أصابت الهشاشة جذور وأركان المجتمع المصري، بفعل فشل الأسرة المصرية في أداء دورها في بناء جسور الترابط بين عناصرها، وغرس القيم الإنسانية التي تجعل أفرادها إضافة “إيجابية” في المجتمع، ليزداد الوضع سوء وتصبح مشاهد “الكراهية والرفض والعزلة والعنف”، لتنقلب قيم ومبادئ الأسرة القديمة، إلى مجرد شعارات “فارغة” يتغنى بها الجميع.
“مشاهد مؤلمة”
العلاقة بين أفراد الأسرة المصرية، أصبحت هشة وضعيفة إلى أبعد الحدود، فلم يعد هناك وازع إنساني أو رابط أسري يمكنه أن يحميها من كل الاختلالات التي قد تصيبها، ويقيها شر الفرقة، لكن الأمور أخذت منحى أخر أكثر بعدا وتطرفا، فأصبح العنف “النفسي والبدني” بين الجميع هو الطابع السائد، بل أنه وصل إلى درجات أبعد من ذلك بكثير، فمن الممكن أن تجد الأبناء يلقون بآبائهم وأمهاتهم في الشوارع، والآباء يتخلون عن أبنائهم من أجل عدم تحمل مصاريفهم أو رفع العبء عن كاهلهم.
الأخبار اليومية في الصحف والبرامج التلفزيونية، عرضت خلال السنوات الماضية، ما هو أبشع من ذلك، حتى أضحى أمرا عاديا أن تقرأ خبر مقتل أم على يد ابنها، أو طفل على يد أبيه أو أمه، أو سرقة عم لميراث أبناء أخيه، لكن الخلل الذي أصاب المجتمع أخذ منحى آخر، فأفقده نزعته الشرقية التي بقي يتباهى بامتلاكها، لكنه فقدها فعلا، مع إعلان إرسال رجل لعامل لديه ليغتصب زوجته ويصورها ليطلقها بدون أن يدفع لها حقوقها.
المجتمع المتدين بطبعه، فقد بوصلته “الأسرية والأخلاقية”، بصورة مفزعة خلال العقدين الماضيين تحديدا، متخليين عن كل تلك الصفات الإنسانية التي ارتبطت به، وميزته عن العديد من شعوب المنطقة، وجعلته مثالا يتمنى الجميع أن يتشابه معه في علاقاته الأسرية، وثقافته ورموزه التي سجلت باسمه نجاحات يحتفي بها القاصي والداني.
“أسباب الانهيار”
في نهاية عام 2009، وتحديدا قبل ثورة 25 يناير عام 2011، بحوالي 15 شهرا، أول وأخر دراسة مصرية “رسمية” شاملة لمنظومة القـيم في المجتمع المصري خلال الخمسين عاما المنصرمة، والتي كلف بها وزير التنمية الإدارية السابق الدكتور أحمد درويش، العميد السابق لكلية الآداب بجامعة القاهرة، وأستاذ علم الاجتماع الدكتور أحمد زايد، لتكشف عن حدوث خلل كبير في المجتمع المصري.
الدراسة الحكومية، كشفت أن المواطن المصري دخل في حـقبة التسعينيات في ظل عدة متغيـرات في القـيم والسلوك، في مقدمتها:
انتفاء قيمة العدالة: حيث عـلا شأن لاعبي الكرة والفنانين، في حين تراجـعت حظوظ المفكـرين والعلماء وغابت العدالة الوظيفية بسبب المحسوبية، والعدالة السياسية جراء تزوير الانتخابات، والعدالة الاقتصادية بسبب الرشوة والفساد، والعدالة الاجتماعية بسبب تصعيد المـنافقين والمؤيـدين وكتـاب السلطة، ومن ثم، باتت قـيم النـفاق والوصولية والنفعية والتواكل والصعود على أكتاف الآخرين، هي الصـفات الغالبة. وغدا التـفاني في العمل أو العـلم والابتكار وتعليم الأجيال، من الأمور غير المرحـب بها.
انتفاء قيمة الخـير والحـب، إذ أصبح الخير والسـعي إليه والعمل على تحقيقه، سواء للذات أو للآخرين، من الأمور النادرة، وكأنه أصبح معقودا على الذات فقط. فكل شخص يتمنـى الخيـر لنفسه ولذويه فقط. فإذا كان بمقدوره أن يـساعد الآخرين فيه ويوفـره لهم، ظـن به وبخل على تقديمه، حتى لا ينعم الآخرون به.
تراجع قيمة القـدوة، إذ أصبح الناس يفتقـدون النموذج الذي يقتـدون به، خصوصا في ظـل انتشار أخبار فساد أصحاب المناصـب العليا والزعماء السياسيين والروحيين، ولأن المصري مرتبـط منذ عصور الفراعنة بفـكرة الشخصية «الكاريزمية» المـوحية والمؤثرة، فإن شـيوع تلك النماذج كان له تأثيره السـلبي المباشـر على قـيم الأجيال الجديدة.
تراجع قيمة الإحساس بالأمان والطمأنينة، ففي عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، كان ميـل المصري للطـمأنينة قويا، لاعتماده على شخصـه وعلى الدولة التي وفـرت له كل شيء. وفي عهد السادات، بدأ القلق والاكتئاب يتسربان إليه، واستمر ذلك خلال الثمانينيات والتسعينيات وحتى اليوم، إلى أن لوحظ أن المصري أصبح مسكـونا بالانفـعالات المختفية تحت بعض الصـمت والسكينة، الأمر الذي يعبـر عنه بالمجاملة حينا وبالنفاق حينا آخر، وانتهى الأمر به أن هرب إلى الغيبيات، حيث الطـمأنينة المزيـفة، وامتزجت عنده روح الفـكاهة بالاكتئاب، حتى أصبحت الفـكاهة تعبيرا عن المرارة والسخرية، وليس عن المرح.
تراجـع قيمة الأسرة، التي أصبحت تواجـه خطر التفكـك في ظل غياب التـراحم وزيادة مؤشـرات الفردية والأنانية والاستغراق في المظهرية والتطلـعات الشخصية.
تراجع قيمة الانتـماء للوطن، إذ أصبح المواطن المصري في جزيرة منعزلة مستقلـة عن الوطن، يشعـر بوحدة غريبة وانكفاء على الذات، وذلك نتيجة لإقصائه عن أي مشاركة، إضافة إلى أنه لم يعـد يشعر بأن الدولة تحتضـنه وترعاه، ولذلك لم يعـد غريبا أن تتزايد معدلات الهـجرة إلى الخارج وأن يغامر الشباب بالتسلـل عبر الحدود والتعرض لمخاطر ركوب البحر واحتمالات الغرق، لكي يصـلوا إلى الشواطئ الأوروبية، التي يحلمون بأن يحقـقوا بعض أحلامهم على ضـفافها.
تراجع قيم العـلم والعمل وازدياد احتقار اللغة، كما تراجع التفكير العلمي ومعهما تراجعت قيمة العمل الذي أصبح مقصورا، إما على أصحاب الواسـطة أو خريجي الجامعات الأجنبية، وإزاء انتشار الفساد، تراجعت قيمة الأمانة وشاع التسيـب واللامبالاة.
وعلـق الدكتور أحمد زايد، المشرف على الدراسة، على أهم التغيـرات التي حدثت في منظومة القـيم التي تحكـم المجتمع المصري قائلا: “المنظومة القيمية في المجتمع المصري شهدت تغيـرات كثيرة، فأصبحت قـيـما مادية، وقلـت معايير الثـقة بين الناس، كما شهدت خلـلا في منظومة العدالة الاجتماعية وزادت حالات الفساد والرغبة في الكسـب المادي السريع، سواء من خلال تقديم الخدمات المجانية في الهيئات الحكومية بمقابل مادي، وهو ما يـعرف بالرشوة أو الإكرامية”.
القول والفعل
وحول الفجوة التي كشفت عنها الدراسة بين المـعاملات والعـبادات، أوضح في تصريحات صحفية: “لا يوجد اتـساق بين القول والفـعل. فرغم أن التديـن ينتشـر بشكل عام، إلا انه تديـن شكلي ولا يمـس جوهر الدين الحقيقي والمـعاملات بين الناس. البعض يتصور أن التديـن يعني ارتـداء ما يـسمي بالزي الإسلامي أو المبالغة في أداء العـبادات، بينما أن التديـن الحقيقي لابد أن يمتد إلى السلوكيات من رفض الرشوة والفساد”، مشيرا إلى أننا “كأفراد ومنظمات وهيئات مسؤولون عن ذلك”.
واعتبر زايد أن “السبيل إلى الإصلاح لابد أن يكون كلـيا، وليس جزئيا. فيجب أن تكون هناك مـراقبة لتنفيذ هذه المبادئ في كل قطاعات المجتمع والاهتمام بإصلاح النـظم التعليمية. فدور المدرسة لا يجب أن يقتصـر على تلقين المواد الدراسية، بل يجب عليها أن تـمارس دورا أكبر في تعليم التلاميذ السلوك الحـسن والصـدق والثقة في الحياة والمجتمع والدولة”، موضحا “أننا نعيش في مجتمع يجـب أن نتفانى في خـدمته وننكـر الذات في سبيله. فليس منطـقيا أن يردد المـدرس شـعارات الصـدق والأمانة والإخلاص في العمل أمام طلابه، ثم يطالـبهم بأن يحصلوا لديه على درس خصوصي”!!
“الألفية الجديدة ومواقع التواصل”
التدهور في قيم المجتمع المصري، ازداد مع الألفية الجديدة، وبلغ ذروته في أعقاب ثورتي 25 يناير و30 يونيو، خاصة مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وتطورها عاما تلو الآخر، وجذبها للكبير قبل الصغير حتى أصبح العالم الافتراضي جزءا رئيسيا، والهم الشاغل للجميع في الأسرة المصرية، فضلا عن الأحداث السياسية والإرهابية التي انتشرت وأحدثت تغييرا كبيرا.
أستاذ علم الاجتماع الدكتورة نبيلة سامي، قالت إن الأسرة المصرية اعتراها تغييرات كبيرة خلال السنوات الماضية، وخصوصا في العشرين عاما الماضية، إذ أصبحت المادة هى الجاذب الرئيسي للعائل بفعل الوضع الاقتصادي، والأزمات التي مررنا بها، فضلا عن حصول التكنولوجيا على مساحة أكبر من اللازم في حياتنا، حتى عوضت الأبناء عن وجود الأب والأم في حياتهم، وعدم امتلاك الآباء والأمهات الوقت الكافي لأبنائهم.
وأوضحت أن وسائل التواصل الاجتماعي احتلت مكانة كبيرة في حياة الشباب، وأصبحت الملاذ الرئيسي له كونها تعطيها ما يرغب فيها من شعور معنوي، فأصبحت العزلة والعالم الافتراضي هو السائد في المجتمع، بدلا من التواصل الأسري وغرس القيم التي تربى عليها الآباء، ليصبح المشهد في صورته الحالية، متابعة: “علاقاتنا الأسرية والاجتماعية أصبحت هشة”.
وعن زيادة وقائع العنف في المجتمع عموما، كشفت أستاذ علم الاجتماع، أن ذلك يرجع إلى العديد من الأسباب التي أحاطت بالمجتمع، بدءا من الأحداث السياسية التي وقعت بعد ثورة يناير، وانتشار مشاهد الدماء في الشوارع وعلى الشاشات، فضلا عن اعتماد الأفلام والمسلسلات على أحداث عديدة تهدف إلى ضرب “قيم الأسرة والمجتمع في مقتل”.
الجميع مسئول
الدكتورة نبيلة سامي، حملت الجميع مسؤولية التدهور الذي أحاط بالأسرة المصرية، بداية انشغال الدولة عن دورها في بناء الإنسان، وعدم تأدية المعلمين دورهم المنوط بهم في المدارس، وصولا إلى ترك الأسرة أبنائها بدون تواصل أو متابعة، فضلا عن دور الإعلام والمؤسسات الدينية والمجتمع في التوعية، ومحاولة رأب الصدع الذي أصاب الجدار المصري.
وأكملت: “الضياع هو النتيجة الوحيدة التي ستحدث لو بقي الوضع على ما هو عليه، فالأجيال الجديدة لن تجد البصلة التي توجهها إلى الطريق الصحيح، وتقوم سلوكها، والروابط الاجتماعية ستنهار، وبالتالي سيزداد العنف، ويكثر الفحش، ويفقد المجتمع المصري كل الصفات الطيبة التي ارتبطت به، من طيبة وشهامة وود”.
وشددت على ضرورة أن تعي كل الجهات الموجودة في الدولة، وفي الأسرة دورها المنوط به، والبدء بأقصى سرعة في إحداث تغيير يعيد الأسرة المصرية إلى مكانتها، ويصيغ روابط المجتمع بشكل أقوى، تجعله بعيدا عن النيل منه بفعل المؤامرات الداخلية والخارجية، التي تحاول هدمه، وإفساد شبابه، مؤكدة أن التغيير ممكن أن يصلح الوضع خلال 5 سنوات وتعود الأسرة المصرية والمجتمع إلى سابق عهده.
ولفتت إلى أنه رغم جهود الرئيس عبد الفتاح السيسي في الاهتمام بالإنسان المصري وبنائه، إلا أن التحركات الموجودة من الجهات المعنية في الدولة والإعلام والمجتمع المدني لا تتناسب إطلاقا مع حجم “الكارثة” التي نعاني منها، لافتة إلى ضرورة التحرك السريع في هذا الاتجاه.