رسميا، وبعد إجراءات طالت وشهور امتدت؛ لتتجاوز العام وتحضير طويل وتجاذبات تعددت على مدار هذا العام بين الأطراف المختلفة، انطلقت جلسات الحوار الوطني بجلسته الافتتاحية الأسبوع قبل الماضي، وبينما تبدأ جلساته النقاشية في الأسبوع الحالي، وهي التي ستتناول القضايا والعناوين المطروحة في المحاور الثلاثة، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وطرح رؤى ووجهات نظر الأحزاب والشخصيات المشاركة في الحوار. لكن على هامش ذلك كله، فإن هناك عدة ملاحظات جديرة بالاعتبار والنقاش.
أولا: انطلق الحوار رسميا، بمشاركة أحزاب المعارضة الممثلة في الحركة المدنية، ووجوه بارزة من الأجيال الوسيطة المنتمية لثورة يناير وغيرهم، وبعيدا عن التفاوت في التقديرات والدوافع والأسباب، سواء لهؤلاء ممن قرروا المشاركة أو غيرهم ممن انتقدوا المشاركين، وعدم تحقق كامل الضمانات التي كان يمكن لها أن توفر بيئة وأجواء أكثر إيجابية مع انطلاق الحوار، والتي لا تزال مطروحة وضرورية وواجبة، فإن النقطة الرئيسية هنا أنه بغض النظر عن ذلك التفاوت، فإنه رغم الانتقادات والاختلافات فمساحات التفهم المتبادل لمنطق وأسباب كل رأي قائمة حتى وإن كانت اللغة أحيانا حادة، كما أن الأهم هو أن تكون وجهات نظر المشاركين تعبيرا عما هو جوهري وضروري من المساحات المشتركة في الآراء، والمواقف ووجهات النظر والرؤى والبدائل المطروحة، ليكون حضورهم ومشاركتهم ذا أثر في طرح تلك الأفكار، وبغض النظر عن النتائج.
ثانيا: من اللحظة الأولى للدعوة للحوار في إبريل 2022، فإن المنطق كان أن هذه دعوة لحوار واسع لكن صلبه، وأساسه هو الحوار بين السلطة والمعارضة، ممثلة في أحزابها وشخصياتها وأجيالها الوسيطة والشابة وغيرها، وليس مجرد حوار بين الأحزاب وبعضها البعض؛ لأن ذلك يفقد الحوار جانبا رئيسيا وضروريا من أهميته ووجاهته، وبالتالي، فإن حضور السلطة بمؤسساتها وحكومتها ووزاراتها ومجالسها التشريعية أمر بالغ الأهمية والضرورة؛ لتكون طرفا مباشرا في الحوار والنقاش بل والاستجابة لما سوف يطرح، وليس فقط عبر حضور الأحزاب المؤيدة لها.
ثالثا: كثير من الأجواء والممارسات التي سبقت بدء الحوار وصاحبت جلسته الافتتاحية كانت شديدة السلبية، وتقدم رسائل متناقضة مع ما يفترض أن يواكب بدء الحوار واستمراره خلال الفترة المقبلة، والتي يفترض أن تكون مرحلة أكثر انفتاحا على مستوى الحضور العام لمختلف الآراء ووجهات النظر سواء في جلسات الحوار، أو وسائل الإعلام أو المؤتمرات العامة أو غيرها، وعلى مستوى الحراك السياسي والمجتمعي بشكل عام، وعلى مستوى الأداء الأمني في التعامل مع أصحاب وجهات النظر المختلفة والتعبيرات عن الرأي مهما بلغت حدتها.
رابعا: نعلم ويعلم الجميع بما في ذلك المشاركين أنه لا تغيرات كبرى جرت في بنية السلطة أو طريقة تفكيرها أو انحيازاتها، لكن ومع ذلك، فإن هناك مساحة تبدو مختلفة عن السنوات السابقة فيما يتعلق بالمجال السياسي، وبعيدا عن أسبابها وتفسيراتها ودوافعها، فإن الأهم هو الاستفادة من ذلك بشكل جاد وحقيقى، عبر الاشتباك مع الواقع وبلورة رؤى مشتركة وعبر إدارة نقاشات وحوارات جادة ومعمقة، وعبر إعادة تنظيم الصفوف واستكشاف آفاق المستقبل القريب وفرص الحراك السياسى – لا الاحتجاجي – والبناء التنظيمي – لا التنسيقي – لأن هذه هي المحكات الرئيسية والاختبارات الحقيقية لجدوى عملية الحوار، وأثرها على المجال العام لا أن تكون مجرد نقاشات لموضوعات محددة لفترة مؤقتة في أماكن محددة وينتهي الأمر.
خامسا: بقدر ما هناك طموح لدى بعض الأطراف في الخروج بتوصيات ومخرجات جادة وقابلة للتطبيق من الحوار الوطني، بقدر ما ينبغي إدراك أن حدود ذلك على إمكانيتها تبقى في حدود إعادة تأسيس قواعد، وضوابط الحياة السياسية والعمل الحزبي والسياسي والانتخابي وضمانات حرية التعبير عن الرأي وغيرها، لكنه لا يعني تغيرات جذرية في المشهد العام، لكن مع ذلك، فإن هناك عمليات أخرى بالغة الأهمية والأثر على المدى الأبعد، أولها هو اختبار إمكانات وفرص الحوار الجاد والمباشر الأقرب لعملية التفاوض منها للحوار بين أطراف السلطة وأطراف المعارضة، وثانيها هو توسيع مساحات الحركة والتعبير عن الرأي على هامش عملية الحوار نفسها، وثالثها هو إدخال المجتمع والرأى العام طرفا عبر متابعته وتعليقه وإبداء رأيه على ما يطرح ويدور في جلسات الحوار، وإعادة طرح واختبار الأفكار والرؤى والسياسات المغايرة والمختلفة مع السلطة.
سادسا: مع كل ذلك، فإنه لا يبدو سرا ولا خافيا على أحد أن أحد الأهداف الرئيسية لقطاع معتبر من المشاركين في الحوار هو، استمرار عمليات الإفراج عن سجناء الرأي بمعدلات أوسع وأسرع وبآليات أكثر تحديدا ووضوحا، وبالتالي فإذا كان ذلك أحد ضمانات الحوار الوطنى كما طرحت المعارضة منذ الدعوة له، ورغم تقديرها بأنه لم تتم الاستجابة له بشكل كامل وواسع، إلا أن الأهم الآن هو استمرار ذلك المسار وتأكيده وتواصله واتساعه وتسارعه، وليس توقفه أو المزيد من تباطؤه أو التحركات المناقضة له باستمرار عمليات الملاحقة والقبض والحبس، التي صحيح أنها لم تتوقف على مدار العام الماضي لكن آن الآوان؛ لأن يطرح ذلك بشكل جاد وحقيقي وفي إطار إدراك فعلي، لأن تخفيف القبضة الأمنية عن أصحاب الرأي الآخر وممارسي العمل السياسي السلمي، هو حجر الأساس في أي عملية سياسية مقبلة يتوافر لها الحد الأدنى من شروط توفير أجوائها الملائمة.
سابعا: الرهان بشكل كبير على الحوار ومخرجاته خطأ بالغ في تقديري، كما أن عدم الاهتمام الكامل والنهائي به خطأ لا يقل في درجته، والمسألة بوضوح أن هناك تغيرات ومستجدات طوال الوقت، وأن هناك مساحات وفرص، وأن هناك أوضاعا سياسية واقتصادية واجتماعية من الصعب تحمل استمرارها على ما هي عليه، وبالتالي، فإن هذا الحوار ليس غاية المنى والمنال، ونتائجه لن تحقق حلم تحول مصر لدولة مدنية ديمقراطية غدا صباحا، لكنه مساحة وهامش قد يصلح للبناء عليه، دون يقين نهائي وكامل في ذلك، وإنما هي تجربة تستحق المحاولة ولننتظر جميعا النتائج، لا نتائج الحوار في حد ذاته، وإنما نتائج التفاعلات داخله وخارجه وعلى هامشه.
ثامنا: قد تكون أجواء الحوار الوطنى التي قد تستمر لأسابيع أو شهور مقبلة بدرجات متفاوتة من الزخم تعلو وتنخفض بحسب ما يدور فيه وحوله ويخرج منه وعنه، فرصة ملائمة أيضا لتفكير المعارضة وبالذات أجيالها الوسيطة والشابة في تجديد دمائها وأفكارها، وإعادة النقاش في صفوفها حول ما يصلح للمرحلة الحالية وما يصلح للمرحلة المقبلة، وأن تدير حوارا جادا في صفوفها حول ما تحتاجه المعارضة نفسها من آليات، وأدوات وتكتيكات سواء على مستوى تنظيمها أو حركتها أو أفكارها أو خطابها.
أخيرا، فإن الحوار الوطني وبغض النظر عن الآراء المختلفة حوله، والتقديرات المتعددة له والنتائج المتوقعة أو المرجوة منه، ليس معيارا للفرز كما يحاول البعض أن يفعل، لأنه يأتي في لحظة شديدة التعقيد والالتباس والتداخل بشكل عام، وبعد سنوات من الإغلاق شبه الكامل للمجال العام، وفي ظل بدائل محدودة وليست محل اتفاق عام وواسع، وفي ظل تحديات حقيقية سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، ثم أنه لا يعني بأي حال من الأحوال أن المواقع تبدلت، أو المواقف اختلفت جذريا أو أن المعارضة التحقت بالسلطة أو أن السلطة تسعى لمشاركة المعارضة في قراراتها وصلاحياتها، هو مشهد عام وواسع يمكن الاستفادة منه لكل الأطراف، شرط أن تتوافر له الحدود الدنيا من الجدية، وهو ما لا يزال غير متحقق بشكل كامل وواسع، وبالتالي فإنه بالتزامن مع سير عملية الحوار نفسه، تحتاج كل الأطراف لتحسين وتهيئة البيئة العامة المحيطة بالحوار عبر إجراءات واضحة ومعروفة وجادة وتكرر الحديث عنها والدعوة لها كثيرا، وهذا أوان الاستجابة لها.