تشرف مصر، بالعديد من الأضرحة التي تضم جُدرانها وقبابها النحاسية عشرات الأجساد الطاهرة، التي تحمل العديد من القصص والحكايات المثيرة أحيانًا والحزينة أحيانًا لأناس خصهم الله بمكانة عليا في قلوب عباد.
فى السطور التالية، نجوب داخل تلك الأضرحة، ونقص أسرار أصحابها، وكيف كانت حياتهم وكيف تحولوا مابين ليلة وضحاها إلى شفعاء للبسطاء والسائلين.
كانت السيدة سُكينة تشترط في عقد زواجها أنها ستفعل ما تراه صوابًا وأنها لن تطيع زوجها ولن تفعل إلا ما يمليه عليها عقلها
السيدة سكينة.. أول ناشطة نسائية في الإسلام
لعمرك أننى لأحب دارًا .. تكون بها سُكينة والرباب .. أحبهما وأنفق جل مالي .. وليس لعاتب عندي عتاب ، هكذا عبر الإمام الحسين بن على بن أبي طالب رضوان الله عليه، عن حبه وتقديره لمكانة ابنته السيدة سُكينة التي أنجبها من زوجته الرباب بنت امرؤ القيس.
عُرفت السيدة سُكينة، بشخصيتها المميزة واعتزازها بنفسها و بكونها أنثى لها حقوق وهيبة، لا يمكن التخلي عنها لأي سبب، فيما شبهها الكثيرون بعمتها السيدة زينب، والتي جاءت معها إلى مصر عقب معركة كربلاء.
للسيدة سكينة مراحل متعددة في حياتها، جعلت شخصيتها منفردة لا تشبه غيرها ممن عاصرتهم من النساء، وكانت مخطوبة لابن عمها عبد الله بن الحسن، والذي قُتل قبل إتمام الزواج، الأمر الذي قابلته بألم شديد جعلها ترفض تكرار الفكرة لفترة زمنية ليست قليلة، حتى تزوجت من مصعب بن الزبير، والذي قُتل مع والدها الحسين في معركة كربلاء.
سُبيت السيدة سكينة، ونُقلت إلى الكوفة لدى عبيد الله بن زياد، وبعدها أُخذت إلى لشام عند يزيد ابن معاوية، قبل أن تأتي إلى مصر مع عمتها السيدة زينب.
تزوجت السيدة سكينة أكثر من مرة، تردد أنها من بين خمس إلى ست مرات، وكانت ترفض تعدد الزوجات، حتى أنها كانت تشترط في عقود زواجها بعدم منح زوجها حق التعدد، كما كانت تشترط في العقد أنها ستفعل ما تراه صوابًا، وأنها لن تطيع زوجها ولن تفعل إلا ما يمليه عليها عقلها.
ومن المواقف المُثيرة للسيدة سكينة، أنها عندما تزوجت من زيد بن عمرو، اشترطت عليه ألا يمس امرأة غيرها، وألا يمنعها مخرجًا تريده، وألا يحول بينها وبين ماله شيء، وفى حال نقض الشروط تكون منه خالية، ولم يلتزم زيد بشروط العقد وخانها مع سيدة أخرى، فلما علمت بأنه كذب عليها، لجأت للقضاء لطلب الطلاق، وهو الأمر الذي رفضه زوجها، فقالت له أمام القاضي متحدية: “يا أبا عثمان، تزود مني بنظرة، فلن تراني والله بعد الليلة أبدًا”، وخرجت دون طلاق، ثم طلبت من الخليفة سليمان بن عبد الملك التدخل لتطليقها، وهو ما حدث بالفعل.
خطبها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان أمير مصر، ولما علمت بصفاته السيئة قررت ألا تتزوجه، وأثناء قدومها إلى مصر مات الأصبغ، وتحول منزلها إلى مسجد عقب وفاتها عن عمر يناهز 71 عامًا، واختلفت الروايات عن مكان دفن جسدها ما بين الشام والقاهرة، فيما أصبح مسجدها بمصر مقصد المحتاجين ومحبي آل البيت.
“وعزتك وجلالك لئن أدخلتنى النار، لآخذن توحيدي بيدي، فأطوف به على أهل النار، وأقول: وحدته فعذبني”.. السيدة عائشة ابنة جعفر الصادق
“عروس آل البيت”.. عائشة بنت جعفر الصادق
“وعزتك وجلالك لئن أدخلتنى النار، لآخذن توحيدي بيدي، فأطوف به على أهل النار، وأقول: وحدته فعذبني”.. هكذا كانت تخاطب السيدة عائشة ابنة جعفر الصادق، ربها، تقربًا وابتهالًا، ورغبة في نيل الجنة.
السيدة عائشة، هي ابنة الإمام جعفر الصادق الذي عُرف بدعائه المُستجاب، وهو حفيد الإمام الحسين، ومن القلائل الذين استخدموا اسم “عائشة” في نسل الإمام الحسين، بسبب خلاف السيدة عائشة زوجة النبي رضى الله عنها مع الإمام على، ما جعل اسمها غير متداول بين نسل الحسين، ولكن جعفر الصادق لم ينكر فضل السيدة عائشة زوج الرسول في نقل الأحاديث.
تأثرت السيدة عائشة بوالدها، وأخذت عنه الكثير من العلم، وحفظت القرآن الكريم كاملًا، حتى أصبحت عالمة في علوم القرآن والفقه، وكانت زاهدة عابدة، تتميز بالسيرة العطرة.
جاءت السيدة عائشة، إلى مصر بصحبة أخيها الإمام موسى الكاظم، وزوجة أختها السيدة نفيسة التي عاشت معها لفترة، عقب مقتل عدد كبير من آل البيت في مكة على يد الخليفة العباسي، حيث قصدت منطقة المقطم، وتردد عليها آلاف المصريين، طلبًا لشفاعتها، وعلمها وتفقهها في الدين .
لُقبت السيدة عائشة بـ”عروس آل البيت” كونها ماتت دون زواج، وفي سن صغير “22 سنة”، ويرقد جسدها الطاهر بضريح السيدة عائشة بالميدان الذي يحمل نفس الإسم، حيث يقصده العديد من المصريين من كافة المحافضات.
يعتقد البعض، أن ضريح “عروس آل البيت” بابًا للزواج، فتزورها كل سيدة ترغب في زواج ابنتها، وكل من تأخرت في الزواج، كما تُعتبر مدخلًا للحج والعمرة، خاصة عند أهل الصعيد، فيدعون على جدران ضريحها الذي نقلت إليه القبة النحاسية التي كانت بضريح السيدة زينب، بأن ينعم الله عليهم بزيارة بيته الحرام وروضة نبيه الكريم.
يعد مسجد السيدة رقية مزارًا له مكانته لدى مسلمي قارة آسيا مثل الهند وباكستان بخلاف عُشاق آل بيت رسول الله
السيدة رُقية.. الباحثة عن الأمان في أرض المحروسة
بالقرب من مسجد السيدة نفيسة، يوجد مسجدًا صغيرًا، يظهر عليه الإهمال، هو مسجد السيدة رُقية، والذي يعد مزارًا له مكانته لدى مسلمي قارة آسيا مثل الهند وباكستان، بخلاف عُشاق آل بيت رسول الله الذين يترددون للمسجد الهادئ رغم سوء حالته.
السيدة رُقية، هي شقيقة الحسن والحسين والسيدة زينب، وجاءت إلى مصر بصحبة السيدة زينب شقيقتها الكبرى بعد موقعة كربلاء، ودُفنت بمصر.
ضريح السيدة رُقية، من الأضرحة البسيطة، التي عانت الإهمال رغم تردد الزائرين عليه، وبني بأمر من السيدة “علم الأمرية”، إحدى زوجات الخليفة الآمر بحكم الله، ويحتوي على تابوت خشبي كُتب عليه بالخط الكوفي: “هذا ضريح السيدة رقية بنت أمير المؤمنين على ابن أبي طالب”، ولم يتأكد أحد ما إذا كان الضريح به جسدها أم لا.
لجأ الناس إلى السيدة نفيسة عند جفاف النيل فدعت لهم وأخذوا حجابها وألقوه في النيل ففاض
“نفيسة العلم” التي تركها زوجها لأهل مصر
إذا كنت باحثًا عن الراحة وهدوء النفس وسكينة الروح، فعليك التوجه إلى مسجد السيدة نفيسة، التي عشقها المصريون ورفضوا خروج جثمانها الشريف عقب وفاتها.
تحفل سيرة السيدة نفيسة حفيدة الحسن رضى الله عنه، بالعديد من التفاصيل الشيقة، التي تبدأ منذ كان عمرها خمس سنوات، حيث اعتادت التدد على المسجد النبوى الذي عشقت روضته ونسائمه الشريفة، وتعلمت فيه شئون الفقه وأصول الدين، حتى أطلق عليها أهل المدينة لقب “نفيسة العلم”.
تزوجت من حفيد الإمام الحسين إسحاق المؤتمن، واختارت مصر لتكون مقصدًا لها، فرحب بها المصريون، واعتبروا منزلها مزارًا يتردد عليه المئات يوميًا، لطلب العلم والرضا، ما جعلها مشغولة عن العبادات التي اعتادت عليها، فخرجت تطلب الرحيل، ورفض الناس ذلك، وهو ما تسبب في تدخل والي مصر ووعدها بمنزل كبير وحدد لها يومان فقط لزيارة الناس، ولكنها رفضت وبقي الحال كما هو.
كانت شديدة في قول الحق، الأمر الذي جعل المصريون يشكون لها ظُلم أحمد بن طولون، ولأن موكبه كان يمر أمام منزلها، كتبت له رسالة تحذره من الظلم، وأن يخاف الله من ظلم الناس، وانتظرت الموكب وسلمتها إلى بن طولون، الذي هبط من موكبه احترامًا لها، ووعدها برد الظلم عمن تعرضوا له.
كان الإمام الشافعي كثير الزيارة لها، وعندما مرض، أرسل إليها لتدعو له، فقالت “رحم الله الشافعي كان يحسن الوضوء” فعلم الشافعي، أن ساعته قد اقتربت، فأرسل إليها طالباً أن تُصلي عليه بعد وفاته، وعندما مرت جنازته أمام منزلها، تم إدخال جثمانه إليها وصلت عليه.
عُرفت السيدة نفيسة، بدعائها المستجاب، وقيل أن المصريون لجأوا لها عند جفاف النيل فدعت لهم، وأخذوا حجابها وألقوه في النيل ففاض، وكانت خاتمة للقرآن وكثيرة للصيام، فكانت تصوم السنة بأكملها، وحجت 30 مرة.
حفرت “نفيسة العلم”، قبرها بيدها، وكانت تُصلي فيه قبل موتها، وتقرأ القرأن وتبكي داخله بشدة، وعند موتها دُفنت بنفس المكان، وعندما جاء زوجها من المدينة، أراد نقل الجثمان الشريف للمدينة للدفن مع عائلتها، وهو ما رفضه المصريون الذين تعلقوا بها، وكانوا ينظمون جولات حراسة على قبرها، ما جعل زوجها يترك الجثمان في مصر، حيث ضريحها ومسجدها الآن.
“أهل مصر نصرتمونا نصركم الله، وآويتمونا آواكم الله، وأعنتمونا أعانكم الله، وجعل لكم من كل مصيبة مخرجًا ومن كل ضيق فرجًا”.. السيدة زينب
السيدة زينب.. رمز الشجاعة النسائية في التاريخ الإسلامي
لم يعرف التاريخ الإسلامي، شجاعة كتلك التي سردتها قصة السيدة زينب ابنة الإمام على بن أبي طالب والسيدة فاطمة الزهراء، وشقيقة الحسن والحسين رضى الله عنهم أجمعين.
نشأت السيدة زينب، في بيئة علمية ودينية، وعاصرت الرسول صلى الله عليه وسلم، كما عاصرت والدها علي ابن أبي طالب، وأمها فاطمة الزهراء، وأبي بكر الصديق وعمر ابن الخطاب وعثمان ابن عفان.
تزوجت السيدة زينب، من عبد الله بن جعفر ابن ابي طالب، وانجبت منه 6 أولاد وابنة واحدة، وشهدت واقعة كربلاء، ويوم عاشوراء، الذي شهد مقتل عائلتها، ووضع رؤوسهم على الرماح، حيث استشهد أخاها الحسين وقطعت راسه، وقُتل ولداها عون ومحمد أمام عينها، ومعظم بنو هاشم في تلك المعركة.
أُخذت السيدة زينب، ضمن سبايا آل البيت، إلى والي الكوفة عبيد الله بن زياد، والذي أظهر الشماتة فيما حدث لآل البيت، فعنفته وواجهته ببشاعة ما فعل، وأنه قتل آل بيت رسول الله وسبى نسائهم.
ثم أُخذت إلى الشام، وهناك قابلت يزيد ابن معاوية، الذي فور رؤيته لها، حمل رأس الحسين الشريفة، وأخذ يُنكث ثنايا الحسين بيده، مما أثار غضبها، ولم تراعي أنها أسيرة مُكبلة بالحبال، وعنفت يزيد، وخطبت خطبة شديدة اللهجة، قائلة: “أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإمائك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت سترهن وأبدي وجههن تحدوا بهن الأعداء من بلد إلى بلد” فكشفت فعلت معاوية أمام أهل الشام.
أمر يزيد بتفريق آل البيت في أقطار البلاد، ومنحها حق اختيار البلد الذي تريد أن تُنفى فيه، فاختارت أن تأتي إلى مصر، وجمعت بعض آل البيت معها، واستقبلها المصريون استقبالًا حارًا، وهو ما قابلته بحب وقالت كلمتها الشهيرة، “أهل مصر نصرتمونا نصركم الله، وآويتمونا آواكم الله، وأعنتمونا أعانكم الله، وجعل لكم من كل مصيبة مخرجًا ومن كل ضيق فرجًا”.
وقدم لها والي مصر، قصرًا لتُقيم فيه، إلا أنها اقامت في حجرة واحدة منه أطلق عليها “مقام السيدة زينب” أما باقى القصر فقد تحول إلى مسجدًا وفقًا لوصيتها.
تختلف الروايات حول مكان جسدها الشريف وفاتها، مابين مصر ودمشق، ولكن الرواية الغالبة أنها دفنت في الضريح المُقام باسمها والذي كانت تقيم فيه بمصر.