النظم السلطوية هي نظم تسلطية، وهي تحكم من خلال القانون غير المدني. وعلى الرغم من أن مصطلح الدولة المدنية هو مصطلح غامض، ولا يوجد له أسس راسخة، ومعتبرة في الأدبيات الغربية، إلا أنه مصطلح مهم يعبر عن واقع عديد البلدان النامية التي عاشته الكثير منها في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، بما يشمل البلدان العربية، وذلك منذ أن نالت غالبية تلك البلدان الاستقلال عن الاستعمار، عقب الحرب الكونية الثانية.

وعلى الرغم من أن الإخوان المسلمين قد عرفوا الدولة المدنية؛ باعتبارها الدولة التي لا يحكمها العسكريون، إلا أن هذا المفهوم الذي لا زال غامضًا، مرتبط بالأساس بأمرين: أولهما الدولة التي لا يحكمها العسكريون، والدولة التي لا يحكمها من هم يخلطون الدين بالسياسة أو الدين بالدولة، وهذا الأخير يُدخل الدول التي يحكمها أو حكمها الإخوان ضمن نظم الحكم الدينية، وهو ما يسعون دومًا إلى نفيه.

وثيقة الأزهر

وقد عرف الأزهر في وثيقته الشهيرة التي صدرت عقب الزخم السياسي الكبير الذي تلا أحداث 25 يناير2011، في مصر. الدولة المدنية تعريفًا موجزًا، لكنه أكثر دقة ورصانة، وذلك بكونها “الدولة الحديثة الديمقراطية الدستورية”. وهذا التعريف ينفي بوصفه كلمة “حداثة” أي ارتباط للدولة بالكلية بالدولتين الدينية أو العسكرية. كما أن ذكر الأزهر كلمة “الديمقراطية”، ينزع عن الدولة أي صلة بالتسلط والسلطوية المرتبطة بالدكتاتورية ارتباطًا وثيقًا، بل وينزع عنها وصف الشمولية أيضًا، وهو وصف يرتبط بوجود مؤسسات رغم رسوخها أحيانًا، إلا أنها مرتبطة بهيمنة تنظيمات ضيقة الأفق، ومحصورة في إيديولوجيات وأفكار محددة كالدولة السوفيتية الغابرة. أما وصف “دستورية” الذي أتت به وثيقة الأزهر، فهو لا يهدف إلى وجود أية دساتير -كما يشي المعنى الحرفي للكلمة- بغض النظر عن مضمونها، بل إلى وثائق دستورية مرتبطة بالأعراف التي صارت عليها النظم المتمدينة في عالم اليوم، والتي يتكرس فيها حقوق الإنسان، وحرية الرأي والتعبير، ليس فقط في نصوص وثلة من القوانين التي تشكل مخرجات، أو ترجمة لتلك الدساتير، بل في ممارسات تمرد عليها كل من المجتمع والدولة في علاقاتهما بعضهما البعض، وعلاقات أركان المكونات الداخلية لكل واحد منهما على حدى، كالعلاقة بين الأحزاب والمجتمع المدني بين مختلف المكونات داخلهما، وخارجهما فيما يخص المجتمع. وكذلك علاقات المؤسسات السياسية الرسمية الممثلة في سلطات الدولة الثلاث، فيما يخص الدولة داخل كل سلطة وبين السلطات وبعضها.

الدولة الدينية

والدولة الدينية هي بالأساس الدولة التي لا تؤمن بحرية العقيدة، والتي تجبر الآخرين، إما (على أقصى تقدير) في الدخول في دين معين، سماوي أو غير سماوي، وإما (على أدنى تقدير) ظهور نهج يتضمن الإزدراء الرسمي أو الشعبي من شخص، أو جماعة بمجرد التعريف بدياناتهم، أو القيام بإجبار تلك الأقلية الدينية على وضع ما يميزهم بغية فصلهم عن الجماعة الكلية.

يرتبط ما سبق بمؤشرات أخرى، يرمي أو يسم الآخرون الدولة من خلالها بوصفها دولة دينية، ومن ذلك اللجوء إلى تعميم أحكام شريعة دينية محددة، أو ناموس ديني بعينه على كل أفراد المجتمع بغض النظر عن تنوعهم الديني. كما يرتبط بذلك لجوء نظام الحكم الديني الذي يصبغ الدولة بصبغة دينية بالاحتكام إلى مجمع علماء –أو هيئة دينية- محددة لسن شرائع وضعية، أو بجعل ذلك المجمع هو القيم على السلطة التشريعية المنتخبة ديمقراطيًا، بجعلها سلطة تمريرية لما يفرضه هذا المجمع على الشأن المدني غير المرتبط بالدين وفرائضه. إضافة إلى ذلك، فإن القائمين على تلك الدولة يوزعون المغانم على الأتباع من نفس الفصيل، ويصبح حديث هؤلاء عن الشراكة في الحكم مجرد شعارات، لا تترجم على أرض الواقع، بل قد يقتنص المراقبون للأوضاع من سلوك هؤلاء الحكام، ما يشير إلى الرغبة في الاستحواذ على السلطة إلى الأبد.

من ناحية أخرى، يرتبط بالمؤشرات الأخرى للدولة الدينية أمورًا، تجعل من الثقافة المنتشرة في المجتمع، والتي ترتبط بالتعليم الرسمي، وبغيره من مؤسسات التنشئة الاجتماعية كالإعلام وغيره، تصف وتنعت العلمانية بالكفر، وأنها ضد الدين بالقطع، رغم كونها بالأساس أداة؛ لفصل الدين عن الدولة التي يفترض بالضرورة والفطرة، أنه لا دين لها. بل أن تلك الثقافة الهادفة لعدم فصل الدين عن السياسة، نجدها تستشري في المجتمعات النامية التي يهدف المتدينون فيها لهدم الآثار، كما تظهر إبان الانتخابات في تلك البلدان، حيث تظهر الطائفية كفاعل في الحملات الانتخابية، ما يجعل الأمر، لا يتسم بالنزاهة والحياد بين المترشحين من أطياف مختلفة. ضمن المؤشرات الأخرى للدولة الدينية، أنها الدولة التي تنتقد الليبرالية السياسية ولا تعترف بأفكارها المتصلة بالحرية والمساواة والحقوق المدنية للإنسان على النحو الذي جاء بالشرعية الدولية لحقوق الإنسان، حتى لو ذكرت غير ذلك.

الدولة العسكرية

على النقيض تمامًا من الدولة الدينية، يكره العسكريون الدولة الدينية، ولا يألفونها؛ لرغبتهم في عدم سيادة الطائفية في الدولة، ولكنهم أيضًا لا يعترفون علنًا بالدولة المدنية الحديثة والديمقراطية، على غرار النماذج المتمدينة التي عكفت عليها عديد البلدان في الغرب. ينطلق حكم العسكريين هنا في الهيمنة على السلطة من المدنيين؛ سواء بانقلابات عسكرية، أو عبر صناديق الانتخاب على النحو الذي جرى في ألمانيا بين الحربين الكونيتين. ويرتبط حكم الدولة غير المدنية من المنظور العسكري بعديد المؤشرات التي تجعل الحكم القائم يرتبط بعسكرة كل مناحي الحياة.

في النظم العسكرية، يكون أساس نموذج التنمية القائم معتمدًا على الجيوش، فهم أساس التطور الاقتصادي والاجتماعي، ومن موازنة الجيش، يتم التغلب على نقص وعجز الموازنة المدنية، بأن يمد الجيش السلطة بما تريده، سعيًا للشرعية التي تهدف إلى الخلاص من الفكر المتمدين أو الفكر الديني الغابر، حتى أن الناس البسطاء لا يستطيع بعضهم التمييز بين العسكري والمدني، رغم كون الأول الذي يصف نفسه بالانضباط والنزاهة، يسعى إلى الإحلال محل الثاني الذي يوصف من قبله بالفساد.

في الدولة العسكرية يُسخر الإعلام لصالح الحاكم الفرد، الذي لا يقبل عادة معارضة، أو نقاشا لقراراته، فهو محدد الأولويات، وهو القابض على ناصية كل الأمور؛ باعتباره يعي وحده كافة التفاصيل، ولذلك يلقى في السجون الكثير من أصحاب الآراء والأقلام المعارضة. وعلى العكس من ذلك تتسم الدولة في الخارج بالضعف، ولا تظهر أمام النظم السياسية من حولها -كبر أو صغرت مكانتها- إلا بكل وهن؛ بسبب أحوالها الداخلية. وتكون في تلك الأنظمة مكاسب العسكريين في وظائفهم، وبعد تقاعدهم كبيرة للغاية مقارنة بغيرهم، فهم قادة ورؤساء ألوية ومحافظات وأقضية ومقاطعات ومدن وغيرها من الجهويات، وهم أيضًا متحكمون في عديد المؤسسات المدنية التابعة للدولة، وكذلك يسعون لإخضاع سلطات الدولة الثلاث لهم بالكلية. وتتدخل أجهزة مخابرات تلك الدول في كل كبيرة وصغيرة في الشأن المدني، ويصبح قرار أي مؤسسة مدنية بما فيها التعليم والصحة والاقتصاد معتمدًا بالكامل على تقدير الأجهزة الأمنية، وتكون سياسات تلك المؤسسات وأولوياتها مرتبط بتقدير تلك الأجهزة. وتبلغ أشد مقدرات الدولة العسكرية وطأة في محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، وكذلك تعيين قضاة المحاكم المدنية من قبل الحاكم الفرد، ويكون بعض الوزراء من خلفيات عسكرية أو من أقارب عسكريين، ويكون غالبية المديرين المدنيين إن وجدوا من أهل الثقة لا الخبرة.

هكذا تكون الدول وتصنيفاتها المختلفة بين نظم عسكرية وأخرى دينية وغيرها مدنية، ولا شك أن بلدنا العزيز يسعى في الوقت الراهن من خلال التحول الديمقراطي ومقرات الحكم، إلى الولوج إلى مصاف الدول المدنية، وربما يسعى الحوار الوطني القائم لتحقيق ذلك.