لا يقف أمر إصلاح المنظومة القضائية فقط عند حد تطوير العلوم القانونية، وتطوير علم القضاة، والحث على تخصصهم العلمي، ودعم تطوير أداء المحامين، وتحسين جودة مهنة المحاماة ونقابة المحامين، أو ميكنة المحاكم، وتحديث طرق التقاضي فقط، فكل ذلك لازم وضروري؛ لتحسين وجه القضاء، ولكن لا بد مع ذلك من إصلاح معاوني القضاء مع ذات الوتيرة الإصلاحية؛ حتى يكتمل البنيان الإصلاحي؛ الهادف إلى حسن التقاضي والمحاكمة العادلة والمنصفة.
المعاونون القضائيون، أو كما يطلق عليهم في بعض النظم القضائية كالنظام اللبناني المساعدون القضائيون، وهم تلك الفئة من الموظفين العموميين الذين يساعدون القضاة في أعمالهم، أو يكونون جزءًا من المنظومة القضائية، وهم فئة كتبة المحاكم وأمناء سر الجلسات، أو ما يطلق عليهم السكرتارية، والمحضرين وغيرهم من الفئات الوظيفية اللازمة؛ لتسيير العمل القضائي ذاته، ولا يمكن أن يتم تسيير المنظومة القضائية من دونهم، إذ يمثل وجودهم حلقة من حلقات عمل المنظومة القضائية بشكل كامل.
وإذ إن النظم القضائية قد تطورت في معظم دول العالم، كما أن النظام القضائي المصري قد أخذ في تطوير أدوات التقاضي، وهو ما أطلق عليه بالميكنة القضائية، وعلى الرغم مما بهما من مشكلات حالية، فإنني أعتقد أنها مشكلات سوف تأخذ طريقها إلى الحل مع الوقت، ومع تطوير القائمين على عملها، وكما أنه يلزم تطوير نموذج التقاضي كاملاً بما يشمل العلم القانوني والعاملين بذلك العلم من قضاة ووكلاء للنائب العام ومحامين، فإن ذلك جميعه يلزمه تطويراً للموظفين العاملين بالمنظومة القضائية، بما يضمن حسن الأداء الوظيفي منهم، بما يكمل صورة التحديث الكامل للنموذج القضائي بأسره.
وإذ إن النظام المصري قد يعهد بتلك الوظائف إلى خريجين غير مؤهلين علمياً للعمل بالمنظومة القضائية، حيث إنه يتم إلحاق موظفين عاديين بهذه المنظومة ذات الحساسية، دون أن يكون لديهم من العلم ما يكفي لمعاونة القضاء، خصوصاً أن دورهم في إنفاذ التقاضي ذات ضرورة قصوى، حيث يعهد إليهم بتنفيذ أحكام قضائية، وإعلانات وصور قضايا، فإنه يلزم لهم أن تكون لديهم خبرات قانونية، ومعلومات لازمة؛ لتيسير وتسيير شؤون وظيفتهم، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى البحث عن مدى تأهيلهم العلمي من الأساس، فهل لدينا معاهد متوسطة يتم فيها تعليمهم وتأهيلهم للعمل بهذه الوظيفة؟
منذ زمن ليس بالقريب، كان لدينا قسم في المعاهد الفنية التجارية، يسمى بقسم القانون، وقد كان ذلك القسم مكاناً مهماً؛ لتأهيل هذه الفئة من الموظفين، ولكن أعتقد أن من يلجأ لدخول ذلك القسم، هم النزر اليسير من الطلاب بتلك المعاهد، لكن الدولة المصرية لم يلفت انتباهها ندرة هذه الفئة المؤهلة، وباتت تقوم بتعيين خريجي الدبلوم الفني التجاري في معظم تلك الأعمال، وإن كانت في الفترات الأخيرة بدأت في تعيين خريجي بعض الكليات في هذه الوظائف في ظل غلق باب التوظيف، وفي ظل حاجة الخريجين إلى وظيفة، لكن وللأسف لا يتم تدريبهم بشكل كاف أو مناسب لممارسة تلك الوظائف ذات الحساسية.
ومنذ سنوات قليلة، فطنت كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر لأهمية تلك الوظيفة؛ لضمان حسن التقاضي فأنشأت معهد المعاونين القضائيين، وهو من المعاهد المتوسطة لمدة عامين دراسيين، يتم خلالهما تعليم الطلاب على المنظومة القضائية بالشكل الذي يتناسب مع العمل الذي هم مقبلون عليه، وأهميته وضروريته، كما يتم السماح لهم باستكمال تعليمهم من خلال كلية الشريعة والقانون وفق اشتراطات معينة، لكن للأسف لم يتم حتى الآن الاستفادة بشكل كامل من الدفعات التي تخرجت من هذا المعهد، وذلك لعدم وجود تكليف وظيفي لهم، يضمن إلحاقهم بالمحاكم لتولي الشؤون الوظيفية الخاصة بالمعاونة القضائية.
ولأهمية هذه الفئة من العاملين بالمنظومة القضائية، ولضمان حسن قيامهم بمهام وظيفتهم، حرصت بعض النظم القضائية على منحهم حصانات قضائية، وبعض الامتيازات المخصصة للقضاة، كما حرصت أيضا على أن تكون متحصلاتهم المالية كافية لهم، ومناسبة لتلك الأعمال بما يضمن لهم معيشة كريمة، تمنعهم من الانحراف والتلاعب، ومن تلك النظم التي عنيت بذلك النظام القانوني العراقي.
لكننا في النظام المصري، ما زلنا نعهد بالعمل إلى الشكل الروتيني، ولا يكون هناك أي اهتمام بتلك الفئات، والمهم الاهتمام بشؤون القضاة، وامتيازاتهم ورواتبهم، على الرغم من كون تلك الفئة لها دور بالغ الخطورة في تحقيق العدالة، واستكمال النموذج القضائي، وبدونهم لا يمكن أن تستكمل أمور التقاضي، ولا تسير عجلة التقاضي بشكل أو بآخر.
ومن هنا، فإنني أدعو السيد وزير العدل إلى العناية بتلك الفئة المعاونة، منذ بداية تخصيصهم، بمعنى أن يتم تعميم تجربة المعاهد العلمية المتخصصة لتلك الفئة، والتي يجب ألا يقف العلم فيها على العلم النظري فقط، بل يجب أن يلحق بذلك التدريب العملي والفني اللازم، ويجب كذلك أن يتم تدريبهم بداخل المحاكم ذاتها على نموذج التعامل، حسب تخصص الطلاب في تلك المعاهد، كما يجب أن يقوم بالتدريب فيها بعض القضاة، وبعض المعاونين القضائيين. وبشكل مكمل يجب أن يكون لهم مخصصات مالية تليق بتلك الوظائف.
فعلينا أن نسعى لتصويب عمل تلك الفئة، وتحسين دخولهم بما يتناسب مع ما يبذلونه من أعمال، ولا يجعلهم ينظرون على مخصصات القضاة المالية، ويعقدون المقارنة بينها وبين دخولهم، وهو ما يدفعهم إلى محاولة تحسين دخولهم بأي طريقة، وهو ما أدى إلى ترهل العمل داخل أروقة المحاكم، ولا أظن أن تطوير العمل القضائي بالمنظومة الإلكترونية، أو ما يطلقون عليه الميكنة القضائية، سوف يكون لها أثر إلا بضمان تطوير أعمال المعاونين القضائيين، وهناك من التجارب الدولية التي تستطيع الدولة المصرية أن تحتذي بها، الكثير والكثير.