أنهت مجموعة “فاجنر” التي تعد ذراع روسيا الممتد في مناطق مختلفة من العالم، السبت الماضي، تمردا مسلحا ضد الجيش الروسي، استمر لأكثر من 24 ساعة، فيما سيغادر قائدها يفجيني بريجوجين الملقب بـ”طباخ بوتن”، إلى بيلاروسيا بموجب وساطة من رئيسها ألكسندر لوكاشينكو، وأعلن الكرملين إسقاط الملاحقة القضائية ضده ومقاتليه.
وخلال السنوات الأخيرة، تزايد انتشار مرتزقة فاجنر في مناطق مختلفة أبرزها، دول في القارة الإفريقية، حيث كانت ذراع موسكو التي تنفذ سياستها التوسعية في القارة، والرامية بالأساس لكسر الحصار الغربي والأمريكي عليها .
ينشط المرتزقة التابعون للشركة في حروب دولة مالي، وجمهورية إفريقيا الوسطى وموزمبيق وليبيا، مقابل منحهم امتيازات تعدين الذهب والألماس واليورانيوم.
وطرحت الساعات العصيبة التي عاشتها روسيا السبت الماضي، على وقع التمرد الذي أعلنه بريجوجين الكثير من التساؤلات، بشأن كيفية تحول فاجنر من ذراع لروسيا تمتد للهيمنة على مناطق الصراع، ومحاصرة المصالح الغربية إلى ذراع تلتف حول رقبة موسكو، وكادت أن تخنقها، وكيفية تحول زعيمها من “طباخ بوتين ” الذي يشرف على عمليات إعادة تموضع روسيا في مناطق الصراع لخنجر في خاصرتها، بعدما قدم طبخة مسمومة كادت أن تنهي حياة ” الثعلب العجوز”.
جذور الخلاف
أدت الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تسليط الأضواء على بريجوجين الذي تحول إلى أمير حرب، في أعقاب الحركات الانفصالية المدعومة من روسيا عام 2014 في دونباس شرق أوكرانيا، حيث تعمل قوات فاجنر كجماعة مرتزقة من أجل القضايا المدعومة من روسيا، وبامتداد جميع أنحاء العالم.
وتقدر تقارير دولية أن ما لا يقل عن 5000 من مرتزقة فاجنر يقاتلون بجانب القوات الروسية في أوكرانيا، في وقت كانت قد كشفت فيه تسريبات دولية عن قيام المجموعة بتجنيد القتلة، وتجار المخدرات من السجون مع وعد إذا نجوا من الحرب في أوكرانيا، فسيتم منحهم عقوبات أقصر أو حتى العفو.
في الأشهر الأخيرة، خلق بريجوجين معضلة لبوتين عندما أصبح منتقدًا صريحًا لقادة روسيا العسكريين، ففي مايو أعلن أن قواته ستنسحب من مدينة باخموت الشرقية المحاصرة، بعد أن اشتكى لأكثر من شهر من عدم تلقي الدعم الكافي من الكرملين في القتال الشاق بالمدينة.
وقبلها وعلى مدى عدة أشهر، كان بريجوجين ينتقد القيادة العليا الروسية لـ”سوء إدارتها” للحرب في أوكرانيا، متهما وزير الدفاع والقائد العسكري للبلاد بعدم الكفاءة.
وإزاء تصاعد حدة الانتقادات من جانب بريجوجين، طالب الكرملين جميع المرتزقة الروس بتوقيع عقود مع وزارة الدفاع الروسية، في خطوة نظر إليها على أنها محاولة للسيطرة على فاجنر، لكن بريجوجين ظل متحديا رافضا الامتثال، وأصدر خطابات لاذعة بشكل متزايد ضد قيادات الجيش الروسي.
في هذا الإطار، يرى اللواء دكتور سيد غنيم الخبير العسكري، والأستاذ الزائر بالناتو، أن الأمر في جوهره صراع شخصي؛ لتوسيع مساحات النفوذ والارتقاء في منظومة السلطة من جانب زعيم فاجنر، الذي يهدف إلى إزاحة قيادة وزارة الدفاع الروسية بالقوة من السلطة، وتحديداً ضد قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية في “روستوڤ أون دون”، إذ يسعى قائد فاجنر خلال الحرب في أوكرانيا بكل الوسائل؛ لإثبات أنه أكثر كفاءة من الجيش الروسي النظامي، خاصة بعد الخسائر الفادحة التي تلقاها.
ثمة سبب آخر، ربما يقف خلف توتر العلاقات مؤخرا، بين زعيم فاجنر، والقيادة السياسية والعسكرية في روسيا، هو أنه بات ينافس بوتين من حيث شعبيته، حيث أظهر استطلاع للرأي أجرته مبادرة نافي الروسية في العاشر من مايو الماضي، حصوله على نسبة 39.7 في المائة مباشرة خلف بوتين الذي نال 42.5 في المائة، ومتقدما على كل من وزير الخارجية سيرجي لافروف، ووزير الدفاع سيرجي شويجو.
ثمة صراع آخر منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ربما يقف خلف قرار التمرد الذي أقدم عليه زعيم فاجنر، متمثلا في المنافسة والصراع المحتدم مع قائد الجيش الروسي، الچنرال ڤاليري جراسيموڤ، الذي ظل طيلة العام الأول للحرب في منأى عن الانتقادات، قبل أن يقوم الرئيس الروسي ڤلاديمير بوتين، بإنزاله درجة ليلقي به في مسرح الحرب باعتباره آخر الرهانات.
نزول جراسيموڤ إلى مسرح الحرب، جعله في مواجهة عدوين يشكلان خطرا على مستقبله أكثر من الجيش الأوكراني، وهما: بريجوجين، ورمضان قديروف رئيس الشيشان، فكلاهما يحاول تحقيق مجد شخصي على حساب سمعة الجيش الروسي، بقيادة رئيس الأركان العامة جراسيموڤ الذي لم يكن يملك سوى تحقيق نصر حاسم عليهما معا، خاصة مع بدء تحقيق فاجنر تقدما نسبيا في عدد من المناطق الأوكرانية، فخشي أن يخرج مهزوماً معنوياً أمام مسجون سابق رغم أنه قائد لثاني أكبر جيش في العالم لأكثر من عشرة أعوام.
الوجه الآخر
قبل الحديث عن مآلات التمرد المسلح الذي قامت به فاجنر، لا بد أولا: من الوقوف على طبيعة الأدوار التي تلعبها تلك الشركة في مناطق الصراع، وما إذا كان يقف عند حد تقديم الخدمات الأمنية للنظم السياسية فقط، أم تتجاوز ذلك الدور عبر شبكة هائلة من العلاقات والشراكات السرية مع مجموعات اقتصادية.
في عام 2017، بدأ مقاتلو الشركة ينتشرون في إفريقيا، وفق سياسة بدا واضحا منذ اللحظة الأولى أنها مرسومة بدقة، وتتجاوز طبيعة عمل المجموعة الخاصة بتقديم الخدمات الأمنية.
وفي عام 2018 نشرت الشركة نحو 2000 مرتزق في جمهورية إفريقيا الوسطى، على خلفية الصراعات الدينية، والتحول بعيدًا عن فرنسا، وفي 2019 نشرت الشركة 160مقاتلاً في موزمبيق، في منطقة كابو ديلجادو الغنية بالغاز وذات الأغلبية المسلمة.
ودعمت فاجنر ذلك التواجد لاحقا بخلية حرب إلكترونية، تقدم خدمات للحكومة هناك، بعدما تزايدت الهجمات التي تنفذها المجموعات الموالية لتنظيم داعش.
وتبع ذلك ظهور المرتزقة التابعين للشركة في ساحات المعارك في ليبيا، حيث دعموا الهجوم الذي شنه المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني في شرق ليبيا على العاصمة طرابلس.
ومؤخرا، سارع مؤسس الشركة يفجيني بريجوجين، إلى تقديم “الدعم” إلى الضابط الشاب إبراهيم تراوري قائد الانقلاب في بوركينا فاسو.
وتطورت فاجنر، لتصبح جهة فاعلة ليس فقط على مستوى الخدمات الأمنية، ولكن أيضا خدمات مماثلة للأنظمة الحاكمة، حيث كشف يفجيني في وقت سابق، أنه وراء “وكالة أبحاث الإنترنت” (Internet Research Agency)، وهي مصنع لـ”الجيوش الإلكترونية” التي تغمر وسائل التواصل الاجتماعي خاصة في الغرب، بمعلومات تتماشى مع سياسات روسيا.
وذكرت مجموعة أبحاث دولية معنية بمراقبة أنشطة فاجنر تحت اسم ” كل العيون على فاجنر “، أن العلامة التجارية فاجنر لها أنشطة في مجالات تتجاوز مجال الأمن .
وتطرقت مجموعة الأبحاث في يوليو 2022، إلى كيفية جني فاجنر لأرباح ضخمة باستخدام الأخشاب الاستوائية الثمينة من جمهورية إفريقيا الوسطى، وفقًا للتقرير منحت الحكومة في العاصمة بانجي شركة فرعية حقوق قطع الأشجار بدون قيود على مساحة تقدر بـ 187 ألف هكتار.
منجم الذهب “نداسيما” في جمهورية إفريقيا الوسطى، حالة مماثلة، إذ تقول التقارير إنه تم سحب امتياز من شركة تعدين كندية لصالح شركة من مدغشقر، تظهر في تقرير منظمة “المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للأوطان” كشركة تابعة لفاجنر.
فيما تتبع تحقيق أجرته مجلة “تقرير إفريقيا” (The Africa Report)، كيف استوردت مجموعة فاجنر ما يُزعم أنه معدات تعدين ثقيلة، عبر ميناء دوالا البحري في الكاميرون. حيث يتم تنظيم ما يصل إلى ثلاث قوافل “شاحنات” أسبوعياً من بانجي إلى دوالا؛ لنقل المواد الخام، تحت حماية أعضاء فاجنر المزودين بأسلحة ثقيلة.
وبالنسبة للحكومات الإفريقية التي تعاني من ضائقة مالية، قد يكون من الجذاب للغاية أن تدفع مقابل خدمات فاجنر حقوق التعدين، أو قابلية الوصول إلى الأسواق.
فمع المجموعة شبه العسكرية، لست مضطرًا كحاكم أو نظام سياسي أو مجموعة متمردة، لسحب الأموال من حسابك حيث يمكنك فقط أن تقول: هنا لمدة 25 أو 50 أو 100عام، يمكنك استغلال هذا المنجم دون أي مشاكل .
إفريقيا في مرمى التداعيات
القارة الإفريقية، والتي تشهد تواجدا كثيفا لمقاتلي فاجنر في عدد من دولها، التي تعاني صراعات سياسية وعرقية، ودينية، لن تكون بعيدة عن التداعيات التي سيخلفها التمرد العسكري لمجموعات المرتزقة الروس.
خاصة، وأن نحو خمسة آلاف مقاتل، هم عدد المنتسبين لفاجنر المشاركين إلى جانب الجيش الروسي في الحرب الأوكرانية، سيتم سحبهم تدريجيا من مواقعهم ومن ثم نقلهم إلى مواقع تمركز الشركة في الدول الإفريقية، في ظل سعي بريجوجين؛ لترسيخ الفكرة التي انقلب من أجلها، والمتمثلة في تأكيد أفضليته على الجيش الروسي الرسمي.
ماذا بعد التمرد؟
يمثل تمرد فاجنر أخطر تحدّ حتى الآن لحكم بوتين الطويل، ويمهد لأخطر أزمة أمنية منذ توليه السلطة أواخر عام 1999.
ويُنظَر إلى تمرّد فاجنر باعتباره خبرا جيدا للغاية بالنسبة لأوكرانيا التي خاضت المعارك الأعنف، والأصعب والأطول مع مقاتليها منذ بداية الحرب الروسية عليهم قبل 16 شهرا، خاصة أنه يأتي في وقت تشن فيه أوكرانيا هجوما مضادا لاستعادة أراضيها.
وقال الجيش الأوكراني، إنه “يراقب” الخلاف الناشئ بين بريجوجين وبوتين، فيما رأت وزارة الدفاع أن التمرد “فرصة” لأوكرانيا.
من جانبها، حذرت موسكو من أن جيش كييف يستغل الفرصة؛ لتجميع قواته وشن هجمات في منطقة باخموت.
لا شك، أن الفوضى التي قد تشهدها روسيا على وقع هذا التمرد القصير، من الممكن أن تفتح نافذة فرص أمام القوات الأوكرانية، خاصة أن الأزمة الراهنة قد تؤدي لخلخة في صفوف القوات التي تخوض معارك على الأرض في المناطق الأوكرانية، ويمكن لقوات كييف إلحاق خسائر في صفوف القوات الروسية، ومن ثم تحقيق تقدمات كبيرة خلال الأيام المقبلة على مختلف جبهات القتال .