كان كل شيء في مصر يُشير إلى قرب نهاية النظام الملكي.
لم تكن في طاقة الطبقة السياسية الحاكمة أن تضطلع بمسئولية طلب الجلاء، الذي تصاعدت نداءاته بأثر مبادئ حق تقرير المصير، التي سادت الخطاب العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.
برزت على المشهد السياسي المضطرب قوى جديدة، تدعو للتغيير في بنية النظام الطبقي المجحف بالأغلبية الساحقة من المصريين، ووصلت رياح التغيير إلى قلب “الوفد” حزب الأغلبية الشعبية التقليدي ونشأت من بين صفوفه “الطليعة الوفدية” الأميل إلى اليسار برعاية زعيمه “مصطفى النحاس”، لكن القوى القديمة ظلت لها الكلمة العليا.
كان “النحاس” زعيما وطنيا حاز شعبية كبيرة تعرضت للتآكل الفادح بعد توقيعه اتفاقية (١٩٣٦)، التي أفضت- رغم مثالبها- إلى دخول جيل جديد من أبناء الطبقة الوسطى والمزارعين وصغار الموظفين الكلية الحربية، من بينهم “جمال عبدالناصر” ورفاقه.
في اللحظة، التي ألغى فيها “النحاس” الاتفاقية بأكتوبر (١٩٥١) “باسم الشعب” انتهت صفحة كاملة من التاريخ المصري قبل أن تتحرك دبابة واحدة صبيحة (٢٣) يوليو.
بتوصيف شيخ المؤرخين المعاصرين الدكتور “يونان لبيب رزق”، فإن إلغاء الاتفاقية “أخرج المارد من القمقم، الذي أجهز على ما بقي من النظام القديم، ولم يكن بوسع أحد أن يُعيده حتى الوفد نفسه”.
هكذا انفسح المجال واسعا أمام القوى الوطنية الشابة لحمل السلاح في منطقة قناة السويس، وقد لعب الضباط الأحرار دورا جوهريا تدريبا وتسليحا للفدائيين.
كان عام (١٩٥١) مشحونا بإشارات النهاية.
كتب “إحسان عبدالقدوس” في “روزاليوسف”- (٨) مايو- مقالا عنوانه “دولة الفشل”.
جاء فيه بالحرف الواحد: “إننا في مصر نؤمن بالفشل ونعبد الفاشلين.. الفشل في كل مكان.. وأمام كل خطوة ووراء كل زعيم، وفي حنايا كل ملف وفي ظلام كل درج وفي طيات كل صوت.. والفاشلون هم الذين يحكمون مصر، وهم الذين يسوقونها من فشل إلى فشل ثم إلى فشل جديد”.
أخطر ما في هذا المقال ما كتبه عن وزير الحربية، فهو “فاشل.. فشل حتى في الاحتفاظ باختصاصه وترك الجيش يخرج من بين يدي الحكومة والشعب، ليكون هيئة كهنوتية لها أسرارها، ولها سلطانها، ولها استقلالها، ولها قائد فاشل”.
كان ذلك تلميحا إلى أن هناك شيئا قد يحدث من داخل الجيش لإنهاء دولة الفشل.
وكتب “خالد محمد خالد” في نفس المجلة يوم (٢١) أغسطس مقالا عنوانه: “صاحب الجلالة الشعب”:
“إذا كان في مصر أحد جدير بأن تخشاه الحكومة وتجامله فهو نحن.. لأننا أصحاب البلد الذين نولي ونعزل.. ونضع ونرفع.. ونعز ونذل، وإذا جردتنا ظروف طارئة من سلطتنا يوما أو بعض يوم، فمردها المحتوم إلينا.. وإلينا وحدنا، في يوم ترونه بعيدا ونراه قريبا”.
وقد كان حريق القاهرة في (٢٦) يناير (١٩٥٢) إنذارا أخيرا بما هو آتٍ.
في اليوم السابق تصدى ضباط وجنود الشرطة في الإسماعيلية بأسلحة بدائية لقوات الاحتلال البريطانية رافضين تسليم مواقعهم.
أفضت الواقعة بما حملته من استهانة بريطانية وما عبّرت عنه من شجاعة مقاومة إلى إضراب عام في العاصمة لـ”بلوكات النظام”.
تداعت الأحداث بعده إلى حرائق في قلبها.
أفلت النظام العام وسادت الفوضى وعمليات النهب والتخريب.
فرضت الطوارئ ونزل الجيش- لأول مرة في التاريخ المصري الحديث- لاستعادة السيطرة وفرض الهدوء على المدينة المروعة.
حتى الآن لا توجد إجابة لها صفة الفصل على سؤال: من حرق القاهرة؟
الأقرب إلى الحقيقة أن مخزون الغضب وجد انفجاره في إضراب “بلوكات النظام”- كأنه عود ثقاب ألقي على أرض مشبعة بالوقود.
أثر حريق القاهرة شاعت في الأجواء العامة قصيدتان.
أولاهما- للشاعر “إسماعيل الحبروك”:
“سأنام حتى لا أرى.. وطني يُباع ويُشترى”
“سأنام عن عهد القتال.. حلم تحقق في القنال
أضحى الجهاد جريمة.. فلتسجدوا للاحتلال!!”
وثانيتهما- للشاعر “مأمون الشناوي” دعا فيها الجيش بلا مواربة إلى إطاحة النظام الملكي:
“أنت إن تنصره- يا حارس- كنت المندحر
أنت أن تخذله- يا حارس- كنت المنتصر!”
“أترى يبقى طويلا جالسا فوق الرماح
لن يطول الليل.. بل لا بد أن يأتي الصباح”
وكانت ذروة دعوته لتدخل الجيش:
“غضبة من عزمك الجبار تمحو كل باطل”.
لم تكن إطاحة النظام الملكي حدثا مفاجئا قفز من خارج سياق الحوادث، أو بعمل سري محض جرى في الظلام.
كان كل شيء فوق المسرح السياسي يُنذر بنهاية قريبة لم يكن بمقدور أحد أن يتكهن طبيعتها وصورتها وما بعدها.
في هذه الأحوال المضطربة علا طلب التغيير بأثر من تطورين جوهريين:
أولهما- تداعيات ما بعد الهزيمة العسكرية في حرب فلسطين، التي أفضت إلى مراجعات غاضبة لمستويات الكفاءة العسكرية وأهلية الملك “فاروق” للحكم، وتساؤلات حادة عن مدى مسؤولية الفساد المتفشي حوله في الهزيمة، ونشوء دولة معادية على الحدود تهدف- فيما تهدف- إلى عزل مصر عن محيطها العربي.
وثانيهما- حقائق ما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد اختلفت موازين القوى الدولية، وبدا العالم كله في حالة سيولة، انتظارا لنظام عالمي جديد.
ارتفعت نداءات التحرر الوطني وحق تقرير المصير والعدل الاجتماعي في أرجاء العالم، وكان ذلك ملهما للحركة الوطنية المصرية، للبحث عن طريق جديد وتبني أفكار جديدة.
كان “الضباط الأحرار” جزءا من طاقة الغضب على كل ما هو تقليدي متهالك وموروث سقيم من أفكار وسياسات ومواقف.
خرجت “يوليو” من داخل الحركة الوطنية الشابة بأفكارها وأحلامها وإحباطاتها، والروح الراديكالية التي سادتها في طلب الجلاء والتغيير- من داخل السياق لا من خارجه.
يصعب تلخيص ما جرى يوم (٢٣) يوليو في حركة الدبابات أمام قصر عابدين، واستيلاء “الضباط الأحرار” على قيادة الجيش وإذاعة البيان رقم (١) في صباح ذلك اليوم.
لم يكن ممكنا للتحرك العسكري في (٢٣) يوليو أن ينجح وينال دعما شعبيا كبيرا لو أن “الوفد” حافظ على مكانته، ولم تتدهور أحواله على النحو الذي انطوت به صفحته مع سقوط النظام الملكي.
بمناسبة مرور خمسين سنة على ثورة يوليو طرح “محمد حسنين هيكل” سؤالا جوهريا، تضمنه كتابه “سقوط نظام”: “لماذا كانت ثورة يوليو ١٩٥٢ لازمة؟”
بأي نظر جاد فهو كتاب مرجعي لا غنى عنه في أية قراءة لما قبل يوليو.
الأكثر إثارة في ذلك الكتاب الموثق أنه تطرق موسعا إلى خفايا ما كان يحدث في القصر الملكي، مسجلة على شرائط بصوت وكيل الديوان الملكي “حسن يوسف”، الذي عمل في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة “الأهرام”، خلال رئاسة “هيكل” مسؤولا عن وحدة التاريخ الحديث.
كانت تلك شهادة مسجلة كـ”وديعة تُنشر بعد عدد من السنين”، حسب اتفاق بين الرجلين في حضور “عبدالفتاح عمرو”، وهو واحد من أقرب أصدقاء “فاروق” وسفيره فوق العادة في لندن.
قدر “هيكل” أن مرور خمسين سنة على ثورة “يوليو” تكفي وتزيد للبوح ببعض ما تضمنته الشهادة المسجلة، لكنه ترك الأصل بصوت وكيل الديوان الملكي للأجيال القادمة، قبل أن تلتهمه حرائق برقاش.
من دواعي الدراما في تلك الفترة المتقلبة، أن الملك فكر في “انقلاب أبيض” يعلن بعده “ديكتاتورية عسكرية” تحكم بمراسيم لها قوة القانون وتأجيل أية انتخابات برلمانية إلى أجل غير مسمى- كما تكشف البرقيات البريطانية.
أجهضت حركة “الضباط الأحرار” تفكيره وسبقته قبل أن تذهب به إلى المنفى.
لم تكن الحركة مفاجئة تماما، فقد كان الجو العام يشي بأن شيئا ما داخل الجيش يمكن أن يحدث فـ”هناك سخط منتشر بالجيش، ومن المحتمل أن يفضي إلى عملية من نوع ما”- حسب برقية الوزير البريطاني المفوض في القاهرة “مايكل كرسويل” إلى وزير خارجيته “أنتوني أيدين” يوم الأحد (٢٠) يوليو (1952).
في برقية بريطانية أخرى أرسلت اليوم التالي إلى هيئة أركان الحرب الإمبراطورية في لندن: “المعلومات التي لدينا أن هناك توترا على نطاق واسع في الوحدات العسكرية المصرية واحتمالات العصيان واردة”.
كان نجاح الحركة في صبيحة (٢٣) يوليو ملغما باحتمال تدخل القوات البريطانية، التي تبلغ (١٢٠) ألف جندي في معسكرات قناة السويس لإجهاضها.
بدا كل احتمال مرتهنا بمدى الدعم الشعبي الذي تحوزه الحركة.
إذا ما كان قويا فإنه قوة ردع لأي احتمال تدخل.
هذا ما حدث بالضبط.
بحكم الوثائق البريطانية كانت هناك خطة جاهزة يطلق عليها “روديو” لاحتلال القاهرة والدلتا والإسكندرية لدى أي طارئ مفاجئ وجرى الاستعداد لتنفيذها.
اعتمدت تلك الخطة على القوة المجردة بلا أي غطاء قانوني بعد إلغاء اتفاقية (١٩٣٦).
بحكم نفس الوثائق فإن الملك “فاروق” طلب التدخل العسكري البريطاني لإجهاض التمرد عليه على نحو ما فعله عمه الخديو “توفيق” عام (١٨٨٢)، لكنه لم يتلق إجابة.
بدا “فاروق” مذعورا- وفق برقية للسفير الأمريكي “جيفرسون كافري”، الذي أخذ يهدئه دون جدوى.
لم تكن هناك أية معلومات لها قيمة عن توجهات الحركة، ولا من يمسكون بزمام الموقف فتبدت تناقضات في الاستنتاجات والتصرفات.
بقوة الوثائق الدامغة فإن أي حديث عن صلة ما ربطت “الضباط الأحرار” بالاستخبارات الأمريكية محض كلام فارغ.
غابت بالكامل أية إشارات إلى “عبدالناصر”، أو أي أحد آخر من مجلس القيادة باستثناء “أنور السادات” واللواء “نجيب”، الذي صدر البيان الأول باسمه.
جرت اتصالات لضبط ردات فعل البريطانيين، ولم يكن الأمريكيون في وضع يسمح لهم بتقدير موقف على قاعدة معلومات واضحة.
وفق الوثائق الأمريكية والبريطانية لم تكن هناك أية معلومات ذات قيمة عن شخصية اللواء “نجيب” صبيحة (٢٣) يوليو، رغم أنه انتخب رئيسا لنادي الضباط في مواجهة صريحة مع رجال الملك، ورشح مرتين وزيرا للحربية في حكومتي “حسين سري” و”نجيب الهلالي”، غير أن الملك لم يكن مستعدا لإسناد هذه المهمة إليه مبديا غضبه كل مرة من مجرد ذكر اسمه.
كانت انتخابات نادي “الضباط” في ديسمبر (١٩٥١) اختبارا للقوة والتأثير في صفوف الجيش من قبل “الضباط الأحرار”، وكان حل مجلس إدارته المنتخب إيذانا على مواجهة محتملة تقترب مواقيتها.
وكان تغيير الوزارات بعد حريق القاهرة في (٢٦) يناير (١٩٥٢) حدثا متوقعا كل لحظة.
شهدت تلك الفترة إقالة وزارة “الوفد” برئاسة “مصطفى النحاس”، وتولي “علي ماهر” مقاليدها، ثم جاء الملك بـ”نجيب الهلالي” بعد شهر واحد قبل أن يقيله هو الآخر في ظروف مريبة بصفقة مالية بلغت مليون جنيه، دفعها “أحمد عبود” وسجلتها برقيات السفارة البريطانية، ثم كلف “حسين سري” بحكومة رابعة قبل أن يعود لـ”الهلالي”، لكن حكومته لم تتمكن من الاجتماع، فقد أطاحت “يوليو” باللعبة كلها.
جرى ذلك كله في أقل من سبعة أشهر.
بدا أن كل شيء يؤذن بالمغيب قبل أن تحل النهاية وتطوى صفحة حكم أسرة “محمد علي” وتبدأ صفحة ثورة (23) يوليو.