باقتراب الاستحقاق الرئاسي يطرح سيناريو (2005) نفسه، كأنه استدعاء من خزانة التاريخ حتى يمكن أن يقال إن منافسة مفتوحة جرت بين أكثر من مرشح دون أن تكون هناك أية منافسة تؤخذ على محمل الجد، أو أية انتخابات تحكمها قواعد وأصول وضمانات.
في ذلك العام أجريت أول انتخابات رئاسية قيل إنها تنافسية.
لم تكن أول انتخابات منسوبة للتعددية في العالم العربي.
قبل أن يطل القرن الحادي والعشرين أجريت عام (1999) انتخابات تعددية شكلية في تونس واليمن على التوالي.
جرت احتفالات دعائية بالتجربتين، دون أن تكون هناك انتخابات تستحق أن تنسب إلى طلب الديمقراطية.
لم يكن الرئيس التونسي “زين العابدين بن علي” جادا في أي إصلاح سياسي، وجرت المراسم الانتخابية كنوع من الاستفتاء المقنع، كل شيء مقرر سلفا.
كان الرئيس اليمني “علي عبدالله صالح” أكثر وضوحا وصراحة بأهدافه من إجراء انتخابات تعددية شكلية على النمط التونسي.
صرح علنا: “لا بد أن نحلق لأنفسنا قبل أن يحلق الآخرون لنا”.
بعد ستة أعوام استنسخت في مصر تجربة ثالثة، غير أن الأحوال في المنطقة كانت قد تغيرت، كأن زلزالا استراتيجيا ضربها أثر احتلال العاصمة العراقية بغداد عام (2003).
تصاعدت الضغوط الأمريكية على نظام الحكم في مصر لإجراء انتخابات تعددية، جدية وتنافسية، غير أنه كانت هناك أسبابا ودواعي داخلية ضاغطة تدفع لتغيير ما في طبيعة الحكم، نشأت حركات احتجاجية أهمها “الحركة المصرية من أجل التغيير– كفاية”، وعلت الأصوات المطالبة بتغيير حقيقي في بنية نظام استهلك زمانه وقدرته على البقاء.
بدت أول انتخابات منسوبة للتعددية في مصر استعراض لرجل واحد، النتائج مقررة سلفا، ونسبة الفوز بها تحددها سلطات الدولة!
السيناريو نفسه معدلا مرشح للتكرار بعد ما يقارب العقدين.
تكرار أخطاء الماضي لا تؤسس لأية شرعية.
قبل إغلاق باب الترشح بدأت رحلة البحث عن مرشح حتى لا تنحصر المنافسة في جانبها الدعائي والإعلامي مع رئيس حزب الغد “أيمن نور”!
لم تكن المخاوف والهواجس التي استبدت بفريق الرئيس “حسني مبارك” تعود إلى أي ثقل انتخابي لمنافسه المحتمل بقدر خشية ما قد يصاحب التغطيات الإعلامية الدولية من تساؤلات حول مستقبل نظام الحكم في مصر.
لم يكن “نور” خطرا انتخابيا عليه، ولا بديلا له، غير أن العصبية استبدت بالتصرفات المتفلتة إلى حد أن يحمل الدكتور “أحمد نظيف” رئيس الوزراء في زيارة لواشنطن قبل الانتخابات مباشرة نسخا من صحف ومجلات مصرية تناولت بالنقد والتجريح المنافس المحتمل في محاولة لإقناع الإدارة الأمريكية أن سجله الشخصي والسياسي لا يرشحه لأن يكون بديلا مقنعا ومقبولا من الرأي العام.
أدت هذه الطريقة في تحطيم الخصوم، التي تقارب إدارة أزمات في حارة شعبية، أو على مصطبة شيخ بلد في قرية نائية، إلى عكس الهدف منها!
أجلت قضية التزوير المتهم بها المرشح المنافس إلى ما بعد الانتخابات، وعندما صدر الحكم بإدانته نظر إليه، كما لو كان عملا انتقاميا!
في محاولة لتدارك مأزق أن يكون “أيمن نور” هو المنافس الرئيسي لـ”مبارك” بأول انتخابات رئاسية تعددية طرح اسم زعيم حزب التجمع “خالد محيي الدين” بثقله التاريخي كعضو في مجلس قيادة ثورة يوليو ورفيق تاريخي لرئيسين سابقين “جمال عبدالناصر” و”أنور السادات”.
أسرته مانعت في الفكرة، ولم يكن محبوه وتلاميذه مستعدون لقبول أن يلعب دور كومبارس في كواليس مسرحية من ممثل واحد.
وقد وجد رئيس حزب الوفد الدكتور “نعمان جمعة” أن هناك فرصة ترشح أمامه استنادا إلى مواريث تاريخ لحزب عريق، غير أن قطاعات عريضة من النخب السياسية والثقافية صدمت في هذا القرار المفاجئ بالساعات الأخيرة قبل إغلاق أبواب الترشح.
صدمت إلى حد تصور أن قرار الوفد بمثابة طعنة للمعارضة قد تنتقص من قدراتها على مواجهة استحقاقات مرحلة عاصفة تلوح مقدمتها في الأفق.
هناك من قال إن صفقة جرت مع الدولة ثمنها مقاعد أكثر للوفد في الانتخابات التشريعية المقبلة أدت إلى دخول الانتخابات في اللحظات الأخيرة.
لم يكن الدكتور “نعمان” متحمسا لدخول الانتخابات، بل لعله كان مقتنعا بضرورات مقاطعتها حسبما أخبرني بنفسه، غير أنه وضع تحت ضغط إنه إذا لم يترشح فإن الوفد سوف يتقدم باسم آخر من بين صفوف قياداته!
دفع الحزب ثمنا باهظا من مشاركته في انتخابات صورية نتائجها مصممة سلفا، وقد كانت النسبة التي حازها رئيس الوفد ثالثا بعد “نور” أقرب إلى زلزال أفضى إلى انشقاقات وصراعات داخله أطاحت تداعياتها في النهاية برئيسه.
مشكلة الوفد الآن أنه يكرر أخطاء الماضي دون أن يتعلم شيئا من تجربة (2005).
التاريخ لا يعيد نفسه، في المرة الأولى بدا الأمر مأساويا.. فيما هو الآن داعيا للشفقة والرثاء على الحزب الذي كان عريقا وربما السخرية مما آل إليه!
بإيعاز من سلطات الدولة جرى الدفع بمرشحين آخرين ينتسبون إلى أحزاب الموالاة، إذا صح نسبتها إلى أية حياة حزبية، للترشح أمام الرئيس الذي يؤيدونه، أو أنشئت أحزابهم لدعمه، ولم يعهد عن أي منهم كلمة معارضة واحدة سابقة!
فيما هو ظاهر هناك نزوع ما لتجنب ما جرى في انتخابات (2018) من الإقصاء التعسفي لجميع المرشحين المحتملين، الذين تتوافر فيهم القدرة على المنافسة الجدية في صناديق الاقتراع.
غير أن ذلك النزوع لا يمتد إلى حرية الانتخابات نفسها وتوافر ضمانات النزاهة والشفافية فيها.
حسب ما تسرب ونشر وقتها قبيل انتخابات (2005) لم يكن “مبارك” يفضل أن ترتفع النسبة التي يحصل عليها– بتدخل أجهزة الدولة– إلى (90%) وما فوقها، فهذه النسب المرتفعة سوف تؤكد وجهة نظر معارضيه بأن الانتخابات الرئاسية استفتاء مقنع، وبأنها مزورة ومهزلة لا تليق بأن تنتسب على أي نحو للديمقراطية.
ولم يكن يريد- بالمقابل– أن تهبط إلى ما دون الـ(80%)، ففي هذه الحالة هو مدعو إلى أن يضع في اعتباره – بضغوط دولية وداخلية – ما يمثله معارضوه من قوة داخل المجتمع المصري، وأنه لا مناص من إقرار ترتيبات جديدة للعبة السياسية وفق دستور جديد.
لم تكن تصلح مثل تلك الألعاب، التي تفتقر لأي أفق إصلاحي، في ترميم شرعية النظام.
ليست من مصلحة مصر استدعاء تجارب ثبت فشلها.
الانتخابات تعني الانتخابات، أن تكون القواعد حاضرة والضمانات مؤكدة.
عشية انتخابات (2005) طرح سؤال: إلى أي مدى سوف تزور؟
تحركت مبكرا أجهزة الأمن والمحليات في إدارة حملة “مبارك”، احتكرت كشوف هيئة الناخبين، منع منافسيه من الحصول عليها، عقدت اجتماعات موسعة مع من يوصفون بأنهم “مفاتيح الانتخابات” في الدوائر المختلفة، اختفت قيادات الحزب الوطني وتصدرت المشهد الانتخابي أجهزة الأمن وضباط المباحث في الأقسام والمراكز.
اندمج الحزب الوطني في آلة الدولة وأجهزتها، ترددت عبارة شبه ثابتة في أية ضغوط مورست على من يطلق عليهم “مفاتيح الانتخابات”: “المطلوب منك حشد أنصارك ورجالك، وهذه هي هديتك للرئيس!”.
كانت تلك وعود بمصالح قد تتحقق وأثمان لا بد أن تدفع.
لم يكن ممكنا والرئيس يؤدي اليمين الدستورية أمام مجلس الشعب يوم الثلاثاء (27) سبتمبر (2005) أي حديث عن شرعية جديدة تأسست على أول انتخابات قيل إنها تعددية.
الشرعية مثل خيوط الصلب قد لا ترى بوضوح لكنها تتأبى على الكسر بتعريف الأستاذ “محمد حسنين هيكل”.
يمكنك أن تنظر إلى شيء ما وتقول: “هذا جميل” ولكنك قد ترتبك بعض الشيء أو لبعض الوقت في تعريف “الجمال” ولا تصل أبدا إلى يقين، رغم أنك تعرف، وغيرك يعرف، أن ما رأيته جميلا هو جميل فعلا.
في الأحوال التي كانت عليها مصر بعد الانتخابات الرئاسية، بدا “مبارك” رئيس أمر واقع، لا رئيسا منتخبا، معلقا في شرعيات افتراضية، الشرعية الثورية انقضت” منذ سبعينيات القرن الماضي، والشرعية الدستورية مطعون على جديتها وصدقيتها وقدر تعبيرها عن الإرادة العامة.
هكذا تبدت في الأفق أجواء انفجار سياسي مرتقب فيما كانت الصحافة الرسمية تتحدث بمناسبة الولاية الخامسة للرئيس المنتخب عن “أزهى عصور الشرعية”!!
لم تكن الانتخابات الرئاسية (2005) سوى استعراضا لرجل واحد.
هذا آخر ما تحتاجه مصر بانتخابات (2024) في ظروف الجفاف السياسي المنذر والآنين الاجتماعي المتصاعد.