خرج من بيته مبكراً، تاركاً خلفه حقيبة التدريس لمادة العلوم للمرحلة الإعدادية من التعليم الأساسي، وكذلك منصب مدير مدرسة، باحثاً لأسرته عن لقمة عيش بطعم الشرف، لم يأبه بأن تلك الأيام هي أيام فرح، بحسب كونها أيام عيد الأضحى المبارك، والتي تكون غالباً إجازة لغالبية المصريين، إلا أن الفقر البغيض، والاحتياج المر والاعتصام بالشرف، جعلوه يتناسى كل ذلك مهموماً؛ بالبحث عن زيادة في مفردات الدخل، تُدخل على أفراد أسرته ما يكفيهم، وربما كيلو من اللحم؛ ليناسب تلك المناسبة العامة، في كل ذلك لم يخفت من عزيمته، كونه قد فارق الخمسين من العمر، بما يعني دخوله في مرحلة الشيخوخة، متحدياً قوانين الطبيعة التي تلزم من هم في مثل سنه عدم بذل الجهد الفائق أو غير المناسب لهم.
فقد كان الراحل الأستاذ / سليمان محمد، مدرساً أول لمادة العلوم، ومديراً لمدرسة صفط الشرقية بمحافظة المنيا بصعيد مصر، خرج في صبيحة ذلك اليوم مدفوعا بعدم كفاية الراتب الشهري من الوظيفة لمتطلبات حياته هو وأسرته، ولم يصبح هذا الدخل مناسباً مع معدلات التضخم، وزيادة الأسعار التي باتت متتالية، لا تتفق وتدني أجور المعلمين، بحسبهم من الموظفين في وزارات خدمية، على الرغم من كونه كان يستطيع أن يعوض ذلك الأمر بمنتهى السهولة، حيث كان يستطيع أن يقوم بعمل مجموعات للدروس الخصوصية، أوأن يلتحق بأحد الأماكن التي تقدم العلم كسلعة خاصة وتسمى ( السناتر)، إلا أنه كان لا يعجبه الأمر على تلك الشاكلة، مكتفياً بدخله الرسمي من وزارة التعليم التي تزيد مدة خدمته فيها عن خمسة وعشرين عاماً، باحثا خارج نطاق العمل الرسمي عن زيادة مفردات الدخل العام لأسرته معتصما بقيمه ومبادئه.
فخرج صباحا في تلك الأيام الطيبة؛ ليعمل عاملاً لحمل مواد البناء، وهو من الأعمال الشاقة التي تتطلب صحة بدنية، وجهداً لا يتوافر لمن هو في مثل سنه، أو يتطلب شباباً للعمل بتلك الأعمال الشاقة، إلا أن كل ذلك لم يشكل ما يكفي؛ لمنعه عن العمل الإضافي الشاق، محترما نفسه وعلمه وعمله، فسقط وسط حرارة الجو في جنوب مصر وفصل الصيف، وشدة التعب وعدم مقدرة جسده على التحمل في مرحلته الستينية من العمر، وفارق الحياة بعيداً عن أسرته؛ ليقابل ربه شاكياً من غصة الفقر والعوز والاحتياج، مقدماً مظلمته عن تدني الأجور والفوارق الطبقية وعدم التوزيع العادل للأجور، إذ لو افترضنا أن ذلك قد توافر، ولو بقدر يسير مع رواتب المدرسين، لم يكن هناك ما يحمل الفقيد إلى الذهاب إلى تلك الأعمال الشاقة، مضحياً بسعادته وإجازته ووقته، بل صار مضحياً بعمره كله.
إذن، تبدو القضية من وهلتها الأولى، هي عدالة توزيع الأجور بما يكفل حياة كريمة، خصوصاً بين الوزارت بعضها مع البعض الآخر، فليس هناك أدنى مقاربة بين العاملين في وزارة التعليم، والعاملين بوزارة الكهرباء والطاقة أو البترول مثلاً، إذ إننا لو افترضنا أن هناك خريجين من ذات الجامعة، والتحق أحدهما بوزارة التعليم، ونال الثاني شرف الالتحاق بالكهرباء، فإن راتب أو دخل الثاني يتضاعف ودخل العامل بالتعليم، وهو الأمر الذي يقف مع العقل والمنطق وقيم المساواة والعدالة الاجتماعية موقف الحائر، فهل هناك من القواعد ما يجعل لكل هذه الفوارق سبباً، وإذا قلنا، إن هناك قطاعات اقتصادية أو وزارت منتجة، فهناك قطاعت خدمية أخرى يمثل راتب العامل فيها أضعاف رواتب العاملين بالصحة مثلا، أو التعليم مثل، وزارت العدل أو الداخلية.
فيأتي من بعيد صوت، كاد يختنق عن عدالة كانت منشودة في شعار لثورة الخامس والعشرين من يناير ( عيش – حرية – عدالة اجتماعية )، كلها ذهبت أدراج الرياح، ولم يبقَ سوى زيادة رقعة الفقر واتساع دوائر المحتاجين لتلك العدالة الاجتماعية، في ظل منظومة دستورية تؤسس لتلك العدالة من الناحية النظرية، فعلى الرغم من كون الدستور هو أبو القوانين، ولا يحق لأي من التشريعات التي هي دونه مرتبة أن تتعارض مع نصوصه ومبادئه، إلا أن الفوراق المجتمعية تجد لها صدى في خلخلة عدالة توزيع الأجور، على النحو الذي يعدم حتى كلمة التناسب، أو المقاربة ما بين أصحاب الفئات الواحدة.
ومن الناحية الحقوقية، فإن غالبية الاتفاقيات المرتبطة بالعمل تنص وتدعم فكرة الأجور العادلة، والمتفقة بشكل مبدئي مع الجهد المبذول وساعات العمل، والتي يجب أن تكفل لكل مواطن الحق في الحياة كريمة تتفق والمتطلبات الإنسانية، إلا أن العالم بأسره لم يزل يعاني من تلك المشكلة، إلا أن قضية عدالة الرواتب تبدو أكثر فجاجة في المجتمعات الشرقية، ويصير تدني مستوى الأجور قضية لا بد من أن تسعى الدولة إلى إيجاد حلول جوهرية تقلص منها.
وإذا ما عدنا على أدراج قصتنا الدافعة لكتابة المقال، والتي هي في حقيقتها تتمحور في تدني أجور المعلمين إلى مستوى غير لائق بمكانة وشرف مهنة التعليم، والتي كانت سبباً مباشراً إلى اختراع فكرة الدروس الخصوصية، والأخيرة قد باتت ظاهرة يسعى المجتمع والحكومة إلى محاولة التقليل منها أو تقليص حجمها، وهذا لن يتأتى إلا بعد تعديل منظومة أجور المعلمين، وهنا تحضرني قصة عن الراحل الأستاذ الدكتور/ عبد المنعم تليمة رواها بشخصه في أكثر من مرة، وتناولتها الكتب والصحف والمواقع، حيث يروي أنه قد سافر لتدريس اللغة العربية وآدابها في إحدى الجامعات اليابانية، وفوجئ بأن راتبه أعلى من راتب رئيس الوزراء الياباني، فاتصل بمسؤول المالية بالجامعة؛ يستفسر عن الأمر فلعل هناك خطأ، فأخبره بأن درجته العلمية أعلى من درجة رئيس الوزراء، وخبرتي في مجالي أعلى منه، فلا بد أن أحصل على راتب أعلى منه وفقا لقانون الرواتب الموحد باليابان.
إن الابتعاد عن تحقيق العدالة والمساواة في الأجر، يحدث الفوضى، وسبب لإشاعة الفساد، وبالتأكيد سينتشر الظلم وسينعكس ذلك كله على ضعف الأداء، وتراجع العطاء وقلة الإنتاج، فالعدالة ضرورة لصلاح المجتمع، ومتى تحققت قلت المشكلات وزادت المنافسة في العطاء والولاء والانتماء.وإننا على يقين بأن تقسيم الرواتب والكوادر، لم يخضع لدراسات علمية وفنية ومهنية حسب طبيعة العمل، ومتطلباته والمؤهل العلمي والخبرات الوظيفية والحياتية، وما أكثر المسميات الوظيفية، وقد تخطى خطوط الإصلاح والدخول بالفوضى والعبث بالمال العام للدولة. كما أنه من المؤسف أن بلادنا بتاريخها وكيانها وخبراتها ودستورها تفتقر إلى تطبيق عدالة الرواتب بين موظفي الدولة، وتفتقر لرؤية واستراتيجية وبعد اقتصادي، وعدم مراعاة المال العام لميزانيات الدولة وتوزيعها.
فربما، إذا ما سعينا إلى تجاوز قضية التوزيع العادل للأجور بشكل عام، قد يكون ذلك سبباً؛ لعدم تكرار مأساة المعلم الراحل.