بينما يتم تدمير العاصمة السودانية حرفيا، بينما تشتعل حرب عرقية مقيتة في دارفور، بينما يبدأ البعد القبلي يدخل خط الصراعين العسكري والسياسي، بينما يفقد المئات كل يوم حيواتهم، وبيوتهم وكل ممتلكاتهم، يكون من المدهش أن جميع المبادرات التي تم طرحها؛ لوقف الحرب قد باءت بالفشل، وعلى الرغم من أن هذا الفشل يعود جزئيا إلى افتقاد الإرادة السياسية؛ لوقف الحرب لدى طرفي الصراع المحليين، ولكن لا يمكن إهمال مسئولية السياق الدولي عن وقف هذه الحرب، وبالتالي التساؤل عن طبيعة مجهوداته حتى هذه اللحظة، وكذلك تحديد سياقات الأداء، إذا ما كانت مجرد إدارة للأزمة، أم هي تدخل لحل الأزمة.
في البداية، لا بد من رصد المبادرات والسياسيات التي تم تقديمها، وممارستها على مدى ثلاثة أشهر تقريبا؛ لوقف الاقتتال السوداني، حيث يمكن الإشارة بارتياح، إلى أن الدور الأمريكي هو الدور القائد، وما يزال، ولكن ليس في إنهاء الأزمة، ولكن في هندسة سياسيات إدارة الأزمة، ذلك أن واشنطن مارست نوعا من أنواع الضغط السياسي؛ عبر تصريحات كبار مسئولي الإدارة الأمريكية مثل، توني بلينكن وزير الخارجية، ولكنها وبالتوازي مع ذلك، لجأت إلى مناهجهها التقليدية في مثل هذا النوع من الصراعات، ألا وهي فرض عقوبات اقتصادية على كيانات وشخصيات سودانية، تعلم هي قبل غيرها، أن هذه العقوبات هي من باب إبراء الذمة، وليس لها أي تأثير واقعي في مسألة وقف الصراعات بين أطراف محليين، اتخذوا كل الاحتياطات، ضد مثل هذا النوع من العقوبات الأمريكية التي باتت متوقعة، للفواعل السياسيين والعسكريين حول العالم.
في هذا السياق، فإن المنهج الأمريكي المتعدد الأوجه مع طرفي الصراع، كان له دور في إطالة أمد الأزمة على ما يبدو لنا، ففي الوقت الذي تمنح فيه شرعيات سياسية متساوية لكل من الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع، فهي تلوح من طرف خفي لإمكانية محاكمة رموز الدعم السريع محاكمات دولية؛ بشأن الانتهاكات التي تم ممارستها على الأرض ضد السكان المدنيين من قتل على الهوية العرقية، ونهب وسرقة واغتصاب، وتهجير قسري، خصوصا في أقصى غرب دار فور بمدينة الجنينة عاصمة الإقليم ، بل وتلحق بالدعم السريع اتهامات؛ بشأن الضلوع في مشروع إقليمي عابر للسودان، فطبقا “لواشنطن بوست” الأمريكية المعروفة بقربها من البيت الأبيض، فإن تحالف حميدتي مع مجموعة “فاجنر” الروسية، هو من أجل إنشاء كونفيدرالية تضم البلاد المعادية للولايات المتحدة الأمريكية، فيما يقوم هؤلاء المرتزقة بإذكاء الصراعات؛ باستخدام إمكاناتهم شبه العسكرية، وقدراتهم في نشر معلومات غير صحيحة، لتقوية شوكة حلفاء موسكو في القارة السمراء.
هذه الممارسة الأمريكية، قد ساهمت بشكل كبير في فشل مجهودات منصة جدة المشتركة مع المملكة العربية السعودية، حيث مارست ضغوطا؛ لوقف إطلاق النار، ولكن هذه الجهود ليس لها تأثير، أو قدرة كبيرة في الواقع؛ بسبب عدم انخراطها وتنسيقها مع الجهات الفاعلة الإقليمية، والدولية الأخرى المشاركة المتأثرة مصالحها بشكل حاد؛ بسبب الحرب السودانية، كما لم تقم واشنطن بهندسة مبادرات لها طابع سياسي، تتعامل مع مصالح الأطراف المتحاربة، وتحاول أن تدفع نحو تنازلات متبادلة، فيما يمكن تسميته بصفقة؛ لوقف الحرب، وبالتالي ومع الوقت، فقدت قدرتها الفعلية على تدشين حالة وقف إطلاق نار ممتدة، تكون قاطرة؛ لوقف الحرب السودانية المستعرة عبر منصة جدة، وربما هذا هو المطلوب أمريكيا.
وفي تقديرنا، أن الموقف الأمريكي من التحركات الإقليمية؛ لوقف الحرب. يدعم حتى الآن حالة تنافس إقليمي؛ بشأن السودان مترتبة على ملفات أخرى مثل، التوجهات الإثيوبية في الإقليم، ورؤيتها لنطاقات نفوذها المطلوبة، وكذلك ملف سد النهضة وطبيعة إدارته في الفترة المقبلة، وأيضا طبيعة ارتباطات قوات الدعم السريع على الصعيدين العربي والإفريقي، وما يوفره مثل هذا الارتباط من إمكانات لوجستية، لها طابع عسكري، يمكن أن توظفها الولايات المتحدة الأمريكية؛ لخدمة مصالحها ضد روسيا في مراحل قادمة.
من هنا، فإنه قد تم خلال الشهور الماضية إحباط المجهودات المصرية؛ بشأن وقف الحرب؛ حيث تقدمت القاهرة بمبادتين في الأسبوعين الأوليين للحرب. حرصت أن يكون فيهما شركاء إقليميين، هما جنوب السودان ودولة الإمارات. وبالتوازي مع ذلك شجعت واشنطن منظمة إيجاد على التحرك الفوري ضد مبادرة القاهرة؛ بطرح مبادرة تسحب جنوب السودان من المبادرة المصرية، ثم تمارس الإيجاد نزقا سياسيا، حينما تغير رئاسة اللجنة الرباعية لمبادرة إيجاد من جنوب السودان، لتعطيه لكينيا في أداء غير مطروق في مثل هذا النوع من الوساطات، ذلك أن أي وساطة يجب أن تحصل أولا على موافقة أطراف أي صراع، بل أن الأدهي من ذلك، إن كينيا تملك علاقة عضوية بالدعم السريع عبر علاقات اقتصادية سابقة من ضمنها تسريبات بشأن؛ تمويل حميدتي لحملة الرئيس الكيني الانتخابية، وليم روتو، وهو الأمر الذي لا يؤهلها مطلقا لقيادة هذا النوع من المجهود، وخصوصا أنها دولة لم تستقبل أي من اللاجئين السودانيين، كما أنها ليست دولة جوار مباشر مع السودان.
في هذا السياق، كان من المتوقع رفض القوات المسلحة السودانية لرئاسة كينيا للجنة الرباعية بوساطة الإيجاد، باعتبارها أحد طرفي الصراع، ولكن ذلك لم يجعل الإيجاد تعيد حساباتها، بل جاءت قمتها الأخيرة؛ لتمارس وصاية على السودان باتخاذ قرار ضلوع قوات شرق إفريقيا “إيساف” بالتدخل في السودان، وهو ما وافقت عليه هذه القوات، وأعلنت جاهزيتها له، وبالتوازي أعلنت إثيوبيا عن فرض حظر جوي على السودان في خطوات إجمالية، يمكن وصفها بمحاولة تركيع السودان والقوات المسلحة السودانية، بل والشعب السوداني؛ لقوات الدعم السريع.
قبل سنوات، تم طرح سؤال أمريكي، لماذا يكرهوننا؟ وربما يجيب على هذا السؤال هؤلاء اللاجئون والنازحون في شوارع القاهرة من غالبية دولنا العربية والإفريقية، لقد قمتم بهندسة كل سياسات الفوضى في إقليمنا بوكلائكم الإقليمين، وبمناهج بريطانية قديمة، هي فرق تسد، لقد أشعلتم كل فرص الانقسام على أسس طائفية وعرقية ودينية بين شعوبنا، من بغداد إلى جوبا إلى الخرطوم، مرورا بالقدس، لقد ساهمتم بشكل فعال في إحداث فوضى، حرمت الناس من ستر بيوتهم وملاذات أوطانهم، لقد دعمتم بهذه المخططات كلها، هتك أعراض نسائنا، وتشريد أطفالنا، لقد هددتم أمننا الإنساني تحت عنوان دعم الديمقراطية، التي نعلم أنها لا تجيء في المجتمعات المنقسمة التي لم تنجز بعد مهام هيكلة دولها على أسس حديثة، إلا بمناهج خاصة، وتوافقات لها أسس ثقافية ومجتمعية.
إجمالا، يبدو لنا أن صناعة الفوضى السودانية في هذه المرحلة، تطلب إعطاء شرعية سياسية لقوات الدعم السريع، حيث تمارس واشنطن فعليا وعلى الأرض، ومع وكلائها الإقليمين؛ لإكساب هذه القوات دورا فاعلا في عدم الاستقرار السوداني، بل وعدم الاستقرار الإقليمي تحت مظلة متطلبات صراعها مع كل من روسيا والصين في هذه المرحلة، وذلك على الرغم من أن قوات الدعم السريع غير مؤهلة لقيادة عملية تحول ديمقراطي في السودان، بعد أن غيرت ولاءها السياسي أكثر من مرة بين الفواعل السياسية السودانية، ومارست انتهاكات ضد الإنسانية على مدى أكثر من عشرين عاما، وأيضا شاركت في انقلاب أكتوبر ضد المكون المدني السوداني.