في حوارٍ لي مع الإعلامي الكبير والصديق العزيز الدكتور حسام السكري عن ديوان “من نور الخيال وصُنع الأجيال في تاريخ القاهرة” لمولانا وسيدنا جواهرجي الشعر العربي فؤاد حداد رضي الله عنه، قُلتُ إنني لا أتمكن من قراءة شعر مولانا دون تشكيلٍ كأني أقرأ الفصحى، وإلا فسأجد نفسي وقد سَقطتُ في فخاخ الشرود والخروج عن السياق، وضلال فهم المعنى وعدم الإحساس بالموسيقى الأسطورية والنَفَس الملحمي.
لم يُفاجئنى العزيز حسام السكرى حين قال لي: -وهو من عُشاقِ مولانا ومُجيدي إلقاء أشعاره- أنه يسلك نفس مَسلكي حين يتصدى لتلك المهمة الممتعة. مؤكِدًا، تساءل حسام عن كيفية أن يفهم المرء مثلا مُفرَدَتي “قبلسه” و”بعدسه” بقصيدة “شَرع التسالي” إن لم يقرأهما تشكيلًا:
“أنا والد الشعراء فؤاد حداد
أيوه أنا الوالد وياما ولاد
قَبلِسَّه رَبيتهُم بكل وداد
بَعدِسَّه تلميذ أوّلي وإعداد”
فرددت عليه بمثال آخر عن كيفية قراءة وفهم المُفردَتين “شباته” و”لباته” في قصيدة “موال الشيخ سعيد” دون تشكيل:
“بَأعلِمَك زَهوة الموّال وشَبّاتُه
سَبْح بعُرفُه وضرب ف الجَوّ لَبّاتُه
نادى حُصان أبو زيد ع الشمس لَبّاتُه
باتوا العرب ف التُرب، ع الذُل لم بَاتوا
بَعَت لُهم كهربائي الجِن لَمباتُه”
ثم زِدتُه بمثالٍ ثانٍ عن كيفية قراءة وفهم البيتين التاليين بكامل مفرادتهما في قصيدة “يا ليل أسمر” بلا تشكيل:
“قَطَع خيَالى عَلى خَطوة غَزال لَبَني
في رَدّه ونْخَالَه وإلا ف بَحْر قَلَّبَني”
كان مولانا وسيدنا والد الشعراء فؤاد حداد رضي الله عنه، جواهرجي الشعر العربي دون منازعٍ، وإن كان أبو الطيب المتنبي عبقري الفصحى قصب السبق زمنيًا.
كانت تربط المرحوم الدكتور هشام السلاموني الذى كان يعمل طبيبًا جَذَبه الأدب، والفن ناقِدًا وشاعِرًا وكاتبًا للسيناريو وصاحب قلمٍ، أبدع في المسرح والدراما التلفزيونية وفي مقالاتٍ عن الحياة والسياسة والمجتمع، بمولانا صِلَةً إنسانية سمحت له بالاقتراب منه فذاب عِشقًا، وزادنا فوق العشق دهشة لا تنتهى حين روى حكاياته معه في سلسلةٍ، كان قد نشر حلقاتها تباعًا بجريدة القاهرة، ثم جُمِعت في كتاب صَدَر عن المجلس الأعلى للثقافة في 2017، وهي حكايات آثرتُ أن أُطلِع القارئ الكريم على واحدة منها فقط، تخيرتها بعناية أرجو أن تليق بمقام مولانا حسبما تتسع له مساحة المقال المحدودة.
كانت تصوراتي عن رؤية مولانا للمرحوم الرئيس جمال عبد الناصر، شديدة الالتباس، فلم أفهم أبدًا كيف يمكن لمن أمضى ثمان سنوات من أجمل سنين عمره على دُفعتين في سجونِ حاكمٍ، أن يكتب فيه مثلما كتب مولانا من قصائد أعتبرها وغيرى من أعذب وأروع ما كَتَب، بل ومن أعذب وأروع ما كُتِب في الرئيس ناصر من شِعرٍ على الإطلاق.
كان مولانا، الذي لم يُعرَف عنه سوى الاعتزاز بالنفس والأنَفَة وعدم مُمَالأَةِ أي حاكم منذ أيام فاروق الأول والأخير، يحب الرئيس ناصر بصدقٍ نابعٍ من قناعةٍ تنامت عبر السنين بدءًا من 1955، بأن الرئيس لديه مشروع وطني حقيقي وجاد يترجمه على أرض الواقع بإنجازات ملموسة؛ لتحقيق التنمية المستقلة وإنصاف الفقراء وتأسيس الأمن القومي العربي.
ورغمًا عن ذلك الحب الجارف، لم يَسْعَ مولانا لتبرئة الرئيس ناصر أبدًا من ذنب معاناته، وزملائه المساجين ولم يلتمس له أعذارًا كتلك التى قدمها البعض من أن الرئيس لم يكن يعرف ما يحدث، أو أنه كان يعرف ولا يوافق، وهي أعذارٌ تتنافى مع شخصية الرئيس المُسيطرة بل وتسيئ له، إذ تُظهره بمظهر الحاكم الغائب وهو لم يكن كذلك أبدًا.
يروي المرحوم هشام السلاموني، أن مولانا كان قبل 1955 يستريب مع رفاقه بالحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) في الرئيس ناصر باعتباره زعيمًا لثورة الضباط الأحرار، خصوصًا بعدما كانت “حدتو” قد شاركت في الثورة وساهم أبناؤها من الضباط مساهمة شديدة الأهمية في نجاحها (المرحوم يوسف صديق مثالًا)، ثم كان أن تنصلت الثورة من المبادئ التي أعلنتها، وبالتحديد في مسألة الديمقراطية فتلاعبت بالدستور في قضية الوصاية على العرش، ثم ألغت الدستور وحَلَت الأحزاب وبدأت بالتنكيل بالقوى السياسية، وعلى رأسها “حدتو” وغيرها من تشكيلات اليسار المصري المتنوعة، خصوصًا بعدما بدأت في خطب ود أمريكا التي كانت “حدتو” تراها الوجه الجديد للاستعمار فيما بعد الحرب الكونية الثانية، فظل مولانا على ارتيابه وتوجسه من الثورة وقائدها إلى أن أتى العام 1955، حامِلًا ريحًا طيبة. شهد هذا العام افتتاح مؤتمر باندونج الذي كان بشيرًا لانطلاق حركة عدم الانحياز وبدايةً لدعم مصر لحركات الاستقلال بالعالم الثالث، وشروعًا في تطبيق إجراءات تتعلق بالعدالة الاجتماعية؛ لتتغير رؤية مولانا الذي كان في السجن، وقتذاك للرئيس ناصر ولتتحول تلك الرؤية إلى عِشقٍ صافٍ -حسب وصف السلاموني- بعد تأميم قناة السويس في 1956.
عن هذا الأمر يروي المرحوم هشام السلاموني عن مولانا، أنه كان ذات يوم في السجن يعاني من آلام في البواسير، وآلام أخرى تسبب فيها تجمع صديدي في أحد أصابع قدميه، وكان يزامله حبيسًا في نفس الزنزانة المرحوم الأستاذ صلاح حافظ الذي لم يكن يحب الرئيس ناصر، وكان مولانا يخفف الألم المزدوج في البواسير وإصبع القدم بتحويله إلى الشعر، فدخل مازحًا في حوار شِعرى مع المرحوم صلاح حافظ خَلَطَ فيه العربية بالإنجليزية:
-مولانا: آى آم I am مِدوحَس ومْبوصَر
-صلاح حافظ: من عهد مينا أو زوسر
-مولانا: يعيش جمال عبد النُوصَر
في موضع آخر من الكتاب الذي أُوصى كل مريدي مولانا باقتنائه كوثيقة هامة تحوي من الحكايات/الكنوز المخفية الكثير، يروي المرحوم السلاموني، أن ناشِرًا لبنانيًا وآخر عراقيًا كانا قد تقدما بعرض مالي سخي خلال سبعينات القرن الماضي؛ لنشر ديوان “موال البرج” الذي كان قد كتب قصائده عن فترة سجنه ما بين 1959 و1964.
رفض مولانا العَرضَيّن وقد كان حينها يمر بضائقة مالية قائلًا: “لن أشترك في حملة تشويه جمال عبد الناصر مهما كان الثمن.” ثم أردف، “ليس عبد الناصر هو المقصود من هذه الحملة، ولكن ما يمثله جمال عبد الناصر هو المقصود، الاشتراكية مقصودة، والتحرر الوطني مقصود، وأنا بهذا النشر لا أخون عبد الناصر فحسب، ولكن أخون كل ما ناضلت من أجله، وإن كان ما تحقق منه هو الشيء القليل”.
غادر الرئيس ناصر دُنيانا الفانية في 1970، وظل مولانا على درب العِشق يَسيرُ لخمسة عشر عامًا كاملة، شهد فيها ردةً على كل ما آمن به إلى أن أتَم الأثر في 1985، تاركًا إيانا نتحرى جميلَ صُنْعِهِ ونتأمل بديعَ جواهرهِ في دهشة لا تنتهي.
“واللي انكَتَب ع الجبين، يشهد عليه النَحْر
ما يعرَف البَحر إلا اللي اتوَلَد غرقان”