في مناقشة مع زملاء في مجلس أمناء الحوار الوطني- تعقيبا على سرعة استجابة الرئيس عبد الفتاح السيسي، لبيان المجلس المطالب بإلغاء الحكم الصادر بحق الباحث باتريك زكي- قلت، إن أهم وأفضل دلالات هذه الاستجابة السريعة، هي وجود جناح داخل النظام، يهتم ويعمل على إنقاذ وإنجاح هذا الحوار، وإننا نتمنى النجاح لهذا الجناح، وقد وافقني الزملاء، فقد كانت هذه أول مرة يقرر فيها أعضاء في المجلس، ومقررون للجان ومشاركون آخرون انسحابهم، أو تجميد مشاركاتهم، ويعلنون هذه القرارات على الرأي العام، كما إنني وافقت زملائي على أن وجود هذا الجناح ودوره، هما، السبب الرئيسي لاستمرار مشاركة الحركة المدنية الديمقراطية في عملية الحوار، بالرغم من عثراتها الكثيرة، وعلى أن الرهان على الجناح الحريص على نجاح الحوار داخل النظام ليس مضمونا دائما، بما أنه جناح وسط أجنحة.
من باب استيفاء المعلومات، فإن استجابة الرئيس المشكورة لم تقتصر على حالة باتريك جورج فقط، بل امتدت إلى آخرين في مقدمتهم، المحامي محمد الباقر أحد أبرز الذين طالبت الحركة المدنية والحقوقية بالإفراج عنهم طويلا، كذلك فإن بيان مجلس الأمناء لشكر الرئيس على هذه الخطوة، تضمن المطالبة بالمزيد من هذه القرارات التي تشيع الثقة، والتفاؤل ردا على القول، بإن الرهان على الجناح الحريص على الحوار الوطني ليس مضمونا بما يكفي للاطمئنان والتفاؤل، فهذه هي طبيعة السياسة عموما، وفي مصر خصوصا، فلا شيئ مضمون بصفة دائمة، ولكن يبقى أن الحوار الوطني تأسس على مبادرة رئاسية، وأنه يلبي احتياجات أساسية للنظام الحاكم، وللمعارضة، ومن ثم للمجتمع .
بعض هذه الاحتياجات ذو طبيعة استراتيجية، وبعضها ذو طبيعة تكتيكية على جانبي الحكم والمعارضة.
الاحتياجات أو الأهداف التكتيكية للنظام هي توفير شكل سياسي أكثر وجاهة، أو أقل إحراجا؛ لإعادة ترشح الرئيس السيسي للانتخابات الرئاسية المقبلة، كما سبق القول أكثر من مرة، باعتبار أن المعلن والمعروف هو أن مخرجات الحوار ستكون أساس الجمهورية الجديدة، ومن ثم ستكون أساس البرنامج الانتخابي للرئيس في فترته الرئاسية الجديدة… والأخيرة حسب الدستور، بتعديلاته لعام ٢٠١٩، يصحب ذلك كهدف تكتيكي للنظام تسويق الإيحاء بوجود مشروع للانفتاح السياسي في الداخل والخارج، وفي الخارج قبل الداخل، وكذلك إعطاء المؤيدين في الإعلام والصحافة، و شبكات التواصل الاجتماعي “مادة ومددا “للصمود أمام موجات الانتقاد المتزايدة في مختلف أوساط الرأي العام.
مرة أخرى هذه هي طبيعة السياسة.
أما الأهداف أو الاحتياجات التكتيكية للمعارضة من الحوار الوطني، فهي توسيع الهامش الذي اضطر النظام لإتاحته من أجل أهدافه المذكورة في الفقرة السابقة، وذلك رهانا على تقوية الاتجاه للانفتاح داخل النظام نفسه.
نظريا تنجح التكتيكات، عندما تكون تفاصيل وخطط متكاملة في إطار استراتيجية أشمل نحو أهداف أوسع وأطول مدى، وبهذا المعنى، فإن ما يبتغيه النظام استراتيجيا من الحوار هو ملء الفراغ السياسي المخيف، الذي أخفقت المحاولات السابقة في ملئه، بما أن المشروعات المتكررة لتكوين حزب أغلبية يصلُح ظهيرا سياسيا جماهيريا للرئيس، قد أخفقت كلها تقريبا، وهي على الترتيب قائمة في حب مصر التي تزعمها المرحوم سامح سيف اليزل، ثم حزب مستقبل وطن، و محاولاته تشكيل تحالفات انتخابية مع بعض أحزاب المعارضة الجادة والكرتونية، ومؤتمرات الشباب، وتنسيقية الشباب، وصولا إلى شباب البرنامج الرئاسي ، ووسط كل ذلك أفكار المرحوم الزميل ياسر رزق حول ما سماه منظومة ٣٠ يوليو، التي اقترح تشكيلها من حزب أغلبية، و تنظيم شبابي يستقطب الطلاب الجامعيين، وشباب المهنيين والنقابات وغيرهم، نزولا إلى فرق الكشافة في مراحل التعليم ما قبل الجامعي.
هذا الفراغ السياسي يعد أزمة كبيرة في حد ذاته في الظروف الطبيعية أو شبه الطبيعية، إذ تنعدم فيه وسائط الاتصال والتفاعل والإقناع من أعلى إلى أسفل، أي من السلطة إلى المجتمع، ولذا يتولى الرئيس بنفسه أداء كل هذه المهام، وفضلا عن أن هذا ليس هو الوضع الطبيعي، فإن درجات الفاعلية تتفاوت، بل أحيانا تأتي النتائج عكسية، وبالطبع فإن الأداء الإعلامي الموجه فقط للتأييد ليس مقنعا للكثيرين، أو لأغلبية المواطنين، كما تنعدم في هذه الحالة من الفراغ تلك الوسائط من أسفل إلى أعلى، أي من القواعد المجتمعية إلى أجهزة صنع السياسات واتخاذ القرارات، فإذا كان ذلك كذلك في الظروف الطبيعية، أو شبه الطبيعية ، فكيف سيكون الحال تحت وطأة أزمة اقتصادية ومالية، ومعيشية طاحنة للدولة وللمجتمع، يرجع سببها الرئيسي إلى سياسات النظام وجدول أولوياته؟ ثم إن هذه الأزمة الداخلية تتعقد وسط أزمات دولية وإقليمية متلاحقة وحادة، منها الأزمة حول نهر النيل والفتور، إن لم نقل الجفاء مع دول الخليج وصندوق النقد الدولي، والحروب الأهلية والاضطرابات في السودان وليبيا وسوريا وفلسطين، ثم برودة العلاقات مع الولايات المتحدة، وأغلب دول الاتحاد الأوروبي المهمة، وأخيرا الحرب الروسية الأوكرانية، وتأثيراتها السلبية أمنيًا واقتصاديا.. إلخ.
لا جدال في أن مبادرة الحوار الوطني ملأت حيزا كبيرا من فراغ المجال السياسي، وتمثل ذلك أولا: في مناخ التفاؤل الذي أشاعته المبادرة في مرحلة إطلاقها، وهو تفاؤل عززه إطلاق سراح عدد أولي من رموز المعارضة، سواء من السجون أو من الحبس الاحتياطي، كما عززه التشكيل المتوازن (في رأي كثيرين ) لمجلس أمناء الحوار، ثم نجاح التوافق حول القضايا والشخصيات المشاركة، وإن تطلب ذلك الكثير من الوقت والجهد.
ماذا عن الهدف الاستراتيجي للمعارضة من قبول دعوة الحوار؟
ببساطة هو التخلص من حالة الشلل، والحصار التي فرضت عليها تدريجيا، في أعقاب انتخابات الرئاسة عام ٢٠١٤، وأدت إلى تصدع ثم اختفاء ما يسمى بتحالف ٣٠ يونيو، وتطورت إلى الفراغ السياسي الذي نتحدث عنه، فلا جدال أيضا أن انطلاق الحوار أخرج المعارضة -ممثلة في الحركة المدنية الديمقراطية -من الشلل إلى حالة حركة، ولو نسبيا، سواء علنا أمام الرأي العام، وأمام قواعدها الشعبية، أو في كواليس الاتصالات والتفاهمات والضمانات الممهدة للحوار، والمصاحبة لجولاته، لتذليل ما يظهر من عقبات، وتنفيذ ما لم ينفذ من الضمانات، كذلك أحرزت المعارضة نجاحا استراتيجيا مهما في الاتفاق على أوراق عمل، وسياسات ومقترحات للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، تقدمت بها إلى كل اللجان والمحاور المنبثقة عن الحوار، وقد جمعت هذه الأوراق في كتيب صدر مؤخرا تحت عنوان “أفق الخروج … رؤية الحركة المدنية الديمقراطية للقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية “، هذه الرؤية تقدم بحق بدائل متكاملة للسياسات التي صنعت الأزمة، وتصلُح برنامجا انتخابيا متميزا، إذا توافرت، أو عندما تتوافر الشروط لانتخابات رئاسية تعددية، وتنافسية كما ينبغي.
بعد هذا الاستقراء الذي تفوح منه روائح التفاؤل، يحق للقراء أن يتساءلوا: هل أصبح الطريق ممهدا للحوار الوطني؟
الإجابة باختصار هي، أن الأزمة الأخيرة قد تكون قدمت فرصة أكبر للنجاح، فقد سبقتها أزمات وعثرات، استغرقت وقتا أطول بكثير لعبورها، أو لم يمكن عبورها قط، وذلك جنبا إلى جنب مع شكوك الرأي العام، وتوالي الاتهامات للمعارضة بالتفريط، وأنها استدرجت إلى فخ لن تكون له جدوى سوى تجميل وجه النظام داخليا وخارجيا، وبشيء من التفصيل، فإذا كانت الأزمة الأخيرة التي فجرها الحكم على باتريك زكي، بما ترتب عليها من انسحابات لأعضاء في مجلس الأمناء، واللجان هي التي ظهرت بقوة للرأي العام، وتصدرت عناوين الأخبار في الخارج على وجه الخصوص، فالحقيقة أنه سبقها أزمات حادة كثيرة، كما قلنا توا منها، تخاذل مجلس الأمناء عن إصدار بيان ( كان يتسم بالاعتدال )، يرفض فيه الخروج على القانون في أزمة نقابة المهندسين، ومنها المحاولات التي لم تتوقف لخلق مسارات موازية للحوار، قد لا تتوافر لها شروط التعددية والتوازن، مثل كتلة شباب الحوار، أو مجموعة البرنامج الرئاسي، فضلا عن محاولات إغراق الجلسات بمتحدثين من اتجاه واحد، بما يظهر مقترحات المعارضة و المستقلين، وكأنها مقترحات أقلية، ورغم أنه جرى تصحيح بعض هذه الأوضاع، إلا ان ذلك أضاف إحباطا وإرهاقا، واستغرق وقتا، وأهدر جهدا، ولا تزال النتائج غير مؤكدة، وهكذا كانت الأزمة الأخيرة هي قمة جبل الجليد الظاهرة فقط، لكن نهايتها السعيدة نسبيا – ومن باب رب ضارة نافعة- يمكن أن تضيف زخما للحوار ككل، وذلك من زاوية إعادة تأكيد الحرص المتبادل على اطراد الحوار وإنجاحه، ومن ثم فهي فرصة، ومن ثم أيضا فقد تكون الفرصة الأخيرة، لأنه يصعب التعامل بالتجزئة مرة أخرى مع قضية بمثل أهمية قضية الحوار الوطني.
بالإضافة إلى كل ذلك، ينبغي الالتفات بأعلى درجة من الانتباه إلى ما سجله للتاريخ دكتور جودة عبد الخالق، عضو مجلس الأمناء في مقاله الأخير بصحيفة الأهالي، من أخطر ما يهدد الحوار هو السياسات الاستباقية المصادرة لمخرجات الحوار، خاصة في المسألة الاقتصادية، واستمرار سياسات التعسف الأمني، و البطء إلى حد التوقف عن تنفيذ تفاهمات إطلاق سجناء الرأي ،وتصفية أوضاع المحبوسين احتياطيا، مع استمرار حجب المواقع المستقلة، وحجب المعلومات المهمة عن القوى السياسية والرأي العام ، فهذه كلها يدركها ويرفضها المتابعون، وعدد من أعضاء مجلس الأمناء، وكل ممثلي الحركة المدنية في محاور ولجان الحوار، وهي كلها قائمة وجارية، كأن ليس هناك حوار دعا إليه رئيس الجمهورية نفسه.
إذن فنحن أمام سباق حواجز بين الأمل وبين الفشل، وليس بوسعي التنبؤ بنتيجته، ولا أظن أن أحدًا بوسعه ذلك.