على الرغم من المجهود المصري في محاولة تحجيم قدرات الأطراف الدولية في الصراع السوداني لكن يبدو أن التحديات التي تواجه مصر مع دول جوار السودان في محاولة وقف الحرب ليست بالقليلة ولا الهينة ذلك أن الموقع الجيو سياسي للسودان إلى جانب أنه مهدد لمصر، فإنه مهدد أيضا لدول الجوار في حالة استمرار الحرب، على المستوي المصري هناك تصاعد للمهددات الأمنية وارتفاع لحجم التحديات الاقتصادية في توقيت حرج داخليا، وذلك بضغوط تضخم عدد اللاجئين بشكل شامل.
أما على مستوى دول الجوار العربي والإفريقي للسودان فإنه مهدد على الصعيد الوجودي نظرا لحالة الهشاشة التي تعاني منها هذه الدول لأسباب داخلية متنوعة جعلتها أكثر تأثرا بالحرب السودانية إلى حد إمكانية نشوب صراعات مسلحة فيها كتداعي مباشر للحرب السودانية .
من هنا تكمن أهمية قمة دول جوار السودان التي عقدت مؤخرا بالقاهرة والتي إهتمت بالتفاعلات الإقليمية والدولية بشأن السودان وطرحت إمكانية أن ننجو جميعا من مخطط تدويل الأزمة السودانية لتتحول إلى منصة للصراع الدولي المحتدم حاليا حول مستقبل النظام الدولي وطرفه أو أطرافه القائدة والتي من المنتظر أن تحدده نتائج حرب الغرب مع روسيا في أوكرانيا.
في البداية نرصد أن المجهود المصري في قمة القاهرة كان له عدد من المحددات منها أنه مجهود جماعي وتعاوني لدول الجوارالعربي والإفريقي بإعتبارهم الأطراف المتضررة فعليا من المجريات السودانية، وكذلك هو مجهود لا يستبعد أي من المبادرات الإقليمية بل يهتم بالتنسيق معها، وهو ثالثا مُستهدِف عدم تدويل الأزمة وحلها عبر حوار داخلي، خصوصا في ضوء مجهودات دول الإيجاد بقيادة كينيا التي أرادت تنفيذ حظر دولي للطيران على السودان في خطوة تعود بذاكراتنا لما جرى في العراق وتطوراته المفضية إلى انهيار العراق كدولة وكقدرة إقليمية.
مطلب حظر الطيران على السودان يكشف إلى حد بعيد ملامح الصراع الداخلي السوداني الذي أفضي الي الحرب والذي ما زال جاريا في تقديري ولم يهدأ ويمارس ضغوطا على القوى المستقلة السودانية وبعض دول الإقليم الساعين إلى رفض التدويل نتيجة تداعياته السلبية على السودان ومحيطه، وذلك كل في سياقه المنفصل.
ويمكن رسم خريطة للصراع السوداني على النحو التالي أن مطالب الشعب السوداني في التحول الديمقراطي قد تم تأطيرها في إطار إتفاق قادت الطريق إليه الولايات المتحدة الأمريكية فيما سمي بمشروع الدستور الإنتقالي، لكن القوي الرافعة لهذا الاتفاق قد انقسمت ولم تستطع أن تبني توافقا وطنيا حوله وذلك في اتجاهين الأول إزاء القوى الاجتماعية للنظام القديم عبر ممارسات لجنة إزالة التمكين، والثاني إزاء قوى ساندت انقلابا على القوى المدنية من جانب الجيش في أكتوبر ٢٠٢١.
وعلى الرغم من أن الاتفاق الإطاري الموقع في ٥ ديسمبر ٢٠٢٢ قد قدم قدرا من المعالجات للأزمة السودانية لكن الممارسات السياسية لقوى التحول الديمقراطي كانت وما تزال لا تتمتع بالنضج الوطني الكافي وربما الخبرات السياسية المطلوبة لتجعل نفسها قائدة للجهات الدولية، ومقاومة لمشروعات تدويل الأزمة وذلك عبر بلورة مشروع وطني جامع لكل الأطراف يحقق وقفا للحرب واستئنافا للعملية السياسية طبقا لشروط ومتطلبات داخلية سودانية في المقام الأول.
في المقابل فإن فريق المكون العسكري (القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع) اللذين يمارسان الإحتراب حاليا إلى جانب أنهما يمارسان نزوعا للاستيلاء على السلطة السياسية كل لصالحه، فإنهما أيضا تجليًا لفريقي الصراع السياسي السوداني، فالقوات المسلحة السودانية قد تم اختراقها من جانب الإخوان المسلمين خلال حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، وهم ممثلون للنظام القديم ، ومؤثرون في مجريات العمليات العسكرية الراهنة وتتقاطع مصالحهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع مصالح وتطلعات الشعب السوداني الساعية للديمقراطية وامتلاك مقدراته الاقتصادية طبقا لقواعد الحكم الرشيد.
المشكل الرئيس هنا أن النخب المنحازة للتحول الديمقراطي بدلا من أن تجد طريقا للتحالف الوطني الواسع، والحرص على وضع أسقف للصراع السياسي تحت سقف استراتيجي محدد بضرورة بقاء الدولة، مارست عددا من الخطايا منها الانقسام بين أطرافها وتدشين تنظيرات سياسية تعمق هذا الانقسام ولا تحتويه، وذلك إلى حد الاستهانة بنتائج المواجهة بين طرفي المكون العسكري. وقد شكل عدم القدرة على التفاعل الناضج مع المحيط الإقليمي(المعادي للديمقراطية بطبعه) والاستقواء عليه بالمحيط الدولي دون تحسب أن البيئة الدولية بطبيعة الصراع بين أطرافها، أصبحت تعطي فرصا للفواعل الإقليمية في التأثير وأيضا المراوغة إن أرادات، حيث لم يتحسب أيضا الفريق المنحاز للتحول الديمقراطي لدور الخبرة العميقة بالتفاعلات السودانية من جانب بعض دول الإقليم في امتلاك أدوات قد تكون غير متاحة للأطراف الدولية، وباالتالي التأثير في المشهد الداخلي السوداني.
الخطأ لثالث والرئيس الذي يقع فيه المكون المدني السوداني حاليا على شموله في تقديري عدم إدراك أن بيئة الصراع الدولي تجعل الأطراف الدولية توظف تطلعات الشعب السوداني في التحول الديمقراطي لمصالحها الذاتية، وذلك عبر النخب الداخلية الموالية لها، وذلك دون تحسب دولي ولا اهتمام ربما لحالة عدم الاستقرار السوداني الذي ربما يكون مطلوبا أمريكيا في هذه المرحلة تحت مظلة الصراع الدولي المحتدم، وهو ما يفسر لنا الحرص الأمريكي على إعطاء شرعيات سياسية متساوية لكل من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع رغم ممارسة الأخيرة لفظائع غير مقبولة وانتهاكات ضد الإنسانية، وعمليات تطهير عرقي متعمدة.
المشهد السوداني رغم تعقده وتركيبه لا يجعلنا نتوقف على الإطلاق عن محاولة طرح الأفكار بشأن كيفية وقف الحرب، واستعادة زخم العملية السياسية الممهدة لاستقرار يتيح عقد انتخابات مطلوبة بإلحاح لتدشين شرعية سياسية بديلة لشرعية نظام البشير.
أولا: مطلوب من القوات المسلحة السودانية رغم طبيعة تكوينها الراهن المؤثر فيه القواعد الاجتماعية للإخوان المسلمين، وطبيعة التباينات بين أطرافها أن تنحاز لفكرة بقاء الدولة السودانية وإنقاذها من التهديد الوجودي الذي تواجهه، من هنا عليها تخفيض مستوى التوتر مع القوى السياسية الساعية للتحول الديمقراطي خصوصا مجموعة المركزي رغم خطاياها فضرورات بقاء السودان أسبق عن متطلبات الصراع السياسي.
ثانيا: مطلوب من الحرية والتغيير المركزي أن يتواضع لمصالح الشعب السوداني وإنقاذه من الحرب بأن يعتبر أن طرائق التحول الديمقراطي قد تتعدد في المجتمعات المنقسمة وأنها لا تتحقق بالضرورة عبر التحالف مع المكون الدولي الذي لديه أغراض في أن تكون أدواره في الأزمة السودانية مجرد إدارة للأزمة وليس إنهاء لها.
ثالثا: على الدعم السريع أن يتوقف عن المرواغة، وتقديم نفسه كفاعل في التحول الديمقراطي السوداني فهو غير مؤهل لذلك بل وموصوم أخلاقيا وإنسانيا وبالتالي عليه بدلا من الحديث عن لجان اتصال سياسي لحل ما يسمي بجذور الأزمة السودانية أن يقبل دون شرط إدماج قواته فورا في القوات المسلحة السودانية تحت قيادة القائد العام لها وليس تحت قيادة سلطة مدنية، تخلق حالة توازي قدرة عسكرية للدولة ولا تحافظ على استقرارها، وهو بذلك يقدم خدمة للشعب السوداني في هذه المرحلة بأن يكون وازنا في مواجهة المنتمين للإخوان المسلمين ومؤثرا في عودة القوات المسلحة إلى ثكناتها ومحاولا أن يقدم عوضا للشعب الذي تم انتهاك ستر بيوته وسرقة ممتلكاته.
رابعا: على القاهرة أن تدرك أن دعمها لأمن واستقرار السودان لا يعني على الإطلاق استنساخ النموذج المصري في المستقبل السوداني، وأن للسودانيين الحق في خلق تجربة مغايرة، خصوصا وأن النموذج المصري عليه مآخذ كثيرة تتطلب إصلاحا، وهو ماجعل الحوار الوطني المصري قائما في الوقت الراهن، كما يجعل محاولة هندسة الانتخابات القادمة تواجه تحديات ليست بالهينة. وعليه فإني أتطلع أن يتضمن الخطاب الرسمي المصري في المرحلة القادمة محتوى يشير بوضوح لدعم مصر للتحول الديمقراطي في السودان وفقا لشروط وطنية داخلية يتم الاجتماع عليها، فقد لاحظت أن كلمات الرئيس السيسي في البيان الختامي لقمة الجوار السوداني بالقاهرة قد اقتصرت على أن مجهودات القمة تسعي لـ”أمن ورخاء واستقرار السودان” وفقط وهي معادلة في تقديري لا تعمل بنجاح في المجتمعات حديثة التكوين المنقسمة عرقيا وثقافيا وقبليا كالمجتمع السوداني، والتي تسعى أطرافها للتمثيل السياسي عبر الآليات الديمقراطية.
أخيرا وفيما يتعلق بالمكون المدني الشامل فربما يحتاج ذلك إلى مقال منفصل.