يواجه مشروع الموازنة العامة للدولة للعام المالي الجديد، تحديات كبيرة على مستوى مستهدفات أداء الاقتصاد في 2023/2024، والتي تعتبر المقياس الذي تُقاس عليه الفجوة التمويلية بالموازنة، وكيفية تغطية العجز الكلي الذي يناهز 824.4 مليارات جنيه، ما يعادل 7% من الناتج المحلي الإجمالي.
تستهدف وزارة المالية، تحقيق فائض أولي (الفرق بين المصروفات والإيرادات) عند 2.5% للسيطرة على الدين العام عند الحدود المطلوبة أي عند 91.3%، وتحقيق معدل نمو 4.1% مقابل 4.3% للعام المالي الحالي، وفي ذات الوقت خفض معدل التضخم إلى 16%، مع هبوط متوسط الفائدة على أذون الخزانة عند 18.5%، ومتوسط سعر برميل النفط إلى 80 دولارا للبرميل، ومتوسط سعر قمح عند 340 دولاراً للطن.
لكن، يظل رقم التضخم بالذات مثيرًا للجدل في ظل مستوياته الحالية، فمع تأكيد المالية أن الرقم جاء بناءً على تقديرات وزارة التخطيط والبنك المركزي، لكنه بعيد عن السوق حاليًا، فالمعدل السنوي للتضخم العام بلغ 30.6% في إبريل 2023، مقابل 32.7% في مارس 2023، وسجل المعدل السنوي للتضخم الأساسي 38.6% مقابل 39.5% في الفترة المقارنة ذاتها (التضخم الأساسي يتم اشتقاقه من التضخم العام باستبعاد السلع المسعرة إداريًا والسلع المتعرضة لهزات العرض والطلب مثل: الخضروات والفاكهة).
يرتبط التضخم بعجز الموازنة بشكل وثيق؛ بسبب وجود أثر سلبي له على النمو الاقتصادي، عبر التوسع في الائتمان الممنوح للحكومة من قبل الجهاز المصرفي، بمعدل أكبر من معدل نمو الناتج القومي ما يؤدي إلى تضخم نقدي، علاوة على تداعيات محاولات البنك المركزي السيطرة على مستوى الأسعار، عبر زيادة الفائدة التي تلقي بظلالها على الفائدة على الديون الحكومية.
في عطاء أذون الخزانة يوم 4 يونيو/حزيران الحالي، اضطرت وزارة المالية للقبول بمتوسط عائد 23.04% لأجل 91 يومًا، بينما ارتفع لأجل 273 يومًا إلى 23.83%، وفي عطاء أمس الأول الخميس ارتفع متوسط أسعار الفائدة إلى 23.94% لأجل 6 شهور و23.88% لأجل عام كامل.
عجز الموازنة.. انعكاسات خطيرة على الاقتصاد
يحمل عجز الموازنة أيضًا، انعكاسًا على ميزان الحساب الجاري الذي يُحدث عجزًا به، حينما تكون صادرات وموارد الدولة من التحويلات والتدفقات المالية أقل من الواردات والتحويلات والتدفقات المالية للخارج، وتختلف الحدود المتعارف عليها لعجز الموازنة من دولة لأخرى، لكن الدول المتقدمة تحرص ألا يزيد عن 3% من الناتج المحلي.
من الأمور الحاسمة في العجز سواء الموازنة أو الحساب الجاري أسعار النفط خاصة، أن الحكومة تستهدفه لعام مالي (من 1 يوليو/تموز 2023 إلى 30 يونيو/حزيران 2024)، بينما التوقعات العالمية تربط توقعاتها بعام ميلادي، ومن بين تلك التوقعات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، التي تتوقع مستوى 92.3 دولارات وجولدمان ساكس عند 98 دولارا وبنك أي إن جي 104 دولارات لعام 2023.
من الصعب التنبؤ بأسعار برميل النفط في المستقبل، بحسب وزير البترول الأسبق عبد الله غراب، الذي يقول إن التوترات الدولية تؤدي إلى ذبذبات في السعر، وهي أمور مرحلية، فالطلب على النفط يزداد وصناعة البترول بحاجة إلى استثمار 12 تريليون دولار مع حالة الخوف من نقص العرض، والسعر العادل للبرميل عند 80 دولارًا للبرميل.
تستهدف وزارة المالية 340 دولاراً، لطن القمح في العام الجديد وهو سعر أعلى من طن القمح حاليًا في البورصة العالمية الذي يبلغ 291 دولارًا للطن، وهو أمر أرجعه مسئول بقطاع الخزانة بوزارة المالية إلى التحوط من إمكانية عدول روسيا عن اتفاقية تصدير الحبوب، أو تطور الحرب أو ارتفاع أسعار القمح مجددًا بفعل نقص الإنتاج لظروف مناخية بأي دولة منتجة.
يضيف المصدر، أن التقديرات المبدئية في الموازنة قابلة للتعديل فالوزارة عدلت في مارس الماضي قبل ثلاثة أشهر فقط، من نهاية العام المالي سعر القمح إلى حوالي 424 دولارا للطن، مقارنة بحوالي 330 دولارًا للطن في بداية تطبيق الموازنة،, كما عدلت سعر برميل النفط إلى 95 دولارا مقارنةً بـ80 دولارًا للبرميل؛ بسبب الزيادة في الأسعار العالمية.
لماذا المستهدفات مهمة في قياس عجز الموازنة؟
تتزايد أهمية التوقعات في ارتباطها بعجز الموازنة سواء الأولي أو الكلي، والفجوة التمويلية الناجمة عن الموارد والاستخدامات، وتصل الأخيرة في الموازنة إلى نحو 4.349 تريليون جنيه، تتضمن المصروفات والفوائد المحلية والخارجية والدعم والمصروفات المتنوعة وشراء أصول غير مالية “استثمارات”، في المقبل تصل جملة “الموارد” إلى 4.3 تريليونات جنيه، موزعة بين إيرادات عامة بقيمة 2.1 تريليون جنيه، مقابل 1.5 تريليونات جنيه، في الموازنة الحالية.
تبلغ الإيرادات العامة في الموازنة 2.1 تريليون جنيه، وتتضمن الضرائب (الدخل والدمغة والقيمة المضافة والضرائب الجمركية) بجانب الإيرادات الأخرى من المنح الخارجية والمحلية، وفوائض الهيئات الاقتصادية وأرباح الشركات العامة، بينما تقدر المصروفات بمشروع الموازنة بــ 2.9 تريليونات جنيه مقارنة بـ 2.2 تريليون جنيه بالموازنة الحالية بزيادة قدرها 755 مليار جنيه بمعدل زيادة 33.8%.
ويتضمن باب المصروفات في الموازنة الجديدة زيادة في الأجور من 410 مليارات العام الحالي إلى 470 مليارا في 2023 و2024، وشراء السلع والخدمات من 125.6 إلى 139.3 مليارات، والدعم من 425.9 إلى 529.68 مليارا ـ والاستثمارات من 376.4 إلى 586.6 مليارات جنيه، والفوائد من 775.1 إلى 1.1 تريليون جنيه,
ستعتمد الدولة في تلبية جزء من الموارد على الاقتراض، وإصدار الأوراق المالية (بخلاف الأسهم) بقيمة 2.1 تريليون جنيه، وهي إجمالي الفجوة التمويلية، ولا يدخل سداد القروض ضمن احتساب العجز النقدي، أو الفائض الأولي بالموازنة العامة للدولة، باعتبار أنه يمثل إهلاكا لجانب من الدين العام على الدولة وانتقاصًا من التزاماتها، بحسب المسئول بوزارة المالية.
لماذا عجز الموازنة الأهم في الموازنة بالكامل؟
دأبت وزارة المالية على تمويل العجز عبر الاقتراض المحلي، وهناك اعتماد كبير على الجهاز المصرفي الذي يفضل تمويل الأوراق المالية الحكومية، وهو أمر يـأتي غالبا على حساب التمويل للقطاع الخاص فيما يعرف بأثر الإزاحة crowing out، فالتمويل المحلي المستهدف لسد الفجوة التمويلية يصل إلى 1.9 تريليونات جنيه.
ينجم العجز في مصر من زيادة معدل الإنفاق العام بصفة عامة ونسبته للناتج المحلي، وزيادة حجم الاقتصاد غير الرسمي وانخفاض متوسط الدخول الحقيقية والتهرب الضريبي، والمتأخرات الضريبية المستحقة للحكومة، وزيادة الاعتماد على أذون الخزانة، وارتفاع حجم الدين المحلي الذي يرفع حجم الفوائد.
فقياس عجز الموازنة يتم بالمستوى الذي يكون فيه الاقتصاد قادرًا على النمو دون مشكلات تضخمية، أو ركود مع مراعاة البعد الاجتماعي.
وثبت البنك المركزي في اجتماع لجنة السياسة النقدية الأخير سعري عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة، وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزي عند 18.25%، و 19.25% و 18.75%، على الترتيب وحال ارتفاع أسعار الفائدة محليًا عن المستهدف بمشروع الموازنة بنحو 1% (لتصبح 19%) فسيؤدي ذلك إلى عبء إضافي على الموازنة العامة للدولة بحوالي 70 مليار جنيه،
كيف يمكن السيطرة على عجز الموازنة؟
معهد التخطيط القومى بالقاهرة، اقترح قبل خمس سنوات، مسارات متكاملة لمعالجة مشكلة العجز تكمن فى تعزيز قوة وجودة النمو الاقتصادي، ويقصد به النمو الذي يُوجِد فرص عمل لائقة ويحارب الفقر، وبالتالي التحول تدريجيا من اقتصاد مبني على الموارد الطبيعية إلى اقتصاد يتمتع بالمناعة معتمد على المعرفة والابتكار.
يقترح أيضًا، تطبيقا حذرا للسياسات الانكماشية، وإصلاح الإدارة المالية الحكومية من خلال إعادة ترتيب القواعد، مع حوكمة إدارة الدين العامة من خلال اعتماد استراتيجية طويلة المدى، قادرة على التعامل مع محفظة الدين وفق النظم الحديثة؛ لضمان المساءلة. وتطوير الأسواق والمؤسسات المالية؛ لتعزيز قدرتها على تعبئة المدخرات الوطنية والعالمية بكفاءة من خلال التوجه نحو الأدوات التمويلية البديلة، والتى تسمح بإعادة جدولة الدين القائم بالتمويل البديل مثل: الصكوك الإسلامية والشراكة بين القطاعين الخاص والعام، والتمويل الجماعي.
وقال الخبير الاقتصادي محمد كمال، إن الموازنة الجديدة تتضمن جانبا إيجابيًا بزيادة مخصصات الاستثمارات العامة إلى 586.7 مليارات جنيه مقابل 376 مليار جنيه بالموازنة الحالية، بمعدل نمو سنوي 55.9% لخلق وظائف جديدة وتحسين الخدمات المقدمة للمواطنين.
أضاف، أن الوزارة حاولت تقليص العجز أيضًا عبر زيادة الاستثمارات الممولة ذاتيًا؛ لتصل إلى 306 مليارات جنيه من إجمالي الاستثمارات العامة، علاوة على موازنة البرامج والأداء وهو نظام يهدف إلي رفع كفاءة وفاعلية الإنفاق العام من خلال ربط الاعتمادات المخصصة بالنتائج المراد تحقيقها.
يتطلب علاج عجز الموازنة أيضًا، تحقيق العدالة الضريبية وإعادة تقسيم الشرائح، ووضع حد أقصى للمرتبات، وزيادة الإنفاق على التعليم والصحة والبيئة؛ لأنها الكفيلة بزيادة موارد الدولة مستقبلاً مع تأكد الحكومة المصرية من أن كل النفقات التي تنفقها تذهب للغرض التي أنشأت من أجله هذه النفقات؛ وذلك من أجل تحقيق الفاعلية والكفاءة.
يقول مسئول قطاع الخزانة، إن الوزارة تسعى للسيطرة على العجز عبر سياسة التسعير السليم للسلع والخدمات؛ لضمان كفاءة تخصيص الموارد والاستخدام، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة والضغوطات التضخمية على أسعار السلع الأساسية والغذائية، وتوسيع القاعدة الضريبية وزيادة نسبة الإقرارات الضريبية من جهات غير سيادية بنحو 0.5% من الناتج المحلي سنويًا من خلال الاستفادة من النمو الاقتصادي، وانضمام المزيد من الممولين وإجراء الميكنة الشاملة وتشجيع الاقتصاد غير الرسمي على الاندماج في الاقتصاد الرسمي.