شل العقول مشهد الانفجار الكبير الذي ضرب خاصرة بيروت، وترك لبنان خلفه أمام أسئلة ثقيلة حول المستقبل القاتم، ففي أيام الهول هذه تفقد الكلمات معناها ويحل صمت العاجزين الثقيل. انفجار بيروت هو أحد مشاهد يوم القيامة التي يعيشها هذا الجيل من العرب، لا نتحدث هنا عن يوم القيامة التي سمعنا قصصها الأسطورية طوال فترة صبانا ومراهقتنا، ولا نقصد بالمصطلح مفهومه الديني الذي يبشر بنهاية التاريخ البشري، نتحدث هنا عن قيامة الأشباح التاريخية في وجه هذا الجيل البائس من العرب، أشباح تمرح في بلادنا تحمل الخراب والدمار، تستبيح عواصم المنطقة العربية، وتترك خلفها مشاهد خراب مثلما هو الحال في مدن سورية المدمرة وبيروت المخربة وعراق بلا مياه ولا كهرباء.
الجميع يشتهي تقسيم خرائط العرب القديمة، والبشر وقود الخرائط الجديدة التي لا نعرف حدودها ومداها، وبيروت على ما يبدو ضحية جديدة في أتون الجنون الذي تعيشه المنطقة العربية، إذ تبدو الأخيرة مستباحة هذه الأيام بشكل ينذر بتفكك الخريطة التي نعرفها منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، وهي خريطة ليست كاملة ولا نزيهة -لأنها صنيعة استعمار وأد حراك عربي سعى لمسارات بديلة وقتذاك- لكنها كل ما نعرف ونملك، فالدول التي عرفناها على مدار قرن كامل تتفكك، الأخطر أنها تعاني في وقت تتصاعد قوة دول الجوار العربي، والتي تسعى جاهدة لاستغلال حالة الانهيار العربي للتوسع وملء الفراغ الاستراتيجي لتحقيق توسعات وهيمنة تضمن لها السيطرة على مقدرات الدول العربية، وترسيخ أوضاع تضمن تحكم هذه الدول في مفاصل الدول العربية الهشة، لكن لماذا أصبحنا بهذه الهشاشة؟
لم تتجرأ دول الأطراف المحيطة بالمنطقة، وتحديدا دول إيران وتركيا وإثيوبيا فضلا عن إسرائيل، إلا بسبب حالة الضعف الداخلي للدول العربية، وهو ضعف يُغري دول الجوار العربي بالعمل على تحويل نفسها إلى دول إقليمية كبرى، عبر التدخل في دول العرب واستقطاع ما تقدر عليه من الأراضي والثروات، والبدء في عملية إلحاق عواصم عربية بها سياسيًا واقتصاديًا، بل واجتماعيًا وثقافيًا، وهي للأسف تحقق نجاحات كبيرة على الأرض.
منذ هزيمة 1967 والعالم لا يتعامل مع العرب بجدية، ينظر إليهم كظاهرة صوتية بامتياز، للأسف هم شاركوا في صناعة هذه الصورة النمطية -نحن نقصد هنا الحكومات بالتأكيد فالشعوب العربية خارج المشهد بفعل فاعل- ضيعت هذه الحكومات الفرصة تلو الفرصة، فتحولت جامعة العرب إلى منتدى تبادل الصيحات الفارغة، لم تفلح نماذج مجلس التعاون لدول الخليج (تأسس العام 1981م)، واتحاد المغرب العربي (تأسس العام 1989م) إلا في تكريس حالة الشقاق وتبادل الاتهامات وانعدام الثقة بين الدول ذات الحدود المشتركة، وتكرس الهوان العربي بعدما تدخلت الولايات المتحدة بشكل علني لتحرير الكويت العام 1991، لعدم قدرة الدول العربية على إجبار صدام حسين على التراجع عن عدوانه، منذ هذه اللحظة أدركت دول الجوار مدى الضعف العربي وبدأت الأفكار والأحلام توضع موضع التنفيذ، فالجميع أدرك أن هذه منطقة لا تجد من يدافع عنها.
مع تعفن معظم الأنظمة العربية وترهلها خلال فترة التسعينيات ومطلع الألفية، ارتفعت وتيرة تدخل دول الجوار في المنطقة، في وقت انشغل العرب بحروبهم الكلامية، ظهر المشروع الإيراني إلى العلن مبكرًا مستغلًا حماقة المستعمر الأميركي بعد غزو العراق العام 2003، بدأ الملالي يحلم بنصب عرش الطاووس واستعادة أمجاد الإمبراطوريات الفارسية الغاربة، دولة عظمى تمتد من حدود الهند شرقًا وتنتهي في مياه البحر المتوسط الدافئة غربًا، واستغلت وجود الجماعات الشيعية في الداخل العربي وعملت على ربطها بها، نموذج حزب الله في لبنان واضح، وكذلك حركة أنصار الله (جماعة الحوثي) في اليمن.
لذا لم يكن غريبًا بعد نحو 17 عامًا من خروج المشروع الإيراني إلى العلن، أن يتفاخر قادة طهران علنا بسقوط أربع عواصم عربية في قبضتهم، فإيران تريد إحياء الإمبراطورية الفارسية بهوية شيعية على جثة العراق أولًا وبقية العرب، ثانيًا، تسعى إلى طريق مفتوح إلى المتوسط عبر سورية المدمرة ولبنان الذي سلم حزب الله مفاتيحه إلى طهران، بينما تتواجد الأخيرة بالقرب من باب المندب بفضل ميليشيا الحوثي، فضلا عن سيطرتها على مضيق هرمز، وهيمنتها الخفية على صانع القرار في عدد من إمارات الخليج، فهي دولة تمتلك ميليشيات على الأرض تتبعها من منطلق ديني يطيح بالهوية العربية، بل وحتى المصالح الوطنية فلا حزب الله يفكر في لبنان، ولا الحوثي بقادر على مخالفة الأوامر الإيرانية، لذا يبدو أن طهران الرابح الأكبر في العقد الأخير، لكن هل لديها معدة قوية لهضم كل ما حققته، وهل تمتلك القدرة على تنفيذ مخططها لتحويل نفسها من قوة إقليمية إلى قوة فوق إقليمية على حساب المزيد من العرب؟ للأسف الأمر رهينة بتوافق أميركي إيراني يسمح لطهران بممارسة دور بلطجي الشرق الأوسط، وهو أمر تراهن عليه طهران حال رحيل دونالد ترامب من البيت الأبيض.
النجاح الإيراني في بلاد العرب، أيقظ الأطماع التركية، فالأتراك يحملون نظرة دونية للعرب، يطمحون في استعادة الإمبراطورية العثمانية المقبورة من متحف التاريخ وإعادة إحيائها على حساب العرب، وجد رجب أردوغان وتيار العثمانيين الجدد في الضعف العربي فرصة ذهبية للتمدد خصوصا بعد ثورات الربيع العربي العام 2011، الذي أرادت أنقرة تحويله لربيع إخواني كي تجني وحدها الأرباح في نهاية الموسم، فعملت على استخدام تنظيم “الإخوان” الإرهابي والميليشيات التابعة له لتنفيذ المخطط التركي، وحولت قطر إلى رديف لمشروعها بعدما انبطح الأمير القطري وسلم كل موارد شركته/ دويلته لخدمة المشروع التركي، ولم يجد الأخير أفضل من الدول العربية المتهالكة لممارسة غزو منظم لشمالي سورية والعراق، والتوسع في ليبيا، ولا تهدف أنقرة لتحقيق مصالح العرب في أي دولة، بل هي تسعى للحاق بإيران عبر استخدام نفس الأساليب عبر تدشين ميليشيات سنية تدين بالولاء لأردوغان.
إثيوبيا بدورها تقدمت لتصبح القوة الكبرى في القرن الإفريقي على حساب الصومال، وتسعى حاليا لتصبح القوة العظمى سياسيًا في شرق إفريقيا على حساب السودان المفكك ومصر المأزومة؛ عبر احتكار قرار مياه النيل الأزرق في يد أديس أبابا، وربما تسعى يوما للتقدم على الأرض، وليست المناوشات الحدودية مع السودان ببعيدة عن أطماع أديس أبابا فالأخيرة تسعى لبناء إمبراطورية على كامل شرق إفريقيا، على الأقل في صورة احتكار القرار السياسي في تلك المنطقة.
وما كان لدول الجوار أن تتقدم بهذه الجرأة لولا أن القلب العربي في حالة ضعف شامل وانهيار داخلي مكن الأطراف من الهجوم والتوسع بسهولة، أول أسباب هذا الضعف المزمن غلبة الاستبداد السياسي وانفراد صاحب القرار بالرأي وإبعاد كفاءات لصالح أهل الثقة ما أدى لترهل دول لا تسعى أنظمتها إلا لتأبيد الحاكم، وهي أزمة ملازمة لدول ما بعد الاستقلال. السبب الثاني يمكن في تسليم صناع القرار مفاتيح اللعبة إلى واشنطن، وهي خطيئة سمحت للأخيرة بالتلاعب بمصالح العرب لغير صالحهم. أما السبب الثالث فهو وجود السرطان الإسرائيلي في قلب العالم العربي، والذي يعمل على إضعاف مناعة المنطقة ودولها، وهو خطر يبدو أن العواصم العربية توقفت عن التفكير فيه، لأنها ببساطة عاجزة وغير قادرة وغير راغبة على تعديل المعادلة على الأرض، فالكيان الصهيوني عاش ويعيش عشرية ذهبية على مستوى الأمن الإقليمي، فجميع الدول المحيطة به في أزمات لا تنتهي، لا يعكر صفو هذا التفوق الإسرائيلي والهدوء على جميع الجبهات إلا الصعود الإيراني، فالمشاريع الإقليمية على حساب العرب تتصادم على أرضهم أحيانًا، لذا لم يكن غريبًا أن يكون هدف إسرائيل في الأشهر الماضية هو تحجيم النمو الإيراني، مستغلة في ذلك الضوء الأخضر من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
ما الحل العربي إذن؟ بداية قد لا تكون من المؤمنين بوجود العالم العربي، وقد ترى أنه مصطلح ذهني لا وجود له على الأرض، بعيدا عن هذا الجدل هناك حقيقة واحدة وهي أن أعداء الدول العربية يتعاملون معها على أنها كتلة واحدة، وأنها فضاء واحد تفضي دوله وملفاتها على بعضها البعض. ربما يكون على العرب أن يتعاملوا بهذا المنطق أيضًا الآن، هنا ومع ضياع العراق ومن بعده سورية، لم تتبق إلا مصر في الساحة، على الأخيرة -مع طي الأحداث صفحة جامعة الدول العربية إلى الأبد- أن تقود العمل العربي من منطلق جديد تمامًا قائم على الانفتاح وتقاسم المسؤوليات وتوزيع الأدوار وانتهاج دبلوماسية حقيقية، ولا بد من أن تستعيد مصر العراق وتعيده إلى المحيط العربي، وتفتح الأبواب لكسر العزلة المغاربية، والأهم أن تخرج القاهرة من خناق قصر النظر الخليجي المزمن إلى رحابة تأسيس دبلوماسية عربية حقيقية تؤسس لعمل عربي مشترك يكون نواة لسد أي أطماع خارجية وإقليمية في المنطقة.
هل هذا ممكن؟ نظريا؛ نعم، لكن فعليا هو في حكم المستحيل. في رأيي أن الوضع صعب، وإمكانية العمل العربي المشترك تكاد تكون من المستحيلات، ولن ينجو منه من يفكر بشكل منفرد، والمشكلة أن هذه الأزمات التي تحرق بلاد العرب تأتي في وقت تواجه فيه القاهرة أزمة اقتصادية خانقة، والتمدد التركي في ليبيا والتقدم الإثيوبي في ملف سد النهضة، بينما تعيش دول الخليج أسوأ أيامها الاقتصادية والسياسية مع احتمالات بتغيير قريب في النظام السعودي، بينما تعيش دول المغرب في وهم عزلة لن تنجيها من هوة السقوط.
من حقنا أن نخاف من الغد رغم أن حياتنا لم تكن عظيمة، ومن حقنا أن نحصل على حياة أفضل رغم أننا لم نجتهد كفاية، ومن حقنا أن نحلم بأمن عربي جماعي يحمي المنطقة من الأخطار المحيطة رغم أن الظواهر لا تبشر بنتائج عظيمة.