امتلكت القاهرة لسنوات مكانة قيادية في المنطقة العربية، وكانت ضمن مراكز القوى في الشرق الأوسط، ولكن الدور القيادي بدأ بالأفول تدريجيا، وبالمزامنة، تصاعد نفوذ دول الخليج.
وشكلت الفترة التالية على الربيع العربي فرصة للسعودية؛ لإبراز قوتها وتأثيرها على الساحة الإقليمية، واتضح ذلك مع وصول محمد بن سلمان للسلطة في المملكة.
وعلى الرغم من أن النظامين السعودي والمصري، كانا، ولا يزالا، حليفين استراتيجيين، لكن ازدياد نفوذ الرياض يؤرق القاهرة، تريد الأخيرة استعادة موقعها في قيادة المنطقة، لكنها تواجه منافسة نفوذ وموارد الرياض، ما يشكل تحديا، يستلزم أن يفكر النظام المصري في حلول خارج الصندوق، ويبدأ بالقيام بتغييرات ديمقراطية في النظام السياسي.
التحالف المصري– السعودي: مشكلات وتأزم
ترى السعودية أن استقرار مصر عامل محوري؛ لاستقرار المنطقة. وكانت داعمة لنظام الرئيس الراحل حسني مبارك، وعقب الربيع العربي، شكلت مصر نقطة محورية في خطط للثورة المضادة؛ لإعادة الأوضاع إلى ما قبل يناير 2011.
عقب سقوط جماعة الإخوان، قدمت السعودية ودول الخليج مساعدات مالية دعما للنظام الجديد، ولكن هذا التحالف الاستراتيجي لم يخل من المشكلات، إذ سرعان ما بدأ التحالف يعاني من مشكلات وعوامل وهن وتأزم مكتوم، حتى وإن حرص الطرفان بشكل رسمي على نفي ذلك، إلا أن الحملات الإعلامية من الناحيتين، أوحت بما يعتمل من خلافات واختلافات فعلية.
يلاحظ جريجوري أفتانديليان عدة خلافات منها: عدم تدخل مصر عسكريا؛ لدعم التحالف السعودي في الحرب ضد الحوثيين في اليمن، كما أن مصر على عكس السعودية لا ترى في إيران تهديدا كبيرا.
كما تتخوف القاهرة من استعداد السعودية للتقارب مع جماعات تابعة لجماعة الإخوان في المنطقة مثل، علاقتها مع حزب الإصلاح في اليمن.
من مظاهر الخلاف أيضا، دعم مصر للرئيس السوري بشار الأسد، في الوقت الذي كانت فيه ترفضه الدول الخليجية بشكل قاطع، وكما أسلفنا فقد صعد الخلاف إلى السطح في الحرب الإعلامية بين السعودية ومصر.
في البداية، شن بعض الكتاب والأكاديميين السعوديين هجوما على الحكومة المصرية، وتطرقوا إلى مسائل حساسة سياسيا مثل، دور الجيش في السياسة، وتدخلات صندوق النقد، تلى ذلك، رد بعض الإعلاميين المصريين مهاجمين السعودية، بل وهاجم بعضهم الإعلامي عمرو أديب، متهمينه بترويج المشروع السعودي في مصر.
ربما لم تأخذ تلك الحرب شكلا رسميا، ولكن تكهن البعض بأن هذه الحرب من أعراض الخلافات بين البلدين، خاصة بعد تصريحات وزير المالية السعودي بشأن؛ إعادة النظر في سياسة المساعدات غير المشروطة، كما ظهر الخلاف أيضا، في تأخير تسليم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية.
مصر والسعودية: صراع تاريخي
في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، نجحت القاهرة في بسط قيادتها على الإقليم، تحت شعارات القومية العربية. ولكن القيادة المصرية للمنطقة لم تدم، وهذا التراجع ارتبط تاريخيا بالصراع مع السعودية، حسب ما يشير جيسي فيريس في كتابه مقامرة ناصر.
يري جيسي، أن تراجع النفوذ المصري بدأ مع لحظة هزيمة مصر في حرب اليمن والانسحاب منها، كما ارتبط خفوت النفوذ المصري؛ بضعف تأثير أيديولوجية القومية العربية، وحدوث نكسة 1967.
يجادل جيسي، بأن حرب اليمن كانت في الواقع حربا باردة بين مصر التي تمثل النظام الجمهوري الجديد المدعوم من الاتحاد السوفيتي، والسعودية التي تمثل النظام الملكي حليفة الولايات المتحدة وبريطانيا.
فتحت الهزيمة المجال للسعودية؛ لأخذ مكانة مصر القيادية في المنطقة، مستعينة بعلاقاتها القوية بالولايات المتحدة، ومعتمدة على ثروة النفط، كما استخدمت الإسلام كأيديولوجية بديلة عن القومية العربية.
لاحقا، وعبر عقود، تفاقم ضعف القيادة المصرية مع الركود في السياسة الخارجية بسبب؛ انشغال الرئيسين السابقين أنور السادات ومبارك بالمشكلات الداخلية.
التحولات السياسية والتأثير الإقليمي المصري
على الرغم من التدهور التدريجي لدور مصر القيادي في عهد مبارك، احتفظت مصر نسبيا بأهمية إقليمية نسبيا، خاصة في السنوات الأولى لحكم مبارك.
إليزابيث مونييه، وأنيت رانكو يجادلان بأن مبارك استطاع الإبقاء على قوة القاهرة، من خلال تأطير نظامه كحامي الاستقرار الإقليمي في العالم العربي، ومحوريته في محاربة التطرف الإسلامي.
فقد نظام مبارك في السنوات الأخيرة مصداقيته، وقام الإخوان المسلمين بتأطير حكم مبارك كنظام سلطوي، أضعف دور مصر القيادي لتبعيته للغرب، وقدم الإخوان الانتخابات الديمقراطية، ووصولهم للسلطة كحل لعودة هذا الدور.
هذا الخطاب المرتبط بضعف مكانة مصر الإقليمية، كان له صدى واسع في الشارع المصري، واستخدمته حركات معارضة أخرى مثل، كفاية و6 إبريل.
مونييه، ورانكو، يجادلان بأن جماعة الإخوان حين ووصلوا للسلطة، فشلوا في تدارك ذلك الخطأ، ولم تستطيع الجماعة الدفع بدور قيادي لمصر، بسبب سوء التخطيط، وإعطاء الأولوية لمصالح جماعة الإخوان العابرة للحدود على المصالح المصرية.
لهذا، تحول نظام الإخوان في نظر المصريين –كنظام مبارك- رمزا للسلطوية، وسببا لاستمرار ضعف القيادة المصرية في الإقليم؛ ففقد شرعيته وانهار في النهاية.
صعود النظام الجديد
التحول الأخير جاء مع سقوط جماعة الإخوان، وصعود النظام الجديد عقب 30 يونيو 2013، إذ لم يُحدث تغييرا ملحوظا في دور مصر الإقليمي في البداية.
يلاحظ روبرت ماسون، بأن هناك تحديات باقية أمام النظام تعوقه عن إعادة الدور القيادي لمصر، وأهم التحديات الانشغال بالمسائل الداخلية مثل، المشكلات التي يمر بها الاقتصاد منذ يناير 2011، وبناء مشاريع مركزية عملاقة مثل، العاصمة الجديدة، قد لا تحقق النفع المطلوب منها بالنسبة للفئات الفقيرة.
من التحديات أيضا، تآكل القوى الناعمة المصرية في التعليم، والإعلام والسياحة لصالح دول الخليج، بالإضافة إلى عدم الاستقرار الأمني والاقتصادي الذي يؤثر على السياحة والاستثمار.
ولذلك، يستنتج مايسون، بأن الحل لعودة نفوذ القاهرة الإقليمي يبدأ بمعالجة المشاكل الداخلية، من خلال تعزيز ثقة الشباب بالنظام السياسي، ورفع ثقة المستثمرين والسياح والمواطنين بالاقتصاد والأمن القومي، وإدماج أصوات المواطنين والمجتمع المدني، من خلال “البرلمان” الذي سيعوق الدولة العميقة على حد تعبيره.
ولكن هذا التحليل يعود، لـ 2016- على الرغم من استمرار العديد من المشكلات الاقتصادية والسياسة، خاصة بعد جائحة كورونا- الوضع اليوم أصبح مختلفا قليلا مع عودة الاستقرار بشكل نسبي للاقتصاد، والوضع السياسي والأمني.
لكن هناك بوادر أن النظام المصري عازم على عودة مصر للقيادة الإقليمية مجددا، القاهرة بالفعل تسعى لتغيير النظام الإقليمي الذي أصبحت في طليعته السعودية والإمارات.
في هذا السياق، تقول حفصة حلاوة، بأنه كلما تستقر الأوضاع الداخلية، ويتحسن الوضع الاقتصادي، سيكون النظام المصري أكثر حزما في تحدي النظام الإقليمي القائم، وسيسعى لإعادة الدور التاريخي لمصر في المنطقة.
وتشير، أن من مظاهر رغبة القاهرة في ذلك، السعي لبناء تحالفات جديدة، من خلال عودة العلاقات مع قطر وتركيا، ووساطة مصر لوقف “القتال” بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، وتقارب القاهرة مع الأردن والعراق، والتوسع في إنشاء مشاريع للطاقة، وتصديرها مع تكوين شراكات مع الدول المجاورة في هذا الشأن.
أدوات قديمة وتحديات جديدة
أدوات التأثير التي كانت تستخدمها القاهرة تاريخيا، إما أصبحت شيئا من الماضي، أو أثبتت ضعفها، القومية العربية مثلا، لن تعيد للقاهرة مكانتها مجددا.
يقول فؤاد عجمي، في بحث نشر في عام 1995، بأن القومية العربية أصبحت من الماضي، حيث إن مصر كانت أولَ من تركت هذه الأيديولوجيا على الرغم من أنها من “اختراعاتها”.
بالإضافة إلى أن دول المنطقة تفرقت، واتخذت مسارات مختلفة. هذا التشرذم يتضح بشكل أكبر في الصراعات الإقليمية اليوم، التي ليست فقط بين مصر والدول الخليجية حول قيادة الإقليم، بل بين الدول الخليجية نفسها.
الأمر كذلك، إذا راهن النظام الحالي على استراتيجية مبارك وحدها المتعلقة بتأطير دور القاهرة كحامي للاستقرار في الإقليم. فلقد بينت الثورة هشاشة الاستقرار الذي كان يدعيه مبارك، والذي كان يستخدمه كوسيلة؛ للحفاظ على التأثير المصري في الإقليم، خاصة في علاقته مع الغرب، وهذا ما أدركه المحللون في الغرب، وعلى الأرجح الحكومات الغربية كذلك.
يجادل شاشانك جوشي، بأن الحكومات الغربية واقعة في معضلة، حيث إنها تريد أولا: نظاما مستقرا، ثانيا: نظاما ديمقراطيا، وثالثا: سياسة خارجية متوافقة مع سياسات الغرب. ولكن الحكومات الغربية وجدت، أنه لا يمكن جمع الثلاثة في نظام واحد.
فإما يكون النظام مستقرا وديمقراطيا، ولكنه مستقل في سياساته الخارجية، وإما أن يكون ديمقراطيا وغير مستقر، وإما سلطويا ومستقرا. ولكن أثبتت ثورات الربيع العربي عدم صحة اعتقاد الحكومات الغربية، بأن النظام السلطوي قادر على تحقيق الاستقرار، خاصة في مواجهة الحركات الشعبية المفاجئة.
هذا ما أوضحته سيسيليا إيما سوتيلوتا، في تحليلها لمؤشرات الاستقرار التي اعتمدت عليها الحكومات الغربية، حيث إنها وجدت أن هذا الخطأ في توقعات الحكومات الغربية، بأن النظم السلطوية مرتبطة بالاستقرار كانت مبنية على منهجيات مبسطة، وغير مدعومة إمبريقيا “أي لا تؤيده أحداث الواقع”، ولا تضع في الاعتبار عوامل الاستقرار على المدى الطويل.
بدأ الغرب يراجع حساباته بشأن؛ ربط الاستقرار بالسلطوية في المنطقة (وإن كانوا لم يتخلوا عن تلك المعادلة حتى الآن)، مما يجعل ترويج الدور المصري كحامي الاستقرار تحت ظل نظام غير ديمقراطي، أكثر عرضة للشك من قبل الغرب من السابق.
أما بالنسبة للدول العربية، فإن كانوا في السابق يقبلون أن يكون لمصر الدور الأساسي في الحفاظ على الأمن الإقليمي، فاليوم الدول الخليجية على رأسها السعودية تسعى لاحتلال هذا الدور وإضعاف الدور المصري.
هذا يتضح في وقائع عديدة مثل، تدخل السعودية في الوساطة بين إسرائيل وفلسطين، وتقارب العلاقات بين الإمارات وإسرائيل (حيث لم تصبح مصر مركز القوى الوحيد الذي له علاقات قوية مع إسرائيل). بل إن موارد النفط تساعد السعودية، والإمارات على تبني سياسات أكثر تأثيرا مثل، وضع نظم سلطوية في دول المنطقة لضمان؛ استقرار المنطقة حفاظا على مصالحهم.
محدودية الموارد وآفاق الديمقراطية
يري ماسون، أن موارد القوة الناعمة المصرية أصبحت محدودة، خاصة أن دول الخليج لديها الأموال للاستثمار بشكل سخي على التعليم، والمشاريع السياحية والثقافية. ولكنه يلاحظ أيضا بأن الديمقراطية ضمن مظاهر القوة الناعمة، خاصة في العلاقة مع الغرب.
ويشير إلى نموذج تونس، والتي تحتل الصدارة في هذا الشأن، على الأقل حتى وقت قريب.
تحليل ميسون كان في عام 2016، الوضع تغير اليوم، ولكن لا تزال تلك الملاحظة منطلقا هاما؛ لفهم طبيعة القوى الناعمة في دول المنطقة.
الديمقراطية ليس فقط آلية سياسية مرتبطة بالسياسة الداخلية، الديمقراطية أيضا لها أبعاد على السياسة الخارجية، وتأثير البلاد على سبيل المثال، تمتلك الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية تأثيرا مهولا على السياسة العالمية، وهذا يرجع لعدة أسباب من أهمها، قوتهم الناعمة للجذب والإقناع في المحيط الدولي.
من مصادر القوى الناعمة الرئيسية للولايات المتحدة، ودول أوروبا الغربية هي، المؤسسات والعمليات الديمقراطية، كما يجادل جوزيف ناي (مؤسس مفهوم القوى الناعمة).
كما أن الديمقراطية ليست من مصادر القوى الناعمة في الغرب فقط، بل قد تكون أكثر تأثيرا في الدول غير الغربية، كما دولة “فقيرة” مثل الهند.
نموذج الهند: الديمقراطية مصدر للقوة
تستمد الهند قوتها الناعمة من تميزها بوجود انتخابات نزيهة، ومجتمع مدني حيوي، وحرية صحافة على الرغم من كونها دولة فقيرة، وبها نسب مرتفعة من الأمية.
وتوضح أوما بوروشوثامان، بأنه كما هو متعارف عليه، بأن الدول الديمقراطية تمتلك قوى ناعمة أكثر بكثير من الديكتاتوريات والدول السلطوية، فإن النموذج الهندي “على الأقل حتى اعتلاء اليمين الهندوسي للسلطة، يوضح إمكانية امتلاك مصدر للقوى الناعمة عبر الديمقراطية.
الانتخابات الرئاسية المقبلة وآفاق جديدة للقوة والتأثير
شكلت تونس نموذجا للتحول الديمقراطي الناجح في المنطقة العربية، ولكن عقب سياسات قيس سعيد السلطوية تجربة تونس كأنجح تحول ديمقراطي بدأت بالتدهور، ولذلك قد تكون هذه اللحظة هي الفرصة للقاهرة؛ لعودة قيادتها في المنطقة مجددا، من خلال احتلالها المكانة في الإقليم، كالنموذج الديمقراطي الأنجح في المنطقة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية.
ربما حان الوقت لمصر لاحتضان الديمقراطية، والحرية كوسائل لمد نفوذها في المنطقة، من خلال القوى الناعمة وتعزيز موقفها الدولي وتحسين صورتها في العالم.
اليوم تستخدم دول الخليج (خاصة السعودية والإمارات) جميع مواردها؛ لبسط نفوذهم في الإقليم محتلين مكانة مصر التاريخية، وفي حال أصبحت القاهرة مثالا للديمقراطية في المنطقة، سيعطي ذلك دفعة هائلة لقوتها الناعمة، لن تستطيع الدول الخليجية مجاراته.
شرط تحقق الديمقراطية عبر الانتخابات وجود إرادة عند القيادة السياسية؛ لإجراء انتخابات نزيهة، وإطلاق الحرية للمعارضين للمشاركة دون تدخلات.
هذا لا يعني أن الديمقراطية وحدها هي الحل لعودة دور مصر الإقليمي، بل يجب أن تتم بالتزامن مع المحافظة على قدرات القاهرة الخارجية الأخرى، ومعالجة المشكلات الداخلية أيضا.
بث الروح الديمقراطية في مصر، ستكون عاملا فريدا في أدوات القوة الناعمة المصرية، قلة من دول المنطقة ستستطيع منافسته.