في 21 يونيو/حزيران الجاري، أعلن الجيش السوداني أن قواته تعرضت إلى “هجوم غادر” من “الحركة الشعبية – شمال، فصيل عبد العزيز الحلو”، وذلك رغم اتفاق وقف إطلاق النار الذي يتجدد سنويًا مع الحكومة.
وقال الجيش، إن قواته تصدت لهجوم الحركة الشعبية، في معارك سقط بها عدد من القتلى والمصابين من الجانبين. فيما أوضح السكان، أن الاشتباكات وقعت قرب مقر الجيش في مدينة الدلنج بولاية جنوب كردفان، حيث تتمركز الحركة الشعبية، غير المتحالفة بشكل واضح مع أي من طرفي الصراع في السودان.
يدور الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ أكثر من شهرين، مما أدى إلى دمار في العاصمة الخرطوم، واندلاع أعمال عنف واسعة النطاق في منطقة دارفور غربي البلاد، وفرار أكثر من 2.5 مليوني شخص من ديارهم.
ورغم الوساطة السعودية-الأمريكية، والمفاوضات في جدة بين الطرفين المتصارعين، والتوصل إلى أكثر من هدنة إنسانية، فإن الصراع الدامي دخل شهره الثالث دون أي مؤشر على نهايته قريبًا، بينما يدفع المدنيون ثمنًا باهظًا.
لكن اشتباكات الحركة الشعبية مع الجيش السوداني، كان إنذارًا، بأن كرة الأزمة ربما تتدحرج، وتتسع معها أطراف الصراع وتتمدد الاشتباكات إلى مناطق أخرى من السودان، ما يُعقّد من خريطة المشهد المتأزم بالأساس.
(الاشتباكات لا زالت تتواصل في السودان ما يُنذر بتمدد الصراع)
ماذا حدث؟
اتّهم مصدر في الجيش السوداني قوات من “الحركة الشعبية” بمهاجمة مدينة الدلنج، الواقعة بولاية جنوب كردفان، وقال، إن الحركة كانت تحشد قواتها منذ أكثر من أسبوع للهجوم على الولاية.
وذكر بيان للجيش السوداني، أن قواته برئاسة اللواء 54 مشاة “تعرضت لهجوم غادر من الحركة الشعبية، رغم وجود اتفاق وقف إطلاق النار بين الطرفين”. وأشار البيان إلى، “سقوط عدد من الشهداء والجرحى (لم يحدد عددهم) في صفوف قوات الجيش في أعقاب تصديها للهجوم”.
بدورها، أصدرت الحركة الشعبية نفيًا لعلاقتها بما حدث في مدينة الدلنج. لكنها في نفس الوقت فتحت الباب على مصراعيه للقفز في القتال الدائر بالسودان منذ 15 إبريل/نيسان الماضي.
قال رئيس الحركة الشعبية في مناطق سيطرة الحكومة، محمد يوسف المصطفى: في تصريحات صحفية “ليس لنا علاقة بالهجوم الذي شُن على مدينة الدلنج”.
وأوضح، أن “عدم مشاركة الحركة في اشتباكات الدلنج لا ينفي حقها في الرد على أي اعتداءات بحق منسوبيها، خاصة أن الجيش يُسيطر على مناطق جبال النوبة”. وتابع: “غير مستغرب على الجيش الشعبي -جناح الحركة المسلح- أن يحرر أي أرض من أراضي النوبة، بما فيها الدلنج”.
وتسيطر الحركة الشعبية على مناطق واسعة في ولاية جنوب كردفان، تُطلق عليها المناطق المحررة، وتؤسس فيها حكما مدنيًا تحت سيطرة قواتها بعد نزاع ، واستمر هذا الوضع مع فشل محادثات الحكومة الانتقالية مع قادة الحركة الشعبية؛ نتيجة خلافات حيال منح جنوب كردفان حق تقرير المصير، واستحداث مؤسسات جديدة في الدولة.
تحركات الحركة الشعبية في كردفان امتحان عسير للجيش
مؤخرا، تجددت الاشتباكات العنيفة في عدة مناطق بالعاصمة السودانية الخرطوم بين الجيش وقوات الدعم السريع، في أعقاب انتهاء هدنة مدتها 72 ساعة، وردت عدة تقارير عن انتهاكها.
وبعدها، بدأ فصيل عبد العزيز الحلو، تحركاته العسكرية بالاستيلاء على عدد من معسكرات ونقاط صغيرة للجيش، بعدد من المناطق مثل، المقل والمنصور وكلولو وأم شعران والتيس والحمرة، شرق وجنوب مدينة كادوقلي، كبرى مدن جنوب كردفان ومركز الولاية.
والحركة الشعبية لتحرير السودان فصيل الحلو، هي امتداد للحركة الشعبية الأم التي قاتلت النظام في الخرطوم، منذ نشأتها في عام 198، بكل من جنوب كردفان وجنوب السودان والنيل الأزرق وشرق السودان.
تقول صحيفة “الراكوبة” السودانية، إن تحركات الحركة الشعبية في منطقة جنوب كردفان “تضع قدرة الجيش السوداني للقتال في أكثر من جبهة أمام امتحان عسير وصعب”.
وتشير، “ربما وجدت الحركة الآن نفسها أمام فرصة تاريخية؛ للتمدد أكثر في مساحات ولاية جنوب كردفان، وذلك بانشغال الجيش السوداني في حربه مع الدعم السريع، التي كانت تمثل إسنادًا قويًا للجيش في عملياته العسكرية ضد الحركات المتمردة منذ عام 2013”.
يقول الخبير العسكري عمر أرباب، إن الحركة الشعبية تريد من نشاطها العسكري، أولاً: زيادة نطاق سيطرتها في المنطقة، لأنها تعتقد أن زيادة المساحة يقوي الموقف التفاوضي في أي مفاوضات مستقبلية مهما جاء شكلها، كما أنها تنظر إلى المناطق التي سيطرت عليها أو تريد السيطرة عليها كمناطق زراعية، تدعم مواردها وتوفر الغذاء للسكان في مكان سيطرتها؛ لأجل وضع معيشي أفضل.
وأضاف أرباب، أن “كل خطوات الحركة الشعبية لا تخلو من انتهازية؛ لأنها تعلم عدم قدرة الجيش على فتح جبهة مواجهات جديدة في مناطق متعددة؛ نتيجة تفرغه للحرب مع الدعم السريع في الخرطوم وفي دارفور، ومرشحة تلك الحرب لأن تمتد إلى مناطق أخرى”.
وتقع حقول النفط السودانية الرئيسية في ولاية جنوب كردفان التي تشترك في حدودها مع ولاية غرب دارفور، ودولة جنوب السودان، التي تتمتع بعلاقات وثيقة مع الحركة. وقد أغلقت حدودها مع السودان عقب وقوع الاشتباكات.
ما هي الحركة الشعبية لتحرير السودان؟
يرجع تاريخ تشكيل “الحركة الشعبية لتحرير السودان” إلى ما قبل انفصال جنوب السودان عن شماله عام 2011. وتكوّنت الحركة المسلحة من سودانيين، قرروا الانحياز إلى جنوب السودان خلال الحرب الأهلية التي انتهت بانفصال الجنوب.
وبعد عام 2011، أضافت الحركة كلمة “الشمال” ليصبح اسمها “الحركة الشعبية لتحرير السودان – الشمال”. وواصلت الحركة المسلحة حروبها ضد نظام الرئيس المعزول عمر البشير في منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق؛ سعيًا وراء الحصول على وضع خاص للمنطقتين.
قائد الحركة هو عبد العزيز آدم الحلو، وظلت على حالها حتى عام 2017، عندما انقسمت الحركة إلى فصيلين: الأول برئاسة الحلو، وتركّز نشاطه في منطقة جبال النوبة بكردفان. والثاني بقيادة مالك عقار، وتركّز نشاطه في منطقة النيل الأزرق، وشغل ياسر عرمان منصب نائب عقار.
وبعد أن اندلعت الثورة الشعبية ضد نظام البشير أواخر عام 2019، وأدت إلى عزله في إبريل/نيسان 2020، وتشكيل الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، بدأت مفاوضات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان- الشمال، بغرض إنهاء الصراع المسلح، وهو ما أدى إلى توقيع “اتفاق جوبا” للسلام مع الحركة الشعبية، فصيل مالك عقار ونائبه ياسر عرمان.
بموجب اتفاق جوبا، انضم مالك عقار إلى عضوية مجلس السيادة السوداني، الذي ترأسه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وكان محمد حمدان دقلو “حميدتي”، قائد قوات الدعم السريع نائبًا له. بينما شغل ياسر عرمان منصب المستشار السياسي لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك.
لم ينضم جناح عبد العزيز الحلو إلى اتفاق جوبا، وتسبب ذلك في توتر بين جناحي الحركة. لكنه لم يتحول إلى صراع دموي، ونجحت الوساطة بينهما في إخماد الأزمة. واتفق جناحا الحركة على “الافتراق بشكل يحترم تاريخ الحركة ووحدة أهدافها”.
انقلاب أكتوبر
كان الخلاف بين الجناحين قد تفاقم في أعقاب الإنقلاب الذي قام به البرهان يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وحل بموجبه مجلس السيادة وحكومة حمدوك، واعتقل أعضاؤها. كما عزل الأعضاء المدنيين في مجلس السيادة، وأعيد تشكيله بأعضائه العسكريين فقط، أي أن مالك عقار احتفظ بمقعده في مجلس السيادة، لكن ياسر عرمان وجد نفسه معتقلاً مع باقي أعضاء الحكومة المدنية.
وبينما ظل مالك عقار عضوًا في مجلس السيادة العسكري الحاكم، اختار نائبه ياسر عرمان الاستمرار في “تحالف قوى الحرية والتغيير” المدني، الذي اعتبر ما حدث انقلابًا غير مقبول، فأعلن مالك عقار أن “الحركة الشعبية لتحرير السودان- الشمال” ليست عضوًا في “قوى الحرية والتغيير”، وأن من ينضمون لها لا يمثلون إلا أنفسهم. وتسبب ذلك في انقسامات عميقة داخل الحركة – فصيل عقار وعرمان.
وعندما اندلعت الاشتباكات بين الجيش والدعم السريع، قرر البرهان عزل حميدتي من منصبه في مجلس السيادة الحاكم، وترقية مالك عقار بديلاً له، ليصبح عقار نائبًا لرئيس مجلس السيادة والوجه الأبرز في المعركة الحالية ضد قوات الدعم السريع. وقد زار مصر خلال الأيام الماضية، والتقى الرئيس عبد الفتاح السيسي.
وفي ظل تركيز الجيش على السعي؛ لحسم معركة الخرطوم، تصبح التساؤلات هنا متركزة على مدى قوة واستعدادات الجيش في ولايات جنوب وشمال وغرب وشرق كردفان، وولاية النيل الأبيض المجاورة، للتعامل مع هجمات قوات الحركة الشعبية؛ لتحرير السودان فيصل الحلو من جهة، إضافة إلى مخاطر إحياء ومفاقمة الصراعات القبلية والعرقية في تلك الولايات.
ويرى منصور أرباب، رئيس حركة العدل والمساواة السودانية الجديدة (المنشقة عن حركة العدل والمساواة في دارفور) أن “الحركة الشعبية بقيادة الحلو تحاول أن تتفادى ما حدث في ولاية غرب دارفور من مجازر يندى لها جبين الإنسانية، وذلك عندما اعتدت الدعم السريع والجنجويد على مواطني مدينة الجنينة، وقتلوا منهم بالآلاف كما جرحوا آلافا أخرى، وشرّدوا مئات الآلاف إلى داخل وخارج حدود الوطن”.
وأضاف، أنه “من الصعب التكهن بأن الحلو يخوض الحرب ضد القوات المسلحة في هذه الظروف التي يمر بها السودان، رغم أن كل شيء وارد”.
اتساع رقعة المواجهات
وفي مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، انهارت هدنة هشة مع وقوع اشتباكات بين القوتين في مناطق سكنية. وفي الأبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان ومركز النقل بين الخرطوم ودارفور، اشتبكت قوات الدعم السريع مع شرطة الاحتياط المركزية المدججة بالسلاح. وتتمتع قوات الدعم السريع بوجود كبير في المدينة.
وفي الأيام القليلة الماضية، اشتد القتال أيضًا بين الجيش وقوات الدعم السريع في مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور وواحدة من أكبر مدن السودان.
واعتبر الخبير العسكري السودان، أمين مجذوب، أن عدم الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق نار دائم، أو هدنة دائمة في السودان يرجع إلى، أن قوات الدعم السريع فقدت السيطرة، وأصبحت مجموعات متناثرة تعمل بنظام الدوائر، وكل دائرة لديها قائدها الميداني، يعمل على حسب الموقف الذي أمامه. ولذلك الإبلاغ بوقف إطلاق النار أمر فيه إشكالية.
انحسار ظل الدولة وتعمّق الأزمات الاقتصادية
ويعتبر تحليل لمركز “أسباب” للدراسات الجيوسياسية، أن ما يجري في السودان “واحدة من تجليات أزمات قديمة وحديثة، فالأزمة القديمة هي أزمة الهوية الوطنية مع عمق نفوذ القبيلة، وحضور ارتباطاتها في جغرافية انتشارها المتجاوزة للحدود القُطْريّة، وهذه القبليّة تَنشد ابتداء الخصوصية المجتمعية المميزة لها، والحدود الجغرافية الخاصة بها”.
ويُكمل التحليل، “أما الأزمة الحديثة فتتمثل في انحسار ظل الدولة وتعمّق الأزمات الاقتصادية والأمنية، مما اضطر الجميع في السـودان؛ للبحث عن ملاذ آمن، فحضرت القبيلة كبديل جاهز؛ لتأمين الحماية وتوفير الأمن ونشر شبكة التكافل الاجتماعي”.
حتى الآن، تسبب القتال في نزوح أكثر من 2.5 مليوني شخص، فر مئات الآلاف منهم عبر الحدود إلى دول منها تشاد ومصر. كما أدى إلى أزمة إنسانية، إذ تواجه المنظمات غير الحكومية صعوبات؛ لتوفير المساعدات الطبية والغذائية التي تشتد الحاجة إليها. وقالت منظمة أطباء بلا حدود، إن الطرفين يعرقلان عملياتها.
من جهتها، أكدت منظمة الصحة العالمية، خروج نحو ثلثي مرافق الرعاية الصحية في مناطق القتال في السودان من الخدمة. وأكد المدير العام للمنظمة، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، وقوع “46 هجومًا على مرافق الرعاية الصحية منذ بدء الاقتتال”. وأفادت المنظمة، بأن حوالي 11 مليون شخص بحاجة إلى مساعدة صحية.