تتزايد المساعي العالمية، حاليًا، لإنشاء عملات موحدة للقضاء على هيمنة الدولار والأزمات التي ضربت الاقتصاديات الناشئة بسبب سياسية رفع الفائدة بالفيدرالي الأمريكي، التي جذبت معها الأموال الساخنة، وألقت بظلالها على أسعار العملات والاحتياطيات الدولية للدول النامية.
تعمل العملات الموحدة على تحقيق منافع اقتصادية عديدة بما في ذلك زيادة مستويات التجارة البينية، وتحقيق الشفافية في الأسعار، وتعزيز التوازن بين أسواق العرض والطلب سواء في أسواق العمل أو رأس المال، كما تحمي الشركات من مخاطر تغيرات سعر الصرف.
في اجتماعات البنك الإفريقي للتنمية التي استضافتها شرم الشيخ أخيرًا، دعا وزير المالية الدكتور محمد معيط، لإقامة بنك مركزي أفريقي، وتأسيس نظام لإطلاق عملة موحدة، بينما طالب الرئيس الكيني لتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي في التعاملات بين دول القارة، متسائلاً: “لماذا احتاج الدولار في التعامل مع جيبوتي؟.. ولماذا يكون وسيطًا بينا؟.
المساعي الإفريقي تأتي قبل استضافة جنوب إفريقيا قمة تجمع “البريكس” في أغسطس المقبل، التي قال وزير خارجيتها سيرجي لافروف روسيا إنها ستناقش إنشاء عملة موحدة لدول المجموعة “البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا”، والتي من المقرر انضمام دول جديدة لها أخيرًا.
تسعى روسيا لتعزيز ذلك التوجه فاجتماعات “بريكس” ستشهد دعوة مجموعة من الدول الإفريقية للحضور، من المقرر أن تحسم طلبات الانضمام الجديدة للمجموعة، إذ تضم قائمة الراغبين في عضويتها كلاً من: “السعودية والجزائر ومصر وفنزويلا وإيران وتركيا والإمارات”.
العملة الإفريقية.. تجهيز للصدامات وكثير من العقبات
محمد معيط، قال في قمة البنك الإفريقي للتنمية، اعتبر إقامة بنك مركزي أفريقي، وتأسيس نظام لإطلاق عملة موحدة تجهيز للقارة لمواجهة الصدمات المستقبلية، وحماية مؤسساتها المالية المحلية، فالتكاتف هو الحل في ظل “مؤسسات التصنيف الائتماني تلاحقنا ومعدلات الديون وخدمة الدين تجعل إيراداتنا تتآكل”، على حد قوله.
أعاد معيط التأكيد على الفكرة ذاتها، في لقاء تليفزيون قبل أيام، لكنها أشار إلى خيار آخر باستخدام العملة المحلية بالتعامل مع الدول الآسيوية والإفريقية واعتبرها حلاً لمشكلة التمويل في ظل ظروف خارجية مثل أزمة كورونا، والأزمة الروسية الأوكرانية، وموجة التضخم الخارجية التي أثرت سلبًا على الدول النامية.
لكن في المقابل تواجه تلك المقترحات تحديات أولها ضعف التبادل التجاري بين الدول الأفريقية فلم يسجل أكثر من 18% نهاية 2021، بينما كسرت دول الاتحاد الأوروبية حاجز الـ70%.
كما يصدم أيضًا بغياب الاستقرار الأمني بكثير من دول القارة في ظل وجود نزاعات مسلحة في السودان وليبيا والكونغو، وكذلك غياب الموارد البشرية الكفؤة، لإنجاح منطقة التجارة الحرة الأفريقية إحدى الخطوات التي يكن البناء عليها وصولا للعملة الموحدة والتي تتحفظ عليها نيجيريا إحدى القوى الاقتصادية في القارة خوفا على صناعتها المحلية.
بحسب أرثانيوس أورفانديس، الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فإن العملة الموحدة تحتاج إزالة الحواجز التجارية، وتقوية الروابط السياسية، وتنسيق لوائح الأعمال، واتخاذ خطوات لتمكين التدفق الحر للعمالة ورأس المال بين البلاد.
يمثل التضخم مشكلة لدول إفريقيا يجب حلها قبل وضع نظام للعملة الموحدة، إذ يبلغ في زيمبابوي 92.8% والسودان 83.6% وغانا 52.8% وسيراليون 38.4% وإثيوبيا 32%، وهي أرقام كبيرة تحتاج لوضع معدل لها لا يجب تجاوزه إلا بهامش بسيط,
في أمريكا اللاتينية، يوجد التوجه ذاته بعدما دعت البرازيل والأرجنتين، دول القارة، لإنشاء عملة موحدة باسم “سور”، وهي مجموعة دول تمثل قرابة 5% من الناتج المحلى الإجمالي العالمي، وكانت تلبية الدعوة سريعا من الحكومة الفنزويلية.
البرازيل والأرجنتين… حلم العملة الموحدة القديم
البرازيل والأرجنتين تخططان لاستخدام العملة الجنوبية فقط للتجارة الخارجية على أن تحافظ كل دولة على سياستها النقدية وعملتها الخاصة، في ثاني محاولة بعدما حالا في عام 2019 لتأسيس “البيزو ريال” لكن البنك المركزي البرازيلي لم يتحمس حينها، وحاول أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، الرئيس المكسيكي إعادتها لكنها لم تكتمل.
التحديات التي تواجه العملة اللاتينية الموحدة قريبة من التي تواجه إفريقيا، فـ 15% فقط من التجارة داخل المنطقة مقارنة بـ 55% مع أوروبا و38% مع أمريكا الشمالية، كما تربط ثلث الرحلات الجوية القارية مدن أمريكا اللاتينية ببعضها البعض.
تتمتع البرازيل بعملة قوية ومستقرة وبنك مركزي مستقل وقوي، نجح في إبقاء التضخم في خانة الآحاد منذ عام 2004. وعلى النقيض من ذلك، بلغ معدل التضخم في الأرجنتين 95% العام الماضي، وهي مشكلات يجب حلها أولاً.
العملة الخليجية .. تحركات في مشروع معلق
في الخليج، يجمع البنكان المركزيان السعودي والإماراتي، مشروع عملة رقمية مشتركة باسم “عابر” بهدف تنفيذ التحويلات المالية بين البنوك بالبلدين بشكل يضمن تقليص مدة إنجازها وتخفيض تكلفتها، لكن أحمد حبتور، رجل الأعمال الإماراتي المعروف دعا، أخيرًا، لإطلاق عملة خليجية موحدة بالتعاون مع مصر والأردن.
فكرة إنشـاء عملـة موحـدة بـین دول مجلـس التعـاون الخلیجي تعود لعام 1981، لكنها لا تزال نقطة بحث في اجتماعات المجلس من حينها، حتى تم إقرار الاتحاد النقدي في 2010، ومنح أعضائه فترة جديدة لأعضائها باتخاذ جميع التدابير والإجراءات لضمان انسجام تشريعاتها الوطنية بما فيها الأنظمة الأساسية لبنوكها المركزية.
تعوق تلك الفكرة ضرورة وجود عدد من العملات العالمية الرئيسية التي تتصف بالاستقرار النسبي والثقة العالية التي تجعلها مناسبة لتتشكّل منها سلة العملات التي تربط بها العملة الخليجية ما يجعلها حال صدورها مرتبطة بسعر صرف ثابت مع الدولار الأمريكي، وهو أمر حماية مدخرات دول المنطقة من تذبذب أسعار الدولار، خاصة أن توحيد أسعار صرف العملة وربطها بسلة متنوعة مدعاة لجذب تدفق رؤوس الأموال.
عقبات أمام العملات الموحدة
تحتاج العملات الموحدة إلى تجانس الهياكل الاقتصادية للدول الأعضاء، عبر التقارب في سلوكها المالي والنقدي، ووضع معدلات لا يجب تجاوزها للتضخم والفائدة وكفاءة الاحتياطيات النقدية، وخفض نسبة العجز السنوي في المالية الحكومية إلى الناتج المحلي الإجمالي، ونسبة الدين العام للحكومة.
تتطلب العملات الموحدة أيضًا نظام مدفوعات موحد لتسوية المعاملات المالية التي تتم بهذا العملة بصفة آنية كما لو كانت تتم في بلد واحد، وبناء منظومة إحصائية موحدة.
يمثل “اليورو” النموذج الأقرب للعملة الموحدة بعدما كون اتحاد نقدي يتألف من 20 دولة عضو بالاتحاد الأوروبي اتخذت عُملتها الرئيسية والقانونية الوحيدة، وظلت متواجدة رغم مواجهتها أزمات عنيفة أهمها مشكلة الديون لبعض الدول الأوروبية عام 2010 التي بدأت باليونان ثم جمهورية إيرلندا، ثم خروج بريطانيا في 2019.
يمكن القول إن الدولار نشأ أيضًا كعمة موحدة منذ 2 أبريل 1792، حينما استحدثه الكونجرس كوحدة قياسية مالية موحدة في البلاد كبديل دولار الثمانية التي استخدمها الإسبان في مختلف أنحاء إسبانيا الجديدة (أمريكا الشمالية).