بعد 85 عاما حافلة قضى معظمها في النضال، تستقبل الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، في الحادية عشرة صباح غد الأحد، المناضل والحقوقي الكبير الراحل جورج إسحق، ليرقد بين أسرته وعدد من محبيه وأصدقائه، وعدد ممن رافقوه في رحلته السياسية الطويلة. بينما يُصلي الجميع في وداع يليق بصاحب الجثمان الراقد.
“لقد شرفت بالاشتراك مع المصريين في ثورة 25 يناير 2011. وطالبنا بالعيش، الحرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية.. وسوف نستمر في المطالبة بهذه الشعارات؛ لأن الثورة لا تموت.. تحية لشهداء مصر في هذه الذكرى العطرة، وتحية من القلب لكل من شارك فيها”.
قالها إسحق: في تغريدة نشرها في 25 يناير/ كانون الثاني 2022. وصاحبت تغريدته صورته الشهيرة في ميدان التحرير، وقتما وقف يحمي متظاهرين من المسلمين وهم يصلون، خوفًا من هجمات القوى الأمنية أو أتباعها المنتشرين حول الميدان آنذاك.
رغم سيرته الطويلة في النضال، ربما لم يعرف عامة المصريين جورج إسحق إلا في السنوات الأولى لظهور الإنترنت المجاني، والتي رافقها تغييرات كبرى في الحياة والشارع السياسي المصري، بعد أعوام من الركود.
هنا، كان إسحق أحد أبرز وجوه الحركة المصرية من أجل التغيير “كفاية”، التي ظهرت عام 2004 للمطالبة بعدم تمديد حكم الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، أو توريثه لابنه جمال، الذي كان يشغل منصب أمين سياسات الحزب الوطني الحاكم وقتها.
ومع اتساع المجال والحركة آنذاك، والتطورات المتلاحقة بين محاولات نظام مبارك لتمكين الوريث، انضم إسحق في عام 2010 إلى “الجمعية الوطنية للتغيير”.
لكن.. ماذا فعل قبل هذا؟
دعنا نتحدث عن جورج إسحق أبو الفضل جاد الله، وهو مصري من مواليد محافظة بورسعيد عام 1938. كان والده تاجرا للمجوهرات، وقد ترك ابنه يتدرج في مراحل التعليم المختلفة، بينما -كأي طفل ثم فتى بورسعيدي آنذاك- كان يقضي وقتا في العمل مع الفدائيين ضد الاحتلال الإنجليزي.
مع هذا، حصل جورج على الثانوية العامة بالقسم العلمي من بورسعيد. ثم تخرج في قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1964. ثم بدأ حياته العملية مدرساً للتاريخ، وانتقل بعد ذلك ليصبح مديرا لمدرسة التوفيق القبطية، ثم خبيرا تربويا، حتى تقلد منصب مدير المدارس الكاثوليكية بمصر لفترة طويلة، كما عُين بعد ذلك مستشاراً إعلامياً لها.
خلال دراسته الجامعية التي مكث فيها ست سنوات مستمتعاً بالدراسة والمناخ العام. كان جورج إسحق منشغلا بالسياسة هو ورفاقه الناصريين، وزاد تعلقه بالسياسة من خلال التنظيمات السرية، حيث كان عضواً في تنظيم “حدتو” أحد أشهر المنظمات الشيوعية المصرية آنذاك.
وبعد أن وقعت نكسة يونيو/ حزيران 1967، كان جورج واحدا ممن اشتركوا في مظاهرات الطلبة ومحاكمة قادة الطيران 1968، وفي مظاهرات 1970 وما تلاها من احتجاجات قبل حرب 1973.
هكذا، قضى الراحل عمرا في خدمة العمل العام.
حياة حافلة
على مدار مشواره السياسي، اعتقل جورج إسحق عدة مرات، وكان من بين أبرزها اعتقاله خلال الاحتجاجات التي انتشرت في القاهرة وبعض المدن في 2008، والتي وصفت إعلاميا بـ “انتفاضة المحلة”، وكانت يوم 6 إبريل/ نيسان. حيث خرجت المدينة في احتجاجات كانت هي الأقوى وقتها ضد نظام مبارك. وهو التاريخ الذي اكتسبت منه حركة الاحتجاج “حركة 6 إبريل” اسمها.
استمر الراحل في خوض غمار العمل العام، ونشر مقالاته في عدد من الصحف المصرية. كما ترشح لعضوية مجلس الشعب 2011-2012 -والتي كانت أول انتخابات تعقد بعد إسقاط نظام مبارك- لكنه لم ينجح.
لكن في العام نفسه 2011، اختير جورج إسحق عضواً في المجلس القومي لحقوق الإنسان لأول مرة. ثم مرة أخرى عام 2013 وظل عضوا به، حتى رحيله أمس الجمعة.
وقد لعب إسحق دورا كبيرا داخل جبهة الإنقاذ الوطني إبان حكم جماعة الإخوان المسلمين. وقال حينها، إن الوضع أصبح متأزمًا في ظل إصرار الجماعة على التشبث بموقفها الذي رفضته المعارضة، وكان أحد أكبر الداعمين لثورة 30 يونيو/ حزيران 2013.
وقد واجه إسحق آنذاك اتهامات بالتحريض على العنف والإضرار بالمال العام.
حتى يومه الأخير، اهتم إسحق بالانتخابات المقبلة في مصر ومعايير نزاهتها. وحتى وقت قصير قبل مرضه، كتب: “يجب أن ينتهي الزمن الذي اشتهر بعدم نزاهة الانتخابات، وضمان عدم تزوير أو تبديل الأصوات في صناديق الانتخابات، وعدم تدخل المال السياسي في شراء الأصوات سواء في الصفقات السياسية التي تعقد بين أصحاب المال، والقوى السياسية بمن يدفع أكثر، أو اتجاه الفقراء إلى بيع أصواتهم من أجل لقمة العيش”.
وأضاف: “كذلك عدم السيطرة بالمال على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وعدم استئجار فتوات وبلطجية؛ لتحقيق أمن خاص وشخصي لأصحاب المال بهدف إرهاب الخصوم”.