانت ترفض هذا الإرهاب بلا تردد ولا لبس، وتتضامن مع النظام في مواجهته، وتلك كانت قاعدة كافية للثقة في أن الانفتاح السياسي لن يكون في مصلحة الإرهاب والإرهابيين، ولكن النظام فوت الفرصة كعادته، مفضلًا المواجهة الأمنية البحتة.
وحسب الرأي الراسخ في جميع عهود يوليو، فإن توافر درجة معقولة من الرخاء الاقتصادي لعموم المجتمع، بما يقلل معدلات الفقر، يساعد التحول المدني الديمقراطي الآمن، إذ أنه يحد كثيرًا من جاذبية الأفكار المتطرفة من ناحية، ويخلق مصلحة لغالبية معتبرة من المصريين في الاستقرار.
وبما أن الرياح تأتي دائمًا بما لا يشتهي الرؤساء، فما باليد حيلة! بغض النظر عن مسئولية سياساتهم المتعاقبة عن الفشل الاقتصادي. إذ لا تفرغ الجعبة قط من الذرائع والمبررات!
وفي هذه النقطة أيضًا وقع النظام في إحدى مفارقاته التاريخية ودوائره المغلقة، فالرخاء أو التنمية لن يتحققا بإدمان المعونات الأجنبية، ولكن بتحرير طاقات المجتمع وموارده، ومبادرات الأفراد والمجموعات، وإطلاق طاقات الابتكار في الإدارة والبحث والتطوير، وكل ذلك يختفي أو ينكمش في ظل نظام مغلق، يكون تأمين النظام واحتكاره السلطوي فيه هو المعيار الأول وربما الأخير أيضًا.
وأخيرًا، هناك الخوف الدائم من شبح الدولة الدينية علي الوحدة الوطنية، حتى ولو كانت الانتخابات هي طريق الوصول للحكم، كما حدث عام 2012 مثلًا، خاصة بعد تخلي جماعة الإخوان عن سياسة مشاركة لا مغالبة، وإذا كان البعض مستعدين لخداع أنفسهم بالاعتقاد أن الأقباط والآخرين من غير المسلمين الذي هم شركاءنا في الوطن والمواطنة لن يجدوا غضاضة -بل غصة ومرارة- من الخضوع لحكم إسلامي، بعد مائة سنة من ثورة 1919، حتى ولو بالانتخاب، فإنني لست مستعدًا معهم لخداع نفسي.
في هذه النقطة بالذات، فإن مثل هذا الانقسام الرأسي على أسس دينية في الدولة (في إقليم مضطرب وفي عالم منقسم) هو تهور يفتح أبواب الجحيم، ولا داعي لمزيد من الشرح والتفسير.
هذه إذن الأسباب الرائجة في حسابات الرؤساء المصريين الضباط؛ لتأخير أو رفض التحول مما يدركون أنه وضع استثنائي (كما قلنا في البداية) إلى الوضع الطبيعي (أي المدني الديمقراطي)، لكنها قطعًا لا تكفي لإقناعنا بهذا الجمود، وبذلك الإخفاق لمدة 70 سنة، حيث يبقى السبب الأكبر هو الذي ذكرناه آنفًا، أي عدم الاستعداد لدفع الثمن المتمثل في الحد من سلطاتهم، ومكانتهم ومصالحهم من خلال المشاركة المجتمعية الطبيعية أو شبه الطبيعية، ولو بالتدريج وصولًا إلى الوضع الطبيعي بالكامل، وهكذا يتجسد المأزق التاريخي، أو مصيدة التاريخ للنظم العسكرية المصرية، فهي تدرك حقيقةً الطبيعة الاستثنائية للحالة، وتدرك ما ترتب عليها من إخفاقات، ولكنها ليست مستعدة بعد لدفع الثمن الضروري للتحول منها وعنها، أو كما يقول المثل الدارج: “عين في الجنة وعين في النار”.
أين نقف الآن؟
المعطيات الحالية والسابقة تقول إنه لا جديد تحت سماء نظام يوليو الملبدة دائمًا.
ولأني لست ممن يفكرون بالتمني فليس لدي ذرة شك في أن الرئيس عبد الفتاح السيسي سيبقى رئيسًا حتى عام 2030، ولكن يكفينا لبدء خطوات الانتقال نحو حياة سياسية طبيعية، أو شبه طبيعية تمنع عودة شبح الدولة الدينية أن تجري الانتخابات الرئاسية القادمة بدرجة أعلى من التنافسية، وفقًا لبرامج محددة والتزامات واضحة، فإن لم يحدث ذلك، وهو الأرجح، فيتحتم ألا تكون الانتخابات البرلمانية التالية سابقة التجهيز، كما جرت العادة، ما يتطلب رفع القيود على حركة الأحزاب، وعلى حريات التعبير والاتصال الجماهيري.
كما يتطلب حياد الشرطة والإدارة، وإنهاء حالات الحبس والسجن في القضايا السياسية، غير المتيمة بالعنف، وآمل أن تكون هذه أهم مخرجات الحوار الوطني، وأن يؤخذ بها كاملة غير منقوصة.
أعلم أنه جرت في الأيام الأخيرة ممارسات أمنية محبطة لهذا الطموح، ولكن -بعيدًا عن التفاؤل والتشاؤم- من قال إن الصراع انتهى بين الانغلاق و بين الانفتاح السياسي في المجتع ككل، وفي داخل النظام ذاته؟!