أفاق العالم صباح يوم 19يوليو الماضي على تنفيذ روسيا قرارها بوقف العمل باتفاق مرور الغلال، وغيرها من الحاصلات والمعدات الزراعية الأوكرانية من البحر الأسود. القرار شكل صدمة كبيرة للغرب، لكونه يوقف تدفق الأموال إلى أوكرانيا، ما يساعدها في الصمود العسكري أمام روسيا، ومن ثم كان الاتفاق يقي الغرب المزيد من الأعباء التي يتحملها، جراء دعم أوكرانيا في مواجهة روسيا.
واحد من الأسباب التي جعلت لهذا الاتفاق الذي وقع في 21 يوليو 2022 أهمية، هو أن كل من روسيا وأوكرانيا يشكلان أهم بلدان العالم في إنتاج وتجارة الحبوب. فوفقا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة “الفاو”، ومجلس الحبوب العالمي (نقلا عن التقرير الاستراتيجي العربي 2022) فإن أوكرانيا تساهم بـ10% من تجارة العالم من القمح مقابل 24% لروسيا، وبـ15% من تجارة الذرة مقابل 2% لروسيا، و13% من تجارة الشعير مقابل 14% لروسيا، و31% من زيت عباد أو دوار الشمس مقابل 24% لروسيا، ناهيك عن مساهمتهما في نسبة معتبرة من تجارة الأسمدة، التي تتحكم في زيادة إنتاج المحاصيل.
مما لا شك فيه، أن روسيا تريد بقرارها السابق المتعلق بالحظر أن تنتقم من أوكرانيا؛ بسبب قوة شوكتها في الأيام الماضية، والتي تمثلت في استعادة جزيرة الأفعى الاستراتيجية، وكذلك ضرب أحد الجسور المهمة في شبه جزيرة القرم بالقطع البحرية المسيرة، وذلك بعد الحصول على عديد من العتاد العسكري المهم من الولايات المتحدة وأوروبا. كما ترغب روسيا في ابتزاز دول العالم عمومًا والغرب خصوصًا، لرفع الضغوط عليها. إذ تشترط روسيا للعودة إلى اتفاق تصدير الغلال عبر البحر الأسود، والذي سبق وأن جُدد أكثر من مرة، إعادة ربط البنوك والمؤسسات المالية الروسية بنظام سويفت المصرفي الدولي، واستئناف تشغيل الخط العملاق الذي يربط توغلياتي الروسية بميناء أوديسا الأوكراني، والمستخدم في تصدير الأمونيا، وهي المكون الرئيس لإنتاج الأسمدة، وكذلك إعفاء توريدات الحبوب والأسمدة الروسية في الأسواق العالمية من العقوبات، واستئناف توريد مكونات الأسمدة وقطع الغيار الزراعية، وأخيرا حل كافة القضايا المتصلة بتأمين السفن والصادرات الروسية.
المؤكد، أن ما حدث من حظر سوف يزيد من اشتعال السوق التجارية للغلال والأسمدة، إذ يخرج عبر البحر الأسود وحده 5 ملايين طن منها شهريًا. لا سيما وأن الروس اعتبروا أن شروطهم لا رجعة فيها، ما لم تقبل دفعة واحدة، وأنها من اليوم ستعتبر أية سفينة متوجهة أو مغادرة للمواني الأوكرانية سفنا تحمل مؤنا عسكرية، ومن ثم فهي أهداف عسكرية مشروعة. وقد شرع الروس في تنفيذ ذلك على الأرض بضرب البنية التحتية لمواني أوديسا وتشورنومورسك ويوجيني بيغديني، إضافة إلى مخازن الغلال المشرفة على تلك المناطق.
وعلى أية حال، فقط أدى كل ما سبق إلى ارتفاع أولى في أسعار الغلال العالمية، وقد سجل القمح وحده ارتفاعًا قدره 8.2%، حيث وصل سعر الطن منه إلى 281.66 دولارا. ولم يسلم الذرة من الارتفاع، إذ قفز سعره إلى 5.4% أيضًا.
هذه الأمور في مجملها، تنذر إذا ما استمر التصعيد بين روسيا والغرب عامة وروسيا وأوكرانيا خاصة، بعواقب وخيمة، ستدفع ثمنها البلدان المستوردة للحبوب، ومنها مصر بلا أدنى شك.
فمصر كانت تعتمد حتى وقت قريب جدا على 80% من احتياجاتها من الحبوب من روسيا وأوكرانيا، وهي كما هو معروف من أكبر مستوردي القمح في العالم، فهي تستهلك وفقًا لأحدث التصريحات الصادرة عن وزارة التموين والتجارة الخارجية 20 مليون طن من القمح، وتنتج 45% من تلك الكمية، بمعنى أنها تستورد نحو 11مليون طن. وبالطبع فإن وجود الصوامع الحديثة مؤخرًا، أدى إلى سهولة التخزين وحفظ القمح من التلف، لكن هذا التخرين لن يتجاوز في أفضل التقديرات 6 أشهر، ما يعنى أن مصر ستتعرض حال بقاء أزمة تصدير الحبوب من البحر الأسود إلى مشكلة كبيرة، فيما يتعلق باستيراد ما تحتاجه من قمح.
المؤكد، أن هناك حلولا بديلة، لكن تلك الحلول لا زال يحوطها مشكلات. فبداية هناك أسواق بديلة لشراء القمح، وذلك من الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي وأستراليا والأرجنتين وكندا، لكن هذه الأسواق تتسم بالبعد الجغرافي، كما أنها تفتقد إلى الميزة النسبية للسوق الروسي الذي أصبح من المتفق عليه مؤخرًا أن تقوم مصر بالتبادل التجاري بين البلدين بالجنيه والروبل.
بالطبع، قد يعتبر البعض أن المشكلة تكمن في القمح الأوكراني، وليس القمح الروسي ما يجعل الاستيراد من روسيا أفضل، ولا توجد بشأنه أية عوائق، لكن واقع الأمر يشير إلى أن أوكرانيا أعلنت هي الأخرى مع بدء ضرب روسيا للصوامع في المواني الأوكرانية منذ أيام قليلة، ومع اعتبار السفن الأوكرانية بالبحر الأسود أهدافًا عسكرية، (أعلنت) أن السفن الروسية ستعتبر أهدافا عسكرية لأوكرانيا، ما يجعل تأمين شحنات القمح الروسي إلى الخارج صعبة للغاية، وباهظة التكاليف، خاصة فيما يتعلق بالتأمين على السفن التي تحمل القمح الروسي من قبل شركات التأمين.
قد يرى البعض، أن زراعة مصر للقمح ربما تقيها من أثر تلك المشكلات كافة، لكن هذا الحل هو الآخر ليس سهلا، ولا يشكل عائدا اقتصاديا مجزيا، صحيح أن زراعة 3 ملايين فدان إضافية من القمح سينتج نحو 10ملايين قمح إضافية، وفقًا لما يقول رئيس مركز البحوث الزراعية: لكن هذا الأمر الذي قُتل بحثًا، سيكون من حصة ونصيب المساحة المخصصة لزراعة البرسيم، ما سيؤثر على إنتاج اللحوم. كما أن الكثير من المتخصصين في الشأن المائي، ومنهم خبير المياه د. عباس شراقي، يعتبر أن زراعة سلع مرتفعة الأثمان وبيعها، أفضل بكثير من حيث العائد من زراعة القمح محليًا، وهذا الرأي رغم صعوبته، إلا أنه يمكن أن يكون صحيحًا، لا سيما وأن القمح رغم أهميته الكبرى لمصر، إلا أنه لم يعد سلعة استراتيجية تحتكرها دولة أو اثنتان حول العالم.
كل ما سبق، سيجعل من المفيد الإبقاء على الرقعة الحالية المخصصة لزراعة القمح دون نقص، مع الاهتمام الكبير بكم وجودة المنتج، وكذلك استصلاح أراضي جديدة، تُخصص لزراعة القمح والسلع ذات العائد الاقتصادي الكبير تجاريًا، لأن تلك السياسة الزراعية، فضلا عن أنها لن تؤثر على محصول البرسيم، فهي ستكون مجزية، لا سيما إذا ما كانت تلك المساحات الجديدة تتواكب مع توافر بذور أقماح غير مهدِرة لمياه الري. وكل ذلك يجب أن يتواكب مع إغراء الفلاح المصري بزراعة القمح عبر رفع أسعار التوريد لتواكب الأسعار العالمية.