لماذا نقرأ تاريخ الأيام الأخيرة من المماليك فنرى تشابهاً كبيراً مع أوضاعنا الراهنة؟ لماذا نقرأ تاريخ الخديوية فنرى تشابهاً مع الجمهورية الجديدة؟ لماذا أصبحنا ندرك أن ما يسمى الدولة الحديثة ليست أكثر من فصل جديد في كتاب الاستبداد؟ لماذا استمرت العلاقة بين الحاكم والمحكوم كما وصفها سعد زغلول في قوله إن المصري ينظر لحكامه كما ينظر الصيد للصائد لا كما ينظر الجندي للقائد، هذه النظرة وكلها شك وارتياب وقلق وترقب كانت في عهد المماليك أي قبل مما يسمى الدولة الحديثة، ثم استمرت بعد المماليك أي في الدولة الحديثة التي يُقال للمصريين أن محمد علي باشا قد أسسها لهم، ثم تجددت هذه النظرة في عهد الجمهورية التي قال مؤسسوها من ضباط الجيش أنهم حرروا المصريين من استعباد أسرة محمد علي باشا ومن الاحتلال الأوروبي معاً، ثم تجددت نظرة الشك والارتياب والقلق والترقب من المصريين لحكامهم فيما يسمى الجمهورية الجديدة 2014م وما بعدها التي يقول مؤسسها أنه يبني دولة جديدة، ولأجلها ينبغي على عموم المصريين تحمل ما يقع عليهم من قهر ثم من فقر على مدار الساعة، فهم بعد عشر سنوات من حكم الجمهورية الجديدة بين مقهور في حريته ومفقور في لقمة عيشه أو مقهور ومفقور معاً، ولا يملك أي منهم-مهما كانت قوته-أن يدفع عن نفسه ما نزل بها من قهر أو يرد عنها ما وقع عليها من فقر.
السؤال: لماذا حل كرباج الباشا محل سيوف المماليك؟ ولماذا حلت سجون الضباط محل كرابيج الباشا وذريته؟ ولماذا توسعت السجون في عهد الجمهورية الجديدة بما لم تتوسع من قبل؟ سجون فعلية وسجون معنوية؟ سجون ذات أسوار وسجون باتساع المليون كيلو متر مربع التي هي إجمالي مساحة البلاد؟ وباختصار شديد: لماذا حافظت الدولة الحديثة خلال أكثر من مائتي عام على طابع الحكم الفردي المطلق بكل ظلمه وفساده و استبداده وطغيانه؟.
عندما تنغلق مفاتيح المستقبل تظهر الحاجة إلىى قراءة التاريخ، سواء من المختصين في البحث التاريخي أو ممن يقدرون فضائل العلم بالتاريخ في التماس المعرفة عبر طرح الأسئلة والبحث لها عن أجوبة، حدث ذلك بعد هزيمة 5 يونيو 1967م، فذهب زهير الشايب يترجم موسوعة وصف مصر التي كتبها المستشرقون ممن علماء الحملة الفرنسية، وذهب طارق البشرى يكتب كتابه ” المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية “، وذهب صلاح عيسى يكتب ” الثورة العرابية “، وثلاثتهم ليس التاريخ اختصاصهم لكنه بدا لهم مستودع الحكمة وجراب المعرفة ومحراب التساؤل الوجودي القلق: لماذا كانت الهزيمة؟ ولماذا كانت بهذه الشناعة والبشاعة؟ وكيف يمكن تجاوزها دون أن نسقط في قاع الإحباط واليأس. أسئلة من هذا النوع تتطاير مع ذرات الهواء: لماذا لجأت الجمهورية إلى كل هذا القهر؟ ولماذا أنزلت بالمصريين كل هذا الفقر؟ ولما خضع المصريون كل هذا الخضوع؟ ومن أي باب يمكن للمصريين أن يخرجوا مما وصلوا إليه من اضمحلال تحت قيادة الجمهورية الجديدة ؟. هذه أسئلة تعود بنا للتاريخ القريب والبعيد، لا يقتصر أمرها على أهل التاريخ، ولا على عامة المثقفين، ولكنه يشغل عموم المصريين، أجزم بكل يقين أنه-بعد عشر سنوات من حكم الجمهورية الجديدة-فإن كل المصريين يتساءلون: أين وكيف ومتى وبأي ثمن يكون المخرج مما آلت إليه حياتهم؟ وقد تحولت سنوات الجمهورية الجديدة أشبه بنفق مظلم له فتحة مدخل وليست له فتحة مخرج ومعدوم الإضاءة ومحروم التهوية.
حتى نفهم معنى الجمهورية الجديدة وما ألحقته بالمصريين من قهر وفقر، نقف أمام واقعتين بسيطتين لكن لهما دلالات عظيمة
1- الواقعة الأولى تدور حول اعتزام رئيس حزب الوفد الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية في ربيع 2023م، أي بعد مرور مائة عام على أول انتخابات خاضها حزب الوفد بقيادة سعد زغلول، وفقاً لدستور 1923م الذي كان من ثمار ثورة 1919م، وقد فاز الوفد بالأغلبية في مواجهة أحزاب تمالئ الملك والاحتلال، وشكل أول وزارة وطنية منتخبة في يناير 1924م، ثم رفض سعد زغلول الانصياع لأوامر الاحتلال التي طلبت منه إخلاء السودان من القوات المصرية، وترتب على ذلك أن تقدم باستقالته، هكذا كان حزب الوفد قبل مائة عام، يقود الشعب في مواجهة الملك والاحتلال معاً. لكن بعد مائة عام أي في 2023م، وصل حزب الوفد إلى اضمحلال كامل، زعيمه ليس معروفاً خارج مقر الحزب في حي الدقي، هذا الزعيم لما أعلن اعتزامه الترشح لمنصب الرئيس حرص على أن يؤكد أنه لم يترشح لينافس رئيس الجمهورية على المقعد ولكن يترشح من باب الدعم والتأييد الكامل للرئيس، عدمية سياسية إن كانت تُفبل من سابلة السياسة وسوائمها الرحل فلا تليق من حزب عريق في النضال الوطني مثل حزب الوفد ولا تليق ممن يشغل منصب زعيم الوفد ويجلس تحت صورة سعد زغلول، في هذه الواقعة لم يتأكد فقط اضمحلال الوفد، لكن تأكد اضمحلال السياسة برمتها، اضمحلال أبسط معاينها التي كافحت لأجلها أجيال من المصريين، اضمحلال معنى الدستور والقانون والحزب والانتخابات والتصويت وإرادة الشعب والتداول السلمي والتغيير المنظم للسلطة، اضمحلال يرتد بمصر إلى بدائية سياسية محزنة، هذه البدائية السياسية المحزنة هي جوهر الجمهورية الجديدة 2014م وما بعدها.
2-الواقعة الثانية: تصريحات رئيس الجمهورية في الرابع عشر من يونيو 2023م، قال ” الأكل غالي لكن احنا بنبني دولة “. قالها بعفوية وبساطة شديدة، لكنها تمثل خلاصة الأجوبة عن كل الأسئلة الوجودية القلقة: لماذا نحن هنا؟ لماذا نحن في هذا الإضمحلال؟ لماذا نحن في هذا القاع؟. الجواب: لأننا نبني دولة. نبني دولة بغض النظر عن البشر في هذه الدولة، المهم هو الدولة وليس البشر، المهم هو بناء سلطة قوية ولو على حساب راحة الشعب، ليذهب البشر إلى الجحيم المهم هو ازدهار الدولة كجهاز له مهمتان: القمع ثم الجباية. هذا التصريح صادم لكنه صادق ومحزن لكنه كاشف عن طبيعة الدولة المصرية، قبل الحداثة وبعدها، وقبل محمد علي باشا وبعده، وقبل الجمهورية وبعدها، وقبل السيسي وبعده، المهم هو الدولة وليذهب الناس فداءً للدولة، الدولة غاية والبشر وسيلة. من المماليك إلى نابليون إلى الباشا وسلالته إلى الضباط الأحرار إلى الجمهورية الجديدة الكل يزعم أنه يبني دولة، بناء الدولة الحديثة هو سر محنة المصريين المعاصرين.
ما زال السؤال معنا: لماذا وصلنا إلى هنا، إلى هذا الاضمحلال، بعد مائتي عام مما يسمى الدولة الحديثة؟.
قبل الجواب يلزم الوقوف أمام عدة حقائق:
الأولى: أن المماليك في النصف الثاني من القرن الثامن عشر سبقوا إلى التعامل مع أوروبا، يشترون منها السلاح، ويستجلبون منها الخبراء والمستشارين، ويتاجرون معها تصديراً واستيراداً، كما ذكر ف. روبرت هنتر في ص 21 من كتابه ” مصر الخديوية ” ويتحالفون مع قواها المتنافسة مثل روسيا وفرنسا وبريطانيا، وقد تحالف على بك الكبير مع روسيا في محاولته الاستقلالية عن السلطنة العثمانية 1768م وهو العام ذاته الذي شهد الحرب الروسية-العثمانية الأولى 1768م-1774م حيث انهزمت السلطنة العثمانية وبدأت تأخذ لقب رجل أوروبا المريض، كما ذكر هنري لورنس في ص 18 من كتابه ” الأزمات الشرقية “، وغير صحيح أن اللقاء الأول بمصر وأوريا كان مع قدوم نابليون ثم مع ولاية محمد علي باشا. الفارق هو أن المماليك كانوا في تصور أنهم قوة منيعة لا تقبل الهزيمة وأن مصر حصينة من جملة ممتلكات السلطان العثماني، ولم يكن في ذهنيتهم إحساس بدونية أو ضعف بالمقارنة مع أوروبا، فكرة أن أوروبا متفوقة عليهم وعلى السلطنة العثمانية ذاتها كانت فكرة بعيدة التصديق، كانوا يصدرون عن روح استقلال ومناعة وحصانة.
الثانية: الذي أنجزه نابليون في حملته ليس وضع مصر على طريق الحداثة، ما أنجزه هو كسر هذا الإحساس بالاستقلال والمناعة والحصانة، ما فعله نابليون هو أنه استباح البلد من الإسكندرية حتى أسوان، هذه الاستباحة كشفت وهن المماليك وضعف السلطان معاً، هذه الاستباحة كشفت حقيقة أن الاستقلال والمناعة والحصانة كان واقعاً قديماً ثم انتهى ولم يعد له وجود، لم تعد لمصر قوة تحميها لا من المماليك ولا من السلطان، والانجليز من باب النكاية في الفرنسيين هم من حرض المماليك ومن حرض السلطان العثماني على حرب نابليون ولولا الانجليز لربما نجح الغزو الفرنسي وطاب له المقام في مصر أمداً بعيداً، الحرب في ظاهرها كانت بين نابليون وملاك مصر من المماليك وصاحب السيادة عليها السلطان العثماني، لكن الحرب في جوهرها كانت بين الانجليز والفرنسيين: أيهما يملك مصر ومن ثم يملك البحرين الأحمر وشرق وجنوب البحر المتوسط ومن ثم يملك الطريق إلى الهند، هذا صراع كان بين قوى المستقبل ولم يكن فيه مكان لقوى الماضي من مماليك وعثمانيين.
الثالثة: من هذه النقطة بدأ محمد علي باشا، بدأ من الاعتراف بالهزيمة، التقط أن التاريخ قد غير وجهته إلى حيث تذهب أوروبا لا إلى حيث تندثر قوة المماليك وعظمة العثمانيين، بدأ محمد علي باشا وهو على يقين أنه لا استقلال ولا مناعة ولا حصانة، وأن كل ما عليه هو استخلاص مصر لنفسه من المماليك ومن العثمانيين ومن طلائع الحركة الوطنية الوليدة البازغة، وحتى يستخلصها لنفسه يلزمه أن يدخل في كفالة قوة أوروبية تحميه من القوى الأوروبية الأخرى، كان يدرك أهمية الرعاية الفرنسية له كما كان يدرك خطر الإنجليز عليه، ولو تُرك محمد علي باشا لغريزته وطبيعته وثقافته لحكم مثلما حكم المماليك، ولكان كل ما أنجزه هو ما وصفه الأستاذ الإمام محمد عبده في ص 833 وما بعدها من المجلد الأول من الأعمال الكاملة حيث لخص انجاز الباشا في أنه حول مصر من بلد مقسم إلى عدة إقطاعات بين مماليك متنافسين إلى اقطاع واحد كبير يملكه الباشا وحده ويتوارثه من بعده أبناؤه وأحفاده.
الرابعة: معنى الدولة الحديثة، معناها الحقيقي، وليس المعنى الشكلي، بدأ من هنا، بدأ من حاجة الباشا الحديد لكفيل أوروبي، حتى يتفادى الوقوع تحت رحمة باقي القوة الأوروبية، هذا الكفيل كانت فرنسا، ورغم الصراع بين فرنسا نابليون وفرنسا آل بوربون الذين عادوا للحكم بعد هزيمة نابليون، رغم الصراع بينهما إلا أن سياسة الدولة الفرنسية تجاه كفالة الباشا كانت استراتيجية ثابتة لا تتغير بتغير الحكام، وآية ذلك أن موسوعة وصف مصر بدأت مع حملة نابليون 1798م ولكنها صدرت 1818م بعد سقوط نابليون، وأية ذلك كذلك، أن فكرة البعثات التعليمية من مصر إلى فرنسا كانت فكرة نابليون اقترحها 1800م وتم تنفيذها على أيدي المستشرقين من رجال حملته 1826م. حاجة محمد علي باشا إلى الكفيل الفرنسي فتح الباب لتحقيق الكثير من سياسات فرنسا النابليونية وما بعد النابليونية، وملخص هذه السياسات: ماذكره هنري لورنس في ص 25 من كتابه ” الأزمات الشرقية ” حين أصبح ” التمدين العنصر الرئيسي في الأفكار النابليونية ” في تبرير غزو مصر، ثم في ص 32 يذكر أنه تم اعتماد محمد علي باشا-من فرنسا-ناشر التمدن الحديث في مصر والباشا بهذا يواصل عمل نابليون، هذا كلام المؤرخ الفرنسي هنري لورنس في كتابه الصادر 2017م وترجمه بشير السباعي 2018م.
الخامسة: في الواقع التاريخي الفعلي، وليس الدعائي ولا البروباجندا الوطنية، الدولة الحديثة كانت وما زالت تعني عدة معاني: فقدان الاستقلال والمناعة والحصانة في وجه القوة الأوروبية، ثم الدخول في لعبة الاستقطابات والصراعات الأوروبية، ثم مجاراة أوروبا والغرب عموماً وأمريكا بعد ذلك سواء عن اقتناع أو غير اقتناع، ومن هذه المجاراة جاءت فكرة استيراد الدساتير والقوانين والتشريعات ونظم الحكم والمؤسسات مع تمصيرها وتعطيلها وعكس وظيفتها فبدلاً من أن تخدم تحولاً ديمقراطياً يتم توظيفها في تمكين الاستبداد، فأصبح شكل الحكم حديثاً ومضمونه فردي مطلق قديم عتيق عتيد من الباشا حتى السيسي ومن الدولة الحديثة حتى الجمهورية الجديدة.
السادسة: منذ دخل نابليون مصر إلى يومنا هذا، والشكل الأوروبي حلية لازمة للحكام، هذه الحلية تسمى الدولة الحديثة، وبهذه الحلية كان الحاكم وما زال يستهدف أمرين: يلتمس رضا أوروبا والغرب وأمريكا بعدهما ومع الرضا يلتمس منافع في تأييد حكمه، ثم يتفادى غضبها وعداءها أن ينال من حكمه أو يمس استقراره واستمراره، لهذا، ولهذا فقط، أقبل الباشا المؤسس على ما أقبل عليه من استعارة الأفكار والمؤسسات من أوروبا. ولهذا، ولهذا فقط، فعل الخديو اسماعيل حين أراد مصر قطعة من أوروبا لا فرق في ذلك بين انشاء دار الأوبرا ومن قبلها مجلس النواب ومن بعدهما حكومة تكون مسؤولة أمام مجلس النواب. ولولا ثورة 1919م ثم ضغط الاحتلال كان يستحيل على الملك فؤاد أن يقبل بدستور 1923م الذي نزع منه فرصة التمتع بالحكم الفردي المطلق، وقد اجتهد بكل طاقته، هو ونجله فاروق من بعده، في تخريب الحكم الدستوري، بما مهد الطريق لثورة 23 يوليو 1952م التي من أهم خصائصها هدر الدساتير من محمد نجيب حتى السيسي، ولولا الملامة لحكم كل الضباط بدون دساتير وبدون تحديد فترات حكم وبدون تحديد أو تقييد صلاحيات لا فرق في ذلك بين ضابط وضابط.
السابعة: بكل يقين، ما يستريح إليه الرئيس السيسي هو حكم مستريح، حكم فردي مطلق يتحرك في البراح الوسيع، فلا قيود من دساتير إلا ما يكتبه هو من دساتير على مقاسه ، ولا عوائق من قوانين إلا ما يشرعه هو حسب رؤيته، ولا سلطات متعددة بينها تكافؤ، ولا مؤسسات تتوازن وتتنافس في إطار الدستور والقانون وخدمة المصالح العامة، ولا صحافة حرة، ولا رأي عام، ولا برلمانات، ولا قضاء مستقل، الود ود الرئيس أن يكون هو والشعب مباشرة، حاكم ومجكوم، سلطة قيادة وكتلة انقياد، سلطة أمر ونهي وجموع امتثال وتنفيذ، هذا هو الحكم المثالي الذي يوده الرئيس، والذي كان يوده كل من سبقوه من مؤسس الدولة الحديثة حتى وصلت إليه كمؤسس للجمهورية الجديدة، ما يستريح له الرئيس السيسي هو ما كان يستريح له كل حكام الدولة الحديثة من قبله وهو الاستبداد المطمئن المستقر كحق مكتسب ومشروع لمن يتولى حكم مصر. فلولا يوجد شيء اسمه أوروبا وأمريكا ما كانت جرت انتخابات ولا استفتاءات وما بقي شئ اسمه أحزاب ولحكمت القوة المجردة كيف تشاء.
الثامنة والأخيرة: هذه الدولة الحديثة، بهذه الحلية الأوروبية، وبادعائها رفع لواء التمدن -بعد نابليون-في مصر، وباسترضائها للغرب، عندها اعتقاد أنها خير من الشعب، كل الشعب، ولديها إيمان أنها فوق الشعب، كل الشعب، ذلك أنها أنضج منه وأوعى بما ينفعه ويضره. هذه الدولة الحديثة لها وظيفتان تاريخيتان: قمع الشعب، نهب الشعب، أي قهره ثم فقره، ولهذا كافحت وما زالت تكافح من الباشا حتى السيسي في وأد روح المبادرة في الشعب، ومن ثم فرغم كل الثورات والاحتجاجات والانتفاضات الشعبية ما زالت البنية التحتية لديكتاتورية الدولة الحديثة أقوى بكثير من أي طموحات ديمقراطية هشة ربما يعبر عنها الشعب بين حين وحين. تسلط الدولة على الشعب هو السمة الثابتة للدولة الحديثة.
السؤال الآن: لماذا لم نبتعد خطوةً واحدةً عن الحكم الفردي المطلق من محمد علي باشا حتى السيسي؟
لماذا رغم أننا نقتبس عن أوروبا من مائتي عام؟
وهل معنى ذلك أن من الوارد بعد مائتي عام أخرى أي في مطلع القرن الثالث والعشرين أي مثلاً في عام 2223م نكون في المربع ذاته أي في الحكم الفردي المطلق؟
ماذا يمنع أن تنتهي المائتا عام المُقبلة بحكم فردي مطلق مثلما انتهت المائتان الماضيتان بحكم فردي مطلق تحت مسمى الدولة الحديثة؟.
هنا يلزمنا العودة إلى نقطة البداية، إلى الرجال الثلاثة: نابليون، محمد علي باشا، رفاعة الطهطاوي
– في ص 73 من الجزء الخاص بمصر في مذكرات نابليون، يضع نابليون يده على أهم خصائص بلد مثل مصر، فيقول: ” ولا يوجد بلد فيه تأثير للإدارة على الرخاء العام مثل مصر، فإذا حسنت الإدارة تم حفر القنوات وصيانتها جيداً، وطبقت قواعد الري بإنصاف، وانتشرت مياه الفيضان بوفرة. وإذا ساءت الإدارة، وكانت فاسدة وضعيفة، فإن الوحل يسد القنوات، وتصبح الجسور دون صيانة، ويتم انتهاك نظام الري، وتتعرض مبادئ تنظيم الفيضان إلى التحريض على التمرد لصالح أفراد من العامة والأقاليم ” .
ثم يقول بونابرت في 74: ” للحكومة في مصر تأثير مباشر على امتداد الفيضان الذي يصل إليها، وهو الذي يبرر الاختلاف -يقصد الإيجابي- في إدارة مصر تحت حكم البطالمة، وانحطاط مصر في عهد الرومان، وإفلاس مصر في عهد الأتراك، وبناءً عليه، ولكي يكون المحصول جيداً، فيجب ألا يكون الفيضان مرتفعاً جداً، ولا منخفضاً جداً “. انتهى الاقتباس، وقد أردت منه إثبات رجاحة ما فيه من منطق، فمصر يصلحها أمران: صلاح الحكم ورشده، ثم ضبط النهر. ثم أردت بإثبات كلام بونابرت الإشارة إلى حقيقة أن فساد الحكم يترتب عليه غياب مشاريع للري وحفظ النهر وضمان تدفق الماء، وغني عن البيان أن كلمة الإدارة في نص الكلام المقصود بها نظام الحكم. وبالقياس على كلام بونابرت فإن محمد علي باشا ثم جمال عبدالناصر يتميزان على كل حكام الدولة الحديثة بأنهما من أصحاب المشاريع الكبرى في مجال الري وضبط النهر .
نابليون اقتلع مصر من زمنها القديم، فلم تعد بعده مثلما كانت قبله، لم تعد بلداً إسلامياً، محكوماً بالشريعة، مشمولاً بالسلام العثماني، مستريحاً في غفلة العصور الوسيطة، مستنيماً لاستقرار أزلي، خاضعاً لبيوتات المماليك في الداخل وسيادة السلطان العثماني كسقف للعالم في الأستانة، والعالم بين دار إسلام، ودار حرب، والمقيمون في مصر بين مسلمين وجنسية البلد هي الإسلام، ثم ذميين وهم المصريون من الأقباط، ثم المستأمنين وهم الوافدون على مصر من غير المسلمين، وعموم الشعب رعوية عثمانية. نابليون دشن لمصر طريقاً ثانيا، ساعده أن سقطت هيبة المماليك والسلطان معاً، وكما قلت في موضع سابق، لولا الانجليز ما خرج نابليون من مصر، الانجليز ومعهم الأتراك أخرجوا نابليون ثم قوات نابليون من مصر، لكن مشروع نابليون لم يخرج من مصر، ربما هو أكثر المشاريع استقراراً في مصر، وجد مشروع نابليون -في ظل محمد علي باشا- الفرص الكافية ليتجذر في مصر سواء من خلال الباشا أو سلالته أو النخب الجديدة التي تلقت علومها في جامعات ومدارس ومعاهد فرنسا.
دور الباشا ثم الطهطاوي في مشروع بونابرت،
ثم أثر ذلك على تكوين الدولة الحديثة،
ذلك مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.