شروط صندوق النقد
تصريحات المديرة العامة لصندوق النقد الدولي “كريستالينا جورجييفا” أول أمس وتخوفها من “استنزاف دعم الجنيه من احتياطي العملات الأجنبية في مصر”، وشبهت هذه العملية “بسكب الماء في وعاء مثقوب”، طالما لم تحدث إصلاحات اقتصادية في البلاد وأكدت، أن مسألة سعر صرف العملة المصرية متصل بالاقتصاد السياسي، وطالبت باستكمال عمليات خصخصة للشركات المملوكة للدولة، حتى تستطيع مصر أن تحصل على قروض من الصندوق، وأيضا تنال ثقة المستثمرين.
والحقيقة، أن رد فعل الدولة على مواقف صندوق النقد، ونصائحه التي قدمها للحكومة المصرية أو “روشتة الإصلاح الاقتصادي”، كما يراها ركزت على الجانب السياسي، ولم يناقشا جوهر الأزمة المتعلقة بالأبعاد الاقتصادية.
فقد أشار الرئيس، إن “المواطنين لن يتحملوا مضاعفة الأسعار، إذا حدث تحرير في سعر الصرف ” لأنه يستلزم وفاء الوعاء المالي للدولة بحجم الطلب من الدولار، وهو أمر غير متحقق في الوقت الحالي” وأن زيادة سعر الصرف؛ ستؤدي بالمواطن إلى أن يدفع ألف جنية فاتورة كهرباء بدلا من 500، وختم بقراءة سياسية تماما لحصيلة تحرير سعر الصرف بالقول، “أن تأثير سعر الصرف على حياة المصريين من شأنه عدم الجلوس على مقاعدنا”.
ومن الطبيعي، أن تكون الحسابات السياسية حاضرة؛ لبحث تبعات أي قرار اقتصادي، وهو أمر مشروع، ولكن يجب أيضا، أو أساسا مناقشة أسباب الأزمة الاقتصادية، وعدم الانجرار وراء الخطاب الذي ذهب إليه بعض الإعلاميين، بالهجوم على مديرة الصندوق، ووصف الأخير، إنه يتدخل في شئوننا ويحاول فرض شروطه على البلد، وهو في الحقيقة فهم قاصر؛ لأن مصر هي التي سعت ولا زالت تسعى من أجل الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، كما أنها سبق واقترضت من مؤسسات دولية، وإقليمية كثيرة مثل: البنك الدولي وغيره، وكلها تضع شروطا؛ لكي تعطي لأي دولة قرضا، وإذا رأت أي دولة أن هذه الشروط غير مناسبة لها فلن تطلب القرض، أما إذا رأت أنها مناسبة وقادرة عمليا على الإيفاء بها تطلب القرض وتحصل عليه، أي أن المسألة ليس فيها أي إجبار أو ضغوط، إنما شروط قد تكون مجحفة، ولكنك أنت الذي قبلت بهذه الشروط؛ بسبب سوء أوضاعك الاقتصادية.
والحقيقة، أن النقاش الذي يجب أن يجري ليس التحفظ على شروط صندوق النقد “المجحفة”، إنما في أسباب قبولنا من الأصل لهذه الشروط واضطرار الحكومة أن تذهب إليه رغم معرفتها بقسوة شروطه.
والمدهش، أن جانبا من الخطاب الرسمي والإعلامي الحالي يكيل الاتهامات لصندوق النقد، ولا يبحث في الأخطاء أو الأولويات الغلط التي ارتكبت مؤخرا في إدارة الاقتصاد، وجعلت وضعه يتدهور لهذه الدرجة التي اضطرت معها الدولة أن تذهب لجهة دولية وضعت شروطا كثيرة، من أجل الحصول على القرض، أبرزها مراجعة الإصلاحات الاقتصادية التي تقوم بها مصر كل 6 أشهر؛ لكي تحصل على الدفعة الثانية من قرض بقيمة 247 مليون دولار من إجمالي 3 مليارات دولار، ستقدم على دفعات نصف سنوية حتى 2026.
والملاحظ، أنها المرة الأولى التي يتدخل فيها صندوق النقد الدولي بهذه الدرجة في تفاصيل إدارة الاقتصاد المصري، ويطالب بإجراء إصلاحات تتعلق أساسا بتخارج الدولة من الاقتصاد، وضمان المنافسة العادلة والشفافة بين شركات القطاع الخاص، وتلك المملوكة للدولة.
والحقيقة، أن الأزمة الاقتصادية في مصر واضحة، والخروج منها لن يكون بمهاجمة الصندوق، إنما بمراجعة السياسات الاقتصادية التي جعلتنا “نتحوج” للصندوق ولغيره من المؤسسات الدولية، أو من الرعاة الإقليمين الذين وضعوا شروطا لم تختلف في جوهرها عن شروط الصندوق حتى لو اختلفت في الشكل.
لايجب الخوف من المراجعة والاعتراف بالأخطاء والعمل على تصحيحها، ومطلوب من الدولة أن تعيد النظر في النموذج الاقتصادي المعتمد، وحدود الدور الذي تلعبه مؤسسات وأجهزة الدولة في الاقتصاد المصري، وإجراء تقييم موضوعي (ولو غير معلن)، لحصيلة تجربتها في إدارة الشأن الاقتصادي طوال السنوات الخمس الماضية، ومسئوليتها في تلك “الحوجة”.
لا يمكن مواجهة شروط صندوق النقد باستعداء خطاب التحرر الوطني، والتعامل معه كأنه جزء من الاستعمار القديم الذي جاء إلي بلادنا بالقوة واحتلها بالقوة، ونجحنا بنضال الشعب وكفاحه في الحصول على الاستقلال الوطني في معركة حقيقية مع مستعمر حقيقي، ثم دخلت مصر في مواجهات مع القوى العالمية الكبرى، وانتصرت في معركة تأميم قناة السويس، بصمودها العسكري وانتصارها السياسي، وتأسس على أثرها نظام عالمي جديد، شاركت في بنائه دول الجنوب التي رفعت راية الاستقلال والتحرر الوطني وعلى رأسها مصر.
والحقيقة، أن معركة مصر مع الاستعمار كان يقودها نظام سياسي بنى نموذجا في الداخل قائم على التنمية المستقلة، ورفض القروض الخارجية، وكان جزءا من تحالف دولي اشتراكي مناهض للتحالف الغربي المهيمن، ولذا يبدو الأمر متناقضا أن تبني مصر منذ نصف قرن نموذج رأسمالي مندمج في النظام العالمي، وفكك التجربة الاشتراكية ويسعى للحصول على القروض الخارجية من كل مكان، ثم يأتي ويستدعي خطاب السيادة والاستقلال الوطني في معركة لا علاقة لها بالسيادة والاستقلال الوطني، إنما بكفاءة إدارة المنظومة الاقتصادية ومهنية وشفافية الأداء .