منذ وقت ليس ببعيد، أدانت دول في جامعة الدول العربية “المذبحة الجماعية” للرئيس السوري بشار الأسد في حق السوريين، وطالبت بالمساءلة عن هجمات نظامه بالأسلحة الكيماوية. اليوم، تبدو هذه الكلمات جوفاء، حيث تم الترحيب بالأسد بحرارة مرة أخرى في جامعة الدول العربية هذا الشهر.

في التحليل المنشور على atlantic council، أشارت إليز بيكر المحامية في مشروع التقاضي الاستراتيجي التابع للمجلس الأطلسي، إلى أن الخطوة الأخيرة في تطبيع العلاقات مع الأسد قوبلت باحتجاجات في شمال سوريا وبمشاعر اشمئزاز وغضب من السوريين الذين فروا من البلاد وجرائم نظام الأسد. هناك العديد من الأسئلة المتروكة حول ما إذا كان الأسد ونظامه سيواجهون العدالة في يوم من الأيام.

وهناك أيضًا، العديد من الأسباب للاعتقاد بأن تحركات الدول لتطبيع العلاقات مع الأسد قد تزيد من صعوبة محاسبته ونظامه على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها. لكن، وفق التحليل، لا تزال هناك قائمة بأدوات المساءلة لسوريا. في الواقع، قد تتوسع سبل تحقيق المساءلة مع التطبيع.

الولاية القضائية العالمية

إحدى أدوات المساءلة القليلة المستخدمة حاليًا في سوريا هي إطار الولاية القضائية العالمية، والتي تُمكّن المحاكم المحلية من محاكمة الجرائم الفظيعة المرتكبة خارج حدودها على أساس أن الجريمة خطيرة لدرجة أنها تهدد المجتمع الدولي ككل.

ومع تطبيع العلاقات، قد يسافر الأسد والقيادة العليا لنظامه بشكل متزايد خارج سوريا والمنطقة، لذلك يتحتم على أي دولة ترغب في دعم مطالب السوريين بمساءلة نظام الأسد، أن تضمن أن لديها القوانين والموارد المتاحة لاعتقال أي مجرم حرب مشتبه به والتحقيق معه ومقاضاته.

يرجح التحليل تجنب معظم الجناة السفر إلى دول في أوروبا الغربية تعارض تطبيع العلاقات مع الجناة ومعروفة برفع قضايا الولاية القضائية العالمية، مثل ألمانيا وفرنسا. أيضًا، تمتد قوانين الولاية القضائية العالمية خارج أوروبا الغربية، إلى أوروبا الشرقية وآسيا وأمريكا الجنوبية وإفريقيا، وحتى بعض البلدان في الشرق الأوسط. وفي حين أن معظم هذه الدول لم تستخدم قوانين الولاية القضائية العالمية الخاصة بها إلا نادرًا أو لم تستخدم مطلقًا، فإن الدعوة المنسقة من قبل المجتمع المدني في سوريا والبلد المعني، جنبًا إلى جنب مع الدعم أو تقديم الموارد من البلدان التي لديها نصيب من الممارسات في قضايا الولاية القضائية العالمية، كل ذلك يمكن أن يساعد في تغيير يحقيق المحاسبة.

ومن زاوية أخرى، إذا حدث وسافر الجناة إلى بلدان لا تُفعِل أطر الولاية القضائية العالمية، يمكن لهذه البلدان أيضًا أن تحذو حذو بلجيكا في السعي لمحاكمة الدكتاتور التشادي السابق حسين حبري على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتعذيب. يمكن أن يشمل تحركاتها إصدار أوامر توقيف بموجب قوانين الولاية القضائية العالمية، ومتابعة طلبات التسليم أينما وجد الجناة، ورفع القضايا في محكمة العدل الدولية أو غيرها من المحاكم الدولية لضمان المحاكمات في نهاية المطاف.

محاكمات القيادة العليا في المحاكم الوطنية

يشير التحليل إلى أن محاكمات الاختصاص العالمي عادة ما تتطلب وجود الجاني، فهناك بعض الدول تسمح بإجراء محاكمات معينة غيابيًا، شريطة أن تكون هناك ضمانات كافية لحماية حقوق المتهم في المحاكمة العادلة. على سبيل المثال، يمكن لفرنسا إجراء محاكمات غيابية عندما تكون الضحية من مواطني ذلك البلد. وبالفعل تستخدم السلطات الفرنسية هذه القوانين لمحاكمة ثلاثة من مهندسي أجهزة الاعتقال والتعذيب التابعة لنظام الأسد -علي مملوك وجميل حسن وعبد السلام محمود- لدورهم المزعوم في الاحتجاز التعسفي والتعذيب والقتل لأب وابنه مزدوجي الجنسية الفرنسية السورية. لن تؤدي هذه المحاكمة إلى حبس المتهمين إذا ثبتت إدانتهم، على الأقل في الوقت الحالي. ومع ذلك، سيكون الحكم بمثابة لحظة قوية للضحايا والمحامين السوريين لتقديم أدلة ضد المسؤولين عن تصميم الجرائم الفظيعة والأمر بتنفيذها في سوريا.

وللمساعدة في سد فجوة العدالة في سوريا، يجب على الدول التي لديها سلطة إجراء محاكمات غيابية استكشاف الفرص التي قد تكون متاحة وسد الثغرات الاستراتيجية في مساحة المساءلة في سوريا. على سبيل المثال، قد يشمل الأمر القضايا المرفوعة ضد الجناة رفيعي المستوى الذين يكونون أقل عرضة للسفر إلى البلدان التي توجد فيها محاكمات ذات اختصاص قضائي عالمي، ولكن قد يكون لقضاياهم أهمية رمزية كبيرة للضحايا.

سوريا وأوكرانيا

بينما تتقدم محاكمات الولاية القضائية العالمية ببطء بالنسبة لسوريا، كانت العديد من الدول حريصة على رفع قضايا الولاية القضائية العالمية المتعلقة بأوكرانيا. في العام الماضي، فتحت ألمانيا وكندا ودول أخرى تحقيقات هيكلية لبدء قضايا الولاية القضائية العالمية ضد الجناة الروس. يقول التحليل أنه يجب على هذه الدول التحقيق بشكل استباقي في الروابط بين النزاعات في أوكرانيا وسوريا للتأكد من أن أي محاكمات مستقبلية تتعلق بأوكرانيا تتضمن أيضًا روابط ذات صلة بسوريا. على سبيل المثال، قد يكون قائد روسي مسؤول عن جرائم فظيعة في أوكرانيا قد ارتكب تلك الجرائم نفسها في سوريا. كذلك، المسئولون عن استخدام طائرات إيرانية بدون طيار لتسهيل ارتكاب جرائم فظيعة في أوكرانيا ربما فعلوا الشيء نفسه في سوريا. أو ربما ارتكب الجنود السوريون الذين ورد تجنيدهم في حرب أوكرانيا، جرائم فظيعة في سوريا.

عندما يُشتبه بارتكاب الجاني الذي تم القبض عليه جرائم في كل من أوكرانيا وسوريا، يجب أن تظهر هاتان المجموعتان من الجرائم في محاكمة الولاية القضائية العالمية.

ضمان تعويضات الضحايا

أحد عناصر العدالة، بالإضافة إلى المحاكمات التي تحدد المسئولية القانونية عن الجرائم، هو تعويض الضحايا، لمساعدتهم على التعافي وإعادة بناء حياتهم. منذ الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا العام الماضي، بحثت الدول بشغف عن السبل القانونية للاستيلاء على الأصول الروسية واستخدام العائدات لضمان التعويضات وإعادة الإعمار في أوكرانيا. في 17 مايو الجاري، أنشأ مجلس أوروبا سجلاً للأضرار التي لحقت بأوكرانيا كخطوة أولى نحو ضمان تعويض الضحايا الأوكرانيين. يجب على الدول التي ترغب في ترسيخ العدالة استكشاف تطبيق هذه الأدوات القانونية لضمان حصول الضحايا السوريين أيضًا على تعويضات عن الضرر الذي لحق بهم.

يلفت التقرير إلى أن التطبيع مع نظام الأسد، رغم أنه سيضمن للأفراد المرتبطين بنظام الأسد التمتع بوصول متزايد إلى الأسواق المالية العالمية، وقد يحاول هؤلاء الجناة شراء عقارات في الخارج أو وضع أموالهم في بنوك أجنبية، إلا أن هذه التحركات ستزيد بدورها من المسارات القانونية للاستيلاء على الأصول وإعادة توظيفها كتعويضات للضحايا السوريين.

يمكن للدول أيضًا تمويل تعويضات الضحايا السوريين باستخدام مجمعات التمويل الحالية التي تم الحصول عليها نتيجة للانتهاكات في سوريا. على سبيل المثال، حكم  ب 778  مليون دولار ضد شركة Lafarge الصناعية الفرنسية بسبب الانتهاكات في سوريا، أو عائدات انتهاكات العقوبات، أو أصول عم بشار الأسد رفعت الأسد الذي احتجزته فرنسا بعد إدانته بالفساد.

قضايا الجنائية الدولية

لا تحقق المحكمة الجنائية الدولية في الجرائم المرتكبة في سوريا لأن سوريا ليست دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية ولأن روسيا والصين استخدمتا حق النقض ضد إحالة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، النظام السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية. ومع ذلك، فإن سوريا لا تقع بالكامل خارج اختصاص المحكمة الجنائية الدولية وذلك باستخدام سابقة قانونية تم تأسيسها في ميانمار في عام 2019, هذه السابقة تُمكِن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان من فتح تحقيق في الجرائم المرتكبة في سوريا والتي أدت إلى الترحيل القسري إلى الأردن، وهي دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية.

المحكمة الجنائية الدولية هي وسيلة مساءلة مهمة بشكل خاص يجب تفعيلها في سوريا. من شأن تحقيق المحكمة الجنائية الدولية، على سبيل المثال، توفير موارد إضافية للتحقيق وبناء القضايا. كما أن التحقيق سيرسل رسالة إلى الأسد لأن المحكمة الجنائية الدولية يمكنها إصدار أوامر اعتقال ومحاكمة رؤساء دول.

يؤكد التحليل أنه وبينما لا يزال الأسد في السلطة، فإن المحكمة الجنائية الدولية هي فعليًا السبيل الوحيد لتأمين اعتقاله ومحاكمته اللاحقة. وشهد العصر الحديث لمساءلة هؤلاء الجناة نجاحًا كبيرًا نسبيًا لضمان أن يواجه رؤساء الدول أو القوات العسكرية الرئيسية الذين صدرت بحقهم أوامر اعتقال أو لوائح اتهام، المساءلة عن جرائمهم.

يؤكد التحليل تلقي خان عدة طلبات لفتح تحقيق في سوريا، لكنه فشل حتى الآن في القيام بذلك. ويقول إن إحالة سوريا من قبل دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية من شأنه أن يزيد بشكل كبير من احتمالية إجراء تحقيق. كانت عشرات الدول متحمسة العام الماضي لإحالة أوكرانيا إلى المحكمة الجنائية الدولية وينبغي أن تفكر في فعل الشيء نفسه بالنسبة لسوريا.

قضايا العدل الدولية

وفي حين أن المحكمة الجنائية الدولية تنظر في قضايا ضد الجناة الأفراد، فإنه يمكن لمحكمة العدل الدولية ضمان مساءلة سوريا من خلال الاستماع إلى قضية ضد الدولة ذاتها. وعلى ذلك، تستعد هولندا وكندا لتقديم أول قضية لمحكمة العدل الدولية ضد سوريا لانتهاك اتفاقية مناهضة التعذيب.

يشير التحليل إلى وجود إمكانية لدى الدول الراغبة في رفع قضايا أخرى ضد سوريا في محكمة العدل الدولية، لفعل ذلك. على سبيل المثال، قضايا تخص انتهاكات اتفاقية الأسلحة الكيميائية. فمنذ انضمام سوريا إلى الاتفاقية في سبتمبر 2013 – بعد شهر من تنفيذ هجوم بغاز السارين بالقرب من دمشق أسفر عن مقتل 1300 شخص بحسب التقارير – تم اتهام نظام الأسد بمئات الهجمات بالأسلحة الكيماوية. وبذلك يمكن لأي دولة عضو في اتفاقية الأسلحة الكيميائية ترغب في دعم المساءلة أن ترفع قضية ضد سوريا في محكمة العدل الدولية.

يؤكد التحليل أن الاتجاه نحو تطبيع العلاقات مع الأسد لم يكن حتميًا. التطبيع يحدث الآن لأن الدول فشلت في استخدام أدوات المساءلة الحالية لتقديم الأسد ونظامه إلى العدالة. لكنه يشير إلى أن الأدوات لا تزال متاحة، وقد تتزايد بعض فرص استخدامها. لقد طال انتظار العدالة على الفظائع التي عانى منها ملايين السوريين، وقد تساعد الجهود المتضافرة التي تبذلها الدول للسعي لتحقيق العدالة، في مواجهة الاتجاه السائد في التطبيع.


إليز بيكر
إليز بيكر

محامية في مشروع التقاضي الاستراتيجي. تقدم الدعم القانوني للمشروع الذي يسعى إلى تضمين الأدوات القانونية في السياسة الخارجية، مع التركيز على جهود الوقاية والمساءلة عن الجرائم الفظيعة وانتهاكات حقوق الإنسان والإرهاب وجرائم الفساد.

عملت بيكر سابقًا في مركز العدالة والمساءلة، ودعم جهود الناجيات في السعي لتحقيق العدالة في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والجرائم الفظيعة في المحاكم الأمريكية وآليات المساءلة الدولية. كما قادت سابقًا مشروع رسم خرائط سوريا لمنظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، باستخدام منهجية بحثية مشتركة مفتوحة المصدر وميدانية لتوثيق الهجمات على نظام الرعاية الصحية في سوريا. كما عملت مع الآلية الدولية المحايدة والمستقلة بشأن سوريا والتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان والبيئة في التطورات الزراعية في ليبيريا.