في 28 مايو/ أيار، ربح رجب أردوغان، الزعيم التركي -الذي لم يخسر الانتخابات قط- في جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية ضد خصمه كمال كليجدار أوغلو. تأتي الانتخابات الأخيرة كتتويج جديد للرجل الذي يتولى حكم تركيا منذ عام 2003، أولا: كرئيس للوزراء، ثم منذ عام 2014 كرئيس.
وفي تحليله المنشور في فورين أفيرز/ Foreign Affairs، يلفت سونر كاجاباتي مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، ومؤلف كتاب “السلطان الجديد: أردوغان وأزمة تركيا الحديثة” إلى أن الفوز الأخير جاء جنبًا إلى جنب مع اكتساح الانتخابات البرلمانية في 14 مايو/ أيار، والتي أسفرت عن فوز أحزاب اليمين المتطرف -الموالي لأردوغان- بأغلبية قوية في المجلس التشريعي للبلاد. ما يجعل أردوغان “سلطانًا لتركيا بشكل لا جدال فيه”.
يقول: في تحدٍ لتقييم العديد من المراقبين الغربيين الذين توقعوا أن أردوغان سيواجه صعوبة في الحفاظ على منصبه، أثار طريقه السلس نسبيًا؛ لإعادة انتخابه أسئلة بعيدة المدى حول مصادر سلطته.
في مواجهة الاضطرابات الاقتصادية، والاستجابة الكارثية لزلزال مدمر، ومعارضة موحدة حديثا، تقدم أردوغان بشكل مريح في الجولة التمهيدية من التصويت. وبعد أن حصل على أغلبية جديدة لائتلافه الحاكم في البرلمان، ومهاجمته كليجدار أوغلو بلا رحمة، انطلق أردوغان نحو النصر.
في السنوات الأخيرة، قارن المحللون نهج أردوغان في السلطة مع نهج القادة غير الديمقراطيين في المنظومة الليبرالية الغربية -بما في ذلك رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان- الذين استخدموا مزيجًا من النفوذ المؤسسي والإجراءات الشعبوية؛ للحفاظ على الدعم الواسع. ذهبت هذه النظرية إلى أن تركيا لم تكن دولة أوتوقراطية خالصة، بل كانت بالأحرى ديمقراطية سقطت في أيدي زعيم لديه ميول استبدادية.
اقرأ ايضا: البرلمان التركي الجديد.. الأكثر قومية ومحافظة منذ تأسيس الجمهورية
وفقًا لهذا النموذج، طالما كان بإمكان أردوغان تحقيق الازدهار للطبقات الوسطى في تركيا -مما يجعل الأتراك العاديين يشعرون بأنهم مركز البلاد- وطالما أنه قادر على إبقاء المعارضة مجزأة، وإحكام قبضته على القضاء وفي فروع الحكومة، فإن قبضته على السلطة ستكون آمنة.
لكن، يبدو أن أردوغان وصل الآن إلى نقطة انعطاف مختلفة.
في الفترة التي سبقت انتخابات مايو/ أيار، لم يكن بإمكان الزعيم الاعتماد على نجاحات اقتصادية أو معارضة منقسمة.
وعلى الورق، كان لدى الأتراك العديد من الأسباب لعدم رضاهم عن زعيمهم وللتراجع عن حكمه القوي.
لكن، هذا ليس ما حدث.
التحول إلى الاستبداد
يرى كاجاباتي أن نتائج انتخابات مايو/ أيار، تشير إلى أن تركيا قد تحولت الآن إلى استبداد أوروآسيوي أكثر من ليبرالية أوروبية غير ديمقراطية على النمط المجري.
يقول: أحد الأسباب هو أن مقاربة أردوغان للسلطة الانتخابية أصبحت تشبه بشكل متزايد نهج نوع مختلف من القادة تمامًا: الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. تمامًا كما فعل بوتين في روسيا، كان أردوغان قادرًا على تحديد معايير الانتخابات قبل وقت طويل من الإدلاء بأي أصوات.
وخلال موسم الحملة، اعتقل قادة المعارضة ونشطاء المجتمع المدني. كما شُيطنت أحزاب المعارضة على أنهم متعاطفون مع الغرب، ومخططو انقلاب، وحلفاء إرهابيون. كما لعب ببطاقة رهاب المثلية الجنسية.
ومع قسوة أقل بقليل مما اعتاد بوتين إسكات زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني، قام أردوغان أيضًا بتهميش الشخصية الوحيدة التي كان من الممكن أن تهزمه عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو، الذي وجهت إليه تهمة “إهانة مسؤولي الانتخابات” ويواجه دعوى قضائية تهدد بمنعه من ممارسة السياسة.
وبنفس القدر من الدراماتيكية، مارس أردوغان سيطرته شبه الكاملة على وسائل الإعلام التركية؛ لتغيير تركيز الانتخابات نفسها. وحظر بشكل فعال أي مناقشة للقضايا الحرجة، مثل الزلزال والاقتصاد والفساد الحكومي.
يضيف كاجاباتي: في جوهره -مثل بوتين- كان أردوغان قادرًا على استخدام مزاياه بصفته الرئيس، وسيطرته على المعلومات، وقدرته على ربط نفسه بالعظمة الإمبريالية الوطنية، إلى درجة أن الاعتبارات الانتخابية العادية لم تكن مهمة.
وأشار، إلى أن الرئيس التركي “أمضى معظم السنوات السبع الماضية في تنمية علاقات أوثق مع روسيا، ومحاكاة استراتيجيات بوتين للحفاظ على السلطة”.
حلول بوتين
على الرغم من أن تحول أردوغان نحو بوتين قد تطور بشكل تدريجي. لكن يمكن إرجاع أصوله إلى محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016 في تركيا.
يشير كاجاباتي، إلى أن هذه كانت واحدة من أكثر اللحظات أهمية في عهد أردوغان، وهي نقطة عدم يقين دراماتيكية استخدمها بوتين؛ لتقريب زعيم تركيا منه.
ففي ليلة 15 يوليو/ تموز 2016، بينما حاول المتآمرون داخل القوات المسلحة التركية الإطاحة بأردوغان، والسيطرة على البلاد. احتفظ أردوغان -الذي كاد أن يفقد حياته- بالسلطة واستعاد السيطرة. بعد أسبوعين، دعاه بوتين إلى سان بطرسبرج للاجتماع.
بالنسبة للعديد من المراقبين، جاء الاجتماع بمثابة مفاجأة: بالعودة إلى العهد العثماني، كانت روسيا هي العدو التاريخي لتركيا. وفي ذلك الوقت، كان أردوغان وبوتين على طرفي نقيض من حرب وحشية بالوكالة في سوريا.
يلفت مدير البرنامج التركي بمعهد واشنطن، إلى أن بوتين “رأى فرصة نادرة لمغازلة الزعيم التركي، مدركًا أن أردوغان كان ضعيفًا ويحتاج إلى الدعم”.
تابع: على وجه الخصوص، أتاح الاجتماع فرصة لبوتين لإحداث فجوة بين تركيا والولايات المتحدة، موطن اثنين من أكبر جيوش الناتو. لكنها قدمت أيضًا مزايا لأردوغان، الذي كان يحاول بقلق تعزيز سلطته بعد الانقلاب.
يقول: في الواقع، كان لدى الزعيمين أكثر من بضعة أشياء مشتركة. وصل كلاهما إلى السلطة حول بداية القرن الجديد -بوتين في عام 1999 وأردوغان في عام 2003- وكان يُنظر إلى كليهما في البداية على أنهما شخصيتان معتدلتان قد تدمج بلدانهما مع أوروبا والغرب.
أيضا، كلا الزعيمين قد تولى المنصب بعد عقد من الاضطرابات في بلديهما.
جاء صعود بوتين بعد سنوات من الانهيار الاقتصادي الروسي والحرب الدامية في الشيشان، وهي الفترة التي نزلت فيها روسيا إلى مستوى قوة من الدرجة الثالثة. في تركيا، صعد أردوغان إلى منصب رئاسة الوزراء في أعقاب ثلاث أزمات اقتصادية، وفساد هائل بين النخب، واشتباكات بين قوات الأمن التركية وحزب العمال الكردستاني أودت بحياة الآلاف.
بالفعل، وعد كل من بوتين وأردوغان بإنهاء الفوضى السياسية وتحقيق الرخاء، حيث حظيا في البداية بشعبية كبيرة. لكن بعد تحقيق الاستقرار والنمو الجديدين في بلديهما، طور كلاهما طابعا قويا للسلطة.
وهكذا، بالنسبة لأردوغان، الذي كان ضعيفًا بعد محاولة الانقلاب، كان بوتين زعيما قويا لم يكن بإمكانه تقديم الدعم الحاسم فقط، في وقت يسود فيه قدر كبير من عدم اليقين في تركيا. بل، وكذلك السلامة الشخصية في حالة حدوث محاولة انقلاب مماثلة في المستقبل.
بالفعل، مهد اجتماع 2016 بشكل حاسم لبوتين الطريق لتقريب تركيا من سياستها الخارجية.
اقرأ أيضا: جولة إعادة الانتخابات الرئاسية.. تصاعد مخاوف الأتراك من قيود الإنترنت
القيصر والسلطان
في عام 2017، أطلق أردوغان استفتاء؛ لتغيير النظام السياسي في تركيا من ديمقراطية برلمانية إلى نظام رئاسي، وهي خطوة من شأنها أن تمنحه سلطات تنفيذية كاسحة.
ومع ذلك، لم يستطع الفوز بهذا الاستفتاء. بعد إغلاق صناديق الاقتراع وأثناء إجراء الفرز، أعلن المجلس الانتخابي في البلاد -تحت ضغط من أردوغان- أنه على الرغم من أن بطاقات الاقتراع المختومة من قبل المجلس فقط، قد تم اعتبارها صالحة حتى تلك اللحظة في الانتخابات التركية، إلا أن بطاقات الاقتراع غير المختومة يمكن أن تكون كذلك الآن. ويمكن إضافة 2.4 مليون بطاقة اقتراع غير مختومة -ظهرت فجأة- إلى العد النهائي.
نتيجة لذلك، فاز أردوغان في الاستفتاء بهامش 1.7 مليون صوت. دخل التغيير الدستوري حيز التنفيذ في يوليو/ تموز 2018، ومنح أردوغان صلاحيات جديدة، مما جعله في وقت واحد رئيس الدولة ورئيس الحكومة ورئيس الحزب الحاكم، ورئيس الشرطة والقائد الأعلى للجيش.
ومثلما حصل بوتين على سلطات تنفيذية كاسحة في روسيا، أصبح أردوغان الآن أقوى زعيم منتخب في تركيا منذ أول تصويت حر ونزيه للبلاد في عام 1950. ليصير، في الواقع سلطان جديد.
وبشكل أكثر رمزية، مثل بوتين، الذي صور نفسه بشكل متزايد على أنه خليفة أعظم قياصرة روسيا، بدأ أردوغان أيضًا في تبني صورة رئيس إمبراطوري للدولة. في عام 2014، تخلى عن جانكايا -مجمع فلل متواضع والمكتب التقليدي لرؤساء تركيا من قبله- لصالح بيستيب، وهو قصر ضخم يضم 1200 غرفة، وحرم مكاتب في أنقرة. كما استمر في إعادة توظيف القصور العثمانية في إسطنبول كمكاتب حكومية، في محاولة منه لتصوير نفسه كزعيم عثماني جديد للبلاد.
ويوضح كاجاباتي، أنه بالإضافة إلى تعزيز قبضته على السلطة، كان لوفاق أردوغان مع بوتين عواقب وخيمة على كل من روسيا والغرب.
يقول: منذ عام 2016، سهّل بوتين أربع عمليات عسكرية تركية في سوريا، لتقويض الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني -وحدات حماية الشعب- مما ساعد في بناء وجهة نظر بين النخب الأمنية التركية والجمهور على حد سواء، بأن روسيا هي نظير أفضل وأكثر إخلاصًا لتركيا من الولايات المتحدة.
في غضون ذلك، ساعد نجاح أردوغان العسكري ضد وحدات حماية الشعب في سوريا في تحسين صورته في الداخل. حيث ينظر الكثيرون إلى حزب العمال الكردستاني على أنه تهديد للأمن القومي.
في المقابل، عرض أردوغان على بوتين يد العون في حرب أوكرانيا.
على الرغم من أن أنقرة دعمت أوكرانيا عسكريًا -ساعدت الطائرات التركية بدون طيار في منع سقوط كييف في أيدي روسيا خلال مرحلة الحرب الخاطفة الأولى من الحرب- أبقى أردوغان العلاقات مع روسيا مفتوحة اقتصاديًا. من خلال عدم الانضمام إلى العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة ضد روسيا.
كما أتاح أردوغان لبوتين إمكانية الوصول إلى الأسواق الدولية. وسمح لأوليجارشية حكمه (أي القلة حول بوتين)، الذين حُرموا الآن من الإجازات في الريفيرا الفرنسية، بالقيام بإجازات على الريفييرا التركية.
رجل موسكو
وسط هذه الشراكة المتنامية مع روسيا، ليس من المستغرب أن يتمكن أردوغان من تحقيق نتيجة ناجحة في انتخابات مايو/ أيار. لأن التكتيكات التي استخدمها -التحكم في المرشحين الذين يتنافسون ضده، والسيطرة على فضاء المعلومات بأخبار كاذبة- تأتي مباشرة من كتاب قواعد اللعبة الروسي.
اليوم، العديد من المواطنين الأتراك يعتقدون أن أردوغان جعل تركيا عملاقا صناعيا عسكريا. وأنه، على حد تعبيره “يدعم إرهابيو حزب العمال الكردستاني كليجدار أوغلو”. مثل الروس الذين يعتقدون أن بوتين “يزيل النازية” في أوكرانيا، وأنه أعاد روسيا إلى مجدها الإمبراطوري الضائع.
مثل بوتين، جعل أردوغان العملية الانتخابية مائلة إلى حد كبير لصالح شاغل المنصب، لدرجة أنه لم يعد يهم مدى حرية التصويت. كما جعلت الظروف -المحددة مسبقا- التي تجري فيها الانتخابات، من المستحيل تقريبا أن يتم التصويت “أي تصويت متحرر من القيود” على سلطان تركيا. حتى في مواجهة معارضة كبيرة ومشاكل اقتصادية متزايدة.
ويؤكد كاجاباتي، أنه في هذه المرحلة، تربط بين أردوغان وبوتين رابطة غير قابلة للانفكاك بشكل متزايد.
يقول: بالنسبة لبوتين، فإن أردوغان هو زعيم متشابه في التفكير يمكنه من خلاله تحدي النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة بشكل غير مباشر، سواء من خلال انتقاد دور الولايات المتحدة في حرب أوكرانيا، أو من خلال تعويق التوسع الشمالي لحلف شمال الأطلسي.
بالنسبة لأردوغان، قدم الزعيم الروسي نموذجًا لكيفية القضاء على المعارضة الداخلية والحصول على سلطة شبه مطلقة.
وأضاف: يعني فوز أردوغان في الانتخابات، أنه سيستمر في تفضيل موسكو دوليا، مع الحفاظ على علاقات اقتصادية قوية مع روسيا، وتزويد بوتين وأعضاء نظامه بالطرق الحيوية لتجاوز العقوبات.
وبينما يجلس أردوغان بقلق على العرش. يعرف بوتين ذلك، وهو يستخدمه لتقريب الرئيس التركي من مداره، وجعل أنقرة أقرب إلى مدار موسكو.