سؤال ما هي أسباب ما يجري في مصر من “تطوير”؟ ظل بلا إجابه واضحة، فقد يفهم الكثيرون الأسباب الاقتصادية التي تدفع الدولة، لبناء تقريبا كوبري في كل تقاطع ومحور في كل حي، حيث تنفذها شركات تستفيد ماليا وتحقق أرباحا، وهناك من يؤكد أن هناك حاجة مرورية؛ لإقامة ولو جانب من هذه الكباري والمحاور؛ لتخفيف الاختناق في العاصمة والمدن المختلفة، إلا أن الكثيرين يقفوا حائرين، ومصدومين في فهم أسباب تقطيع آلاف الأشجار في مختلف أحياء القاهرة، ومنها كورنيش العجوزة وجاردن سيتي وهدم كل الجزر الوسطي التي كانت مليئة بالأشجار، والعشب الأخضر في عشرات من أحياء القاهرة من الزمالك إلى جامعة الدول العربية وأحمد عرابي، وانتهاء بمصر الجديدة التي تم تشويها تماما.
لماذا بلد يعاني من أزمة ديون وأزمة اقتصادية خانقة تعطي أولوية لبناء “ممشى أهل مصر” على النيل يشوه الكورنيش الذي توارثته الأجيال؟ ولماذا يبني في حي الزمالك ممر قبيح للمشاة داخل النيل، في حين أن المطلوب هو فقط تجديد وتنظيف كورنيش الزمالك، ومنع الاشغالات وبناء أسوار الأندية على جانبيه.
الحقيقة هناك تفسيرات لبعض الأشياء، ومنها انتشار الكباري والمحاور، ولكنها عجزت عن فهم التغيير الذي ينهال على أحياء وشوارع القاهرة المختلفة، إلا ربما من تفسير واحد يتعلق بتغيير الهوية البصرية للمدينة، وأن بناء الجمهورية الجديدة يعني بالنسبة للحكم الحالي قطيعة مع كل الصورة الذهنية التي توارثتها الأجيال عن شكل القاهرة.
إن صور الكورنيش وقاهرة أفلام الأبيض والأسود مطلوب شطبها من الذاكرة، وخلق جيل سيشاهد بدل الكورنيش التاريخي للقاهرة ممشى أهل مصر، وبدل عربات الذرة المشوي وحمص الشام والرصيف الواسع والأشجار القديمة والعشب الأخضر ممشى جديدا، والذي سيتفرج عليه أغلب الناس؛ لأن المشي عليه سيكلف الفرد ٢٠ جنيها، وبدل المشاريب والأكلات الشعبية البسيطة، أصبحت هناك مطاعم مرتفعة الثمن، سيزورها قلة قليلة بعد أن خرجت من حسابات الطبقة الوسطى، عقب التضخم الهائل وارتفاع الأسعار.
التطوير العكسي شمل جانبا من مقابر القاهرة التاريخية، فأزيلت بعض مقابر السيدة نفيسة والإمام الشافعي؛ من أجل بناء محور وتوسيع شارع، لدوافع مادية أو مرورية، ولكن من يرى قمة متحف الحضارات حاليا مع المحاور والكباري التي باتت تحيط بمنطقة المقابر التاريخية، مع “تطوير” حديقة القلعة، فنصبح أمام صورة جديدة تختلف عما عرفته مصر منذ قرون، وليس فقط عقود.
اقرأ أيضا: كفاية “تطوير”
مفهوم أن يربط العهد الحالي الجمهورية الجديدة بالعاصمة الإدارية، ويعتبر بناء الجديد هو بصمته في أكثر من مكان، إنما من غير المفهوم ولا المقبول، أن يعتبر تغيير الهوية البصرية للعاصمة التاريخية أحد سمات الجمهورية الجديدة.
إن فكرة دخول التاريخ عبر بوابة البناء، والمعمار ونسف أو تغيير القديم حاضرة بقوة في العهد الحالي، فكما أن الناس لا تعرف حاليا إلا من كتب التاريخ شكل القاهرة قبل بناء القاهرة الخديوية التي كان لها الفضل في بناء الهوية البصرية للقاهرة الحديثة على مدار أكثر من ١٥٠ عاما، فإن هناك من يتصور أنه يمكن تكرار نفس الشيء حاليا بتشويه معالم كثير من الأحياء، وبناء ممشى أهل مصر، وبذلك سيتم تأسيس هوية بصرية جديدة لنسيان القديم.
والحقيقة أن التجارب العالمية الأخرى، حافظت على تراثها المعماري القديم والحديث رغم اختلاف النظم والمشاريع السياسية، صحيح أن جميعها بنى جديدا، كما جرى في عهود مصر السابقة، فقد توسع عبد الناصر وبنى جانبا من حلوان، بالإضافة لأحياء مدينة نصر والمهندسين وأخرى كثيرة، كما وضع السادات حجر الأساس لحي ٦ أكتوبر، وانطلق بعده مبارك واستكمله ثم شرع في بناء التجمع الخامس وغيره.
والحقيقة لم يشغل بال رؤساء مصر السابقين “تطوير”، ما بناه الأجداد وتغيير شكله وهويته، فالتجديد حدث في كل العهود، ولكن هذا النوع من التطوير العكسي الذي يغير الشكل القائم، ويشوهه لم يحدث من قبل.
لقد انشغل الجميع بمشاريع سياسية، رأوا أنها ستكون طريقهم؛ لتحقيق أمجادهم الشخصية، وليس بناء عاصمة جديدة أو تغيير الهوية البصرية للعاصمة الحالية، فعبد الناصر بنى شرعيته على أساس مشروع الاستقلال الوطني، والقضاء على الاستعمار ثم تأميم قناة السويس، وقيادة تجارب التحرر الوطني في الخارج وبناء اشتراكية في الداخل،
أما الرئيس السادات فأسس شرعيته، ومجده بالأساس على انتصار أكتوبر٧٣، وعلى الانفتاح الاقتصادي والسياسي الذي أحدثه، وحتى الرئيس مبارك فرغم اهتمامه بالكباري والمحاور، إلا أنه ظل في السلطة ٣٠ عاما، بفضل هامش الحرية الذي أعطاه وحرصه على تسكين الأوضاع دون أي قرارات فجائية.
لم يحدث في تاريخ مصر الحديث، أن شهدنا نظام حكم مُركِز في تطوير حدائق، وهدم مقابر وبناء ممشى، كما هو حاليا، وأن ما تم الانتهاء منه كان كارثيا بالمعنى الجمالي والمعماري، كما جرى في المنتزه، وبدا الهدف ليس التجديد، إنما تغيير المنظر والهوية البصرية لكل ما عرفنا من قبل.
المؤكد أن حسابات الرشادة الاقتصادية تقول، إن معظم ما تم تغييره أو تشويهه ليس أولوية في بلد مأزوم اقتصاديا وسياسيا، إلا أن هناك من يرى، أن البحث عن بصمة في التاريخ لم يعد لها مكان بعد الأزمات الحالية، إلا في مجال المعمار والحجر.
الجمهوريات الجديدة في عالمنا المعاصر تؤسس بمنظومة دستورية وسياسية جديدة، ولم يحدث أن ارتبطت بعاصمة جديدة أو بتغيير عاصمة قديمة، وأن البحث عن المجد الشخصي لأي زعيم أمر مشروع حين يتم ربطه بإنجاز اقتصادي وسياسي، ونهضة حقيقية في البلاد، وأن الاستثمار في الحجر طبيعي بشرط، أن يسبقه استثمار في البشر، وأن يترك الحجر القديم كما هو بلا “تطوير” أو تشويه وأن يحكم بناء المدن والأحياء الجديدة أولويات التنمية وحسابات الرشادة الاقتصادية.