بعد اختفائه تمامًا منذ نحو شهر، تم الإعلان يوم الثلاثاء الماضي عن إعفاء تشين جانج، وزير الخارجية الصيني، من منصبه وإعادة تنصيب سلفه وانج يي، بديلًا له، حيث تم نشر ذلك الخبر بشكل مُقتضبٍ وغامضٍ، عبر وكالة الأنباء الصينية الرسمية شينخوا، دون ذكر أي تفاصيل. في اليوم التالي مباشرةً، كان المؤتمر الصحفي المعتاد للمتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، ولم يكن -بالتأكيد- لدى الصحفيين والمراسلين، ما يتجاوز في أهميته هذا الخبر، مما يستحق من الأسئلة والاستفسارات.
لم تخرج المتحدثة باسم الخارجية عن خط الغموض قيد أنملة، فواجهت أسئلة الصحفيين التي انهالت على رأسها كالسيل بوجهٍ جليديٍ جامدٍ، ولم تَقُم بتقديم إجاباتٍ تشفى الصدور. حاول بعض الصحفيين إعادة صياغة الأسئلة عن إقالة الوزير، لكن المتحدثة الأريبة استمرت في نهج الغموض بذكاءٍ حادٍ، ودون ترددٍ أو توتر لدرجة أن أحد الصحفيين بادرها بسؤال مُستَفِزٍ عن الأمر، أعقبه بوصف ما تقدمه القيادة الصينية من تفسيرات، بأنه استمرار لأسلوبها غير الشفاف opaque؛ ليأتيه رد المتحدثة: “لم أفهم ما الذي تقصده، لقد قدمنا كل المعلومات اللازمة”، ثم التفتت صوب الناحية المُقابلة من القاعة قائلة بمنتهى الهدوء: “السؤال التالى”.
كانت وكالة الأنباء الرسمية الصينية، قد بررت خبر تواري الوزير عن الأنظار خلال الشهر الأخير، بأنه راجع لأسباب صحية، وتسربت حينذاك أخبار عن إصابته بالكورونا، إلا أن خبر إقالته فتَح الباب لمزيد من التكهنات، خصوصًا وأن الرجل البالغ من العمر سبعًا وخمسين عامًا، والذي شَغَل منصب وزير الخارجية في ديسمبر 2022، (أي أنه بقي في منصبه لمدة سبعة أشهر فقط) كان واحدًا من المُقربين من الرئيس الصيني لدرجة أن وصفته بعض وكالات الأنباء العالمية بأنه “كاتم أسرار الرئيس”.
قبل تعيينه وزيرًا، كان الرجل الذي يجيد الإنجليزية بطلاقة، يشغل منصب سفير بلاده في واشنطن لفترةٍ، تمكَن خلالها -بدرجةٍ ما- من بناء شبكة من العلاقات مع مكونات المجتمع الأمريكي، جعلت من اختيار “شخصه” لشغل منصب الوزير أمرًا مُرَحَبًا به دوليًا، باعتباره وجهًا أكثر مرونة وتفهمًا من سلفه، رغم العِلم القاطع لدى المجتمع الدولي أن صياغة ورسم السياسات الخارجية الصينية هي شأنٌ تضطلع به اللجنة الدائمة للمكتب السياسي بالحزب الشيوعى الصيني، والمُكَوَنة من تسعة أعضاء فقط، اعتمدوا في العشريتَين الأولى والثانية من هذا القرن تكتيك “دبلوماسية الذئب المُحارب” الذي تفرض الصين بمقتضاه رؤيتها، وأهدافها وتحركاتها دون النظر لناقديها، وهو تكتيك تنبه الرئيس الصيني لضرورة تغييره بعد أزمة كورونا، فكان تعيين الوزير جانج تعبيرًا عن هذا التوجه الجديد.
تشير بعض التقارير الغربية المبنية على مجرد تحليلات انطباعية، تَحُولُ طبيعة نظام الحزب الشيوعي الحديدية بالغة الصرامة، دون تطورها إلى معلومات موثقة، إلى خضوع الوزير المُقال لعملية “تطهير”، تقوم بها اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعى الصيني بشكل دوري.
ألمح واحد من تلك التقارير إلى أن هناك علاقة غرامية ربطت بين الوزير وبين مذيعة للأخبار، نشرت على حسابها في تويتر صورة لها مع الرجل؛ أثناء مقابلة تلفزيونية أجرتها معه في إبريل الماضي، ثم اختفت المذيعة بعد ذلك فلم تظهر للعلن منذ ذلك التاريخ، لكن التقرير أكد على أن مزاعم العلاقة الغرامية في ذاتها لا تصلح أن تكون مبررًا “وحيدًا”؛ لعملية التطهير المُحتَمَلة.
في آخر مقالاته، يقول جيمس بلامر، نائب رئيس تحرير مجلة فورين بوليسي الأمريكية، والمسئول عن تحرير تقرير الصين الاسبوعي بالمجلة، أن الوزير المُقال الذي كان قد وصل إلى منصبه الرفيع من خلال مسيرته كموظف فعال، لا بسبب مهاراته في خوض معارك الحزب الداخلية، ربما يكون قد خضع لنظام الشوانجوي (Shuanggui) وهو نظام للاستجواب خارج نطاق القضاء الصيني مُخَصَصٌ للمشتبه فيهم من أعضاء الحزب الشيوعى، وفي هذه الحالة سيكون الوصول إليه من غير المُستطاع، مما يغذي من حالة الخوف وعدم اليقين التي انتشرت بين معاونيه خلال الشهر الماضى.
يضيف بلامر أن استبعاد الوزير، وإعادة تعيين خلفه هو أمر مثير للتساؤل والإرتياب. فها هي بكين تعيد تذكير شركائها الدوليين، أن المسئولين الصينيين لا يمكن اختفاؤهم فحسب في أي لحظة، بل هم لم يكونوا موجودين من الأساس، وبذلك يكون الحديث عن أي إنجاز للوزير المُقال لا معنى له. يرجح بلامر في توقعٍ لما حدث، أن الفترة التي قضاها الوزير جانج في الولايات المتحدة، ومن قبلها في بريطانيا قد جعلته مَحلًا للاشتباه بتعرضه للمساومة من قِبَل وكالات الاستخبارات الأجنبية، الأمر الذي يثير أضخم المخاوف لدى الحزب الشيوعى الصيني، منذ أن اكتشفت بكين مدى الاختراق الذي قامت به وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية للصين، فيما قبل 2010، وهو ما سيجعل -حسب تعبير بلامر- العلاقات الأمريكية الصينية أشد سوءًا.
في نهاية مَقالِه، الذي فَكَكَ في جانب منه عيوب التركيب الهيكلي بالحزب الشيوعي الصيني، وأثر العلاقات العائلية بين أعضائه في الترقى، والدعم الذي يلقاه بعضهم من البعض الآخر، ليكون هؤلاء الداعمون هم أنفسهم من يتنصلون ممن دعموه، فيدينونه عند سقوطه، يقول بلامر في إشارة ذات دلالات لا تخفى أبعاد أهميتها، إن ما حدث للوزير جانج يُعَدُ بمثابة تذكير بمدى التوتر الذي يعتري العلاقات الداخلية بالحزب الشيوعى الصيني، وهو ما يجعل من استثمار الوقت والجهد الذي يقوم به السياسيون، ورجال الأعمال الأجانب في أي مسئول صيني هو أمر محفوف بالمخاطر.