بسيناريو أو آخر، يطول أو يقصر، سوف تتوقف انقطاعات الكهرباء، وتعود الأمور إلى سابق عهدها.
القضية ليست هنا.. لكن فيما كشفته من أوجه خلل فادحة في بنية الأداء العام، ومدى كفاءة إدارة شؤون الدولة.
على مدى أكثر من أسبوعين، أحجمت السلطات العامة عن إبلاغ مواطنيها بالأسباب الحقيقية للانقطاعات المفاجئة والمتكررة، التي أربكت الحياة اليومية بصورة راكمت في الشوارع احتقانات بالغة الخطورة فوق ما فيها من أنين وغضب بأثر ارتفاعات الأسعار بصورة غير مسبوقة.
ارتفعت الأصوات الغاضبة في الشوارع والمنتديات العامة والخاصة.
بدت الدولة شبه عاجزة عن تدوير المصالح اليومية لمواطنيها.
كان ذلك سحبا على المكشوف من رصيد الشرعية الذي بدا في موجات الظلام، كأنه يوشك على النفاد.
لم يكن أحد يعرف متى تنقطع الكهرباء ولا متى سوف تعود؟.. ولا حصرت الخسائر المادية التي ترتبت على انقطاعات الكهرباء في بلد منهك اقتصاديا واجتماعيا؟
بعد فترة طويلة نسبيا، أعلنت الحكومة جدولا بمواعيد تخفيف الأحمال عن شبكة الكهرباء، لكنه لم ينجح في رفع منسوب الثقة العامة بكفاءة الأداء العام.
لم يكن أحد مستعدا، أن يتحمل مسئولية إعلان الحقيقة على الرأي العام المحبط خشية؛ أن يكون في ذلك تشكيكا بأهم إنجازات العصر الحالي، أو في جدوى الاستثمار بمليارات الدولارات على مدى عشر سنوات؛ لتوسيع وتحسين شبكة الكهرباء.
الحقيقة، أنه لم تكن هناك أزمة في الكهرباء.
إنها أزمة وقود لا أزمة كهرباء.
لم يكن أحد مستعدا، أن يخاطب الرأي العام بحقيقة أزمة الوقود.. من يتحمل مسؤوليتها.. وكيف نواجهها؟!
امتنع الخطاب الرسمي عن التطرق إلى صلب انقطاعات الكهرباء خشية؛ أن يكون ذلك تشكيكا في إنجاز آخر، يحسب بدوره للعصر الحالي.
إنه حقل ظهر.. أكبر حقول الغاز في مصر.
ما الذي حدث بالضبط؟
الحكومة نفت، أن هناك مشكلات فنية طرأت في حقل ظهر.
لم تحاول أن تشرح: لماذا تراجعت طاقته الإنتاجية؟!
ما طبيعة الأضرار التي لحقت ببعض آبار الحقل المصري؟.. ومن يتحمل مسئوليتها؟!
ثم أين ذهبت الرهانات على تحويل مصر إلى أكبر مركز إقليمي للغاز؟!
بدا مأساويا، أن الوزراء المعنيين بالطاقة يلمون بكافة الحقائق، لكنهم لا يجرؤون على الاقتراب منها، أو عرضها على الرأي العام صاحب الحق الأول فيها.
غياب الشفافية بالمصارحة، فاقم دواعي الشكوك ولم يبددها.
كان أسوأ تسويغ لانقطاعات الكهرباء حصره في التغييرات المناخية شديدة الحرارة التي ضربت العالم، بما فيه الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وأفضت إلى حرائق في اليونان وأسبانيا والجزائر بشمال إفريقيا ودول أخرى.
بظاهر التسويغ، الذي تبارى في ترديده المسئولون المصريون، فإنه ينطوي على جانب من الحقيقة، لكنه ليس كل الحقيقة.
النصف الآخر من الحقيقة: مسؤوليتنا نحن.
لم تتعرض دول كثيرة عانت من الموجة نفسها إلى أية انقطاعات في الكهرباء، ولا تعطلت الحياة في مدنها الكبرى، ولا سادت كبار مسئوليها فوضى ضاربة في التصريحات.
لم يكن ذلك التسويغ بمفرده متماسكا أو مقنعا، ولا تعبيرا عن أدنى احترام للرأي العام، وحقه في معرفة الحقيقة بكامل أوجهها.
إنه عدم الاستعداد لتحمل أية مسئولية عن سوء الأداء العام.
لمرتين تكررت من قبل نفس الإحالة إلى ظروف قهرية خارجية؛ لتفسير تردي الوضع الاقتصادي، وانهيار العملة المحلية أمام الدولار بصورة قياسية.
أرجعت المسئولية كاملة إلى الجائحة التي ضربت العالم عام (2019).. ثم إلى الحرب الأوكرانية، وما استدعته من أزمتي غذاء وطاقة.
نحن لا نعيش خارج العالم، نتأثر بما يجري فيه من تفاعلات وحروب.
هذه حقيقة لا شك فيها، غير أنها لا تصلح وحدها لتبرير كل إخفاق اقتصادي واجتماعي.
عند كل منعطف، لم يكن أحد مستعدا، لتحمل قسطه من المسئولية، جرت معاندة مع الحقائق، وتمددت السياسات والأولويات نفسها، حتى أحكمت الأزمة حلقاتها على عنق البلد.
ليس من العدل البحث عن كبش فداء لأزمة انقطاعات الكهرباء، أو تعليق المسئولية كلها في رقبة رئيس الوزراء وحده.
جيء به إلى منصبه لاعتبارات تنفيذية محضة، فهو شأن أسلافه تكنوقراطي، تعوزه الخبرات السياسية في إدارة شؤون الحكومة.
لم تستقر في مصر بكل عهودها الجمهورية فكرة الحكومة السياسية، ولا عهد عن وزرائها باستثناءات محدودة أية كفاءة سياسية.
باليقين يتمتع وزير الكهرباء بخبرة كبيرة، لعله أهم مهندس استشاري مصري في مجاله، لكنه بلا خبرة سياسية.
في ذروة الأزمة، بدا تصريحه، أنه أغلق التكييفات في منزله حتى يشعر بمعاناة الذين تقطع عنهم الكهرباء! داعيا إلى التساؤل حول مفهومه لمهام وزارته.
الناس تريد أن تعرف حقيقة انقطاعات الكهرباء، ومتى تعود إلى طبيعتها، أو أن يشعر الوزير بوطأة الأزمة بمحاولة حلحلتها بأسرع وقت ممكن، لا أن يغلق أجهزة التكييف في منزله؛ ليعاني حرارة الطقس الحار مثل المواطنين الآخرين!
أخطر الأسئلة، التي طرحتها انقطاعات الكهرباء:
كيف عجزنا عن توفير الوقود اللازم من غاز، أو مازوت، لتشغيل شبكة الكهرباء بكامل طاقتها؟
يستلفت النظر هنا، أن دول الخليج لم تنهض هذه المرة في إمداد مصر باحتياجاتها الملحة من الوقود.
إنها أزمة عميقة شبه معلنة.
إلى أي حد وصلت تعقيداتها؟.. وما فرص خفض فواتيرها؟
سؤالان في خلفيات أزمة انقطاعات الكهرباء، لا تجد من يقترب منهما بشيء من الجدية، واحترام حق الرأي العام في المعرفة والمشاركة.
لماذا كان تخفيف الأحمال إجباريا؟
إنه فخ الديون.
هناك التزامات لا مفر منها؛ لتسديد أقساط الديون، وفوائدها بمواقيت محددة، حتى لا يدخل البلد بنفق إفلاس مظلم، يصعب الخروج منه.
كيف وصلنا إلى هذه النقطة الحرجة على حافة الخطر الداهم؟
هذا أخطر الأسئلة السياسية التي تطرح نفسها في أجواء انقطاعات الكهرباء.
لا خيارات مفتوحة تحت قيود فخ الديون.
هناك أزمة مستفحلة في السياسات والأولويات.
لم تكن العاصمة الإدارية أولوية ملحة، لكنها تصدرت قائمة الأولويات، وأربكت دون داع جهاز الدولة في إعادة تكييف أوضاعه مع نقل نسبة كبيرة من موظفيه إلى المدينة البعيدة، التي تكاد تغيب فيها شبكة مواصلات داخلية.
طرأت على السطح أولويات إضافية كـ”المنوريل”، لجعل الوصول إلى العاصمة الإدارية ممكنا.
ولم تكن مدينة العلمين الجديدة أولوية، تستدعي بناء قصور ومقرات حكم صيفية، استنزفت موارد أخرى للدولة المنهكة.
تراجعت بفداحة أولويات الصحة والتعليم، والتصنيع وكل ما تحتاجه مصر؛ لتقف على قدميها لصالح مشروعات باهظة التكاليف، والفخامة دون أدنى ضرورات تستدعيها الآن.
لم تنشأ من فراغ الدعوة الرئاسية لحوار وطني، يعيد النظر في الأولويات، فأزمة الديون تضغط بقسوة على مركز صناعة القرار، غير أن الحوار لم يمض على طرق سالكة، ولا بد أن هناك استعدادا جديا؛ لتقبل مخرجات تُغير من طبيعة المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يوشك على الانفجار.
فخ الديون يكاد يحكم قبضته على مستقبل البلد ومصيره.
هذا أخطر استنتاج سياسي من أزمة انقطاعات الكهرباء.