يلتف الجماهير حول سينما ديانا في أحد أيام شهر فبراير عام 1955، في انتظار الدخول لحضور العرض الأول من فيلم عهد الهوى للفنان الراحل فريد الأطرش، فإذا بالجميع في حالة هتاف وتصفيق شديدين عقب رؤيتهم للرئيس الراحل جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر يرتديان ملابس مدنية ويترجلان لدخول السينما وحضور العرض.
جاء ذلك بطلب شخصي من الفنان فريد الأطرش للرئيس جمال عبد الناصر بعدما أصيب الأول بذبحة صدرية ولم يستطع حضور العرض الأول للفيلم، فأرسل خطاباً لناصر يطلب منه حضور عرض فيلم (عهد الهوى) ليُحي الجمهور بدلاً منه، وبالفعل حضر ناصر، في سابقة هي الأولى من نوعها، فلم يحدث هذا قبلها أن يحضر رئيس جمهورية عرض فيلم سينمائي بين الجمهور، دون حراسة أو أي شيء يفصله عمن حوله.
واقعة فريد الأطرش لم تكن الأولى من نوعها التي تبرز لطف وجمال التعامل بين الرئيس عبد الناصر والفنانين، وقد ذكر “سامي شرف”، سكرتير الرئيس الراحل عبدالناصر، بعض المعلومات التي كانت تربط الأخير بالفنانين في الجزء الثاني من كتابه “سنوات وأيام مع عبد الناصر”، من بين ما ذكره في الكتاب حول علاقة الزعيم بكوكب الشرق أم كلثوم، وكيف كانت العلاقة بينهما وطيدة للغاية، حتى أنها كانت تزور عبد الناصر وزوجته في منزل العائلة دون موعد سابق، وكان مُرحب بها في أي وقت.
أنت عمري.. بقرار جمهوري
أيضاً ذكر سامي بعض المعلومات حول أغنية “أنت عمري”، التي غنتها أم كلثوم من تلحين الموسيقار محمد عبد الوهاب، بطلب مباشر من الرئيس جمال عبد الناصر، حيث كانت أحد أحلامه أن يلتقي هذان القطبان الكبيران من أقطاب الفن المصري في عمل مشترك، يُجسد أصالة وعظمة الفن المصري والعربي، وتحقق حلمه بالفعل عام 1964، بخروج أغنية “أنت عمري”، وحققت ردود فعل أكثر من المتوقعة منذ عرضها وإلى الآن، وجاءت جملة الرئيس عبدالناصر الشهيرة بعد الاستماع للأغنية : “لقد استطاع فن محمد عبدالوهاب وفن أم كلثوم أن يجمع العرب من المحيط إلى الخليج”.
هذه كانت طبيعة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في تعامله مع الفن عموماً، فكان محباً للفن والفنانين، يحرص على علاقته الجيدة مع النخبة الناعمة كما أطلق عليهم، وبرزت في عهده الشخصية الحقيقية للسينما والدراما على حد السواء، ففي حقبة حكم ناصر، انتجت مصر أول مسلسل بوليسي عام 1956 ، واسمه (الخط الأسود) الذي دارت قصته حول شخص ملثم يرتدي بدلة سوداء طوال المسلسل، يقوم بعدة جرائم، خلال الحلقات يتبين أنه الأخ الأكبر لأحد الأبطال ووجهه مشوهه بسبب حادث حريق نشب في منزلهم وهو صغير، ترتب على ذلك اتجاهه للجريمة .
اتسمت الدراما التليفزيونية بالانتعاش من حيث الموضوعات التي يتم مناقشتها، ومن حيث صناعة العمل نفسه، ففي عهد ناصر اتسمت الأعمال التليفزيونية بقصر عدد الحلقات عكس ما هو موجود الآن، فإجمالي عدد حلقات مسلسل الخط الأسود كانت 8 حلقات، ولكنه كان مليء بالغموض والتراكيب الدرامية التي تجذب المشاهد لها إلى الآن، وهو نفس الوضع بالنسبة لمسلسل (أبداً لن أموت ) بطولة النجم عزت العلايلي الذي تمت اذاعته عام 1969، واهتم المسلسل بعرض نموذج الأب الذي يسرق من أجل علاج أبنته، ونظرة المجتمع اللاذعة له وقتها، برغم هدفه النبيل من أموال السرقة إلا أن الدراما لم تبرئه في عيون المجتمع .
كثافة إنتاجية
الفن لا يقتصر على الدراما التليفزيونية فقط فله أشكال عدة، منها مثلاً السينما، وهي من الفنون التي نمت وذاع صيتها في عهد ناصر، فوفقاً لمذكرات الكاتب الروائي ناصر عراق فإن معدل الإنتاج الفني والسينمائي في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يقدر بحوالي 700 فيلم من إجمالي 3000 فيلم هم إجمالي ما تم عرضه خلال القرن العشرين بأكمله، أي أن ما يقرب من ربع الإنتاج كله حدث في عهد عبد الناصر، وقد انشئ في عهده التليفزيون المصري، لينطلق البث الأول له عام 1960 وتحديدا يوم 21 يوليو.
هذا بخلاف الموسيقى فقد تأسس في عهده فرق دار الأوبرا مثل أوركسترا القاهرة السيمفوني، وفرقة الموسيقى العربية، والسيرك القومي ومسرح العرائس، وأكاديمية الفنون، التي تضم المعاهد العليا للمسرح والسينما والنقد والبالية والموسيقى والفنون الشعبية، وتأسست في عهده الكثير من الفرق المسرحية الشهيرة مثل فرقة صلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي، كذلك تأسيس أول وزارة مختصة بالثقافة عام 1958 والذي تولاها ثروت عكاشة كأول وزير للثقافة في مصر، والتي أنشئ بعدها عدد من الهيئات التابعة لها والتي من شأنها الاهتمام بالحياة الفنية في مصر مثل المجلس الأعلى للثقافة والمجلس الأعلى لرعاية فنون الأدب، وغيرها من الهيئات.
نحى الرقابة جانباً
من أكبر الانتقادات التي تطلقها الشعوب هي التضيق أو التدخل الرقابي على الأعمال الفنية، تميز ناصر بقدر عالي من الذكاء، جعله يفهم، أن ما تمنعه الرقابة ويؤثر في نفوس المصريين، سيجلب منه أكثر مما يعطيه، فقد ذكر الراحل نجيب محفوظ في مذكراته حول الرئيس عبد الناصر الذي سمح بعرض فيلم “شيء من الخوف”، بعدما شرعت وزارة الثقافة في إيقافه بحجة أن الفيلم به إسقاط في شخصية عتريس التي يقصد بها عبد الناصر وبأن فؤاده هي مصر، وزاجهما باطلاً.
حتى تدخل عبد الناصر وأجاز عرض الفيلم، وقال جملته الشهيرة، “لو كنا إحنا الحرامية، وأنا عتريس، يبقى ما نستاهلش نقعد في الحكم”، وتم عرض الفيلم وحقق نجاحاً كبيراً، وإلى الآن له جمهوره الذي ينتظره من حين لآخر.
أيضاً فيلم ميرامار الذي اعترض عليه عدد من أعضاء الاتحاد الاشتراكي واعترضوا عليه بحجة أنه يعارض السلطة وقتها وقدموا طلباً رسمياً بوقف عرضه، حتى تدخل الرئيس عبد الناصر وشكل لجنة بقيادة الرئيس الأسبق أنور السادات وكان نائباً له وقتها، وطلب منه يشاهد الفيلم ويكتب تقريره عنه، الذي جاء تقريره منصفاً لصناع الفيلم، وأجاز عرضه بل والإشادة به.
عوامة فريد الأطرش
يأخذنا فيلم ميرامار، ودور الرئيس السادات في عرضه رغم أن الرئيس وقتها لم يكن بحاجة إلى حقبة فنية جديدة بعد توليه مقاليد الحكم وقد شهد حكمه نقلة نوعية في الفن، وقد خطى بثبات نحو توطيد علاقته ببعض الفنانين.
فوفقاً لما قالته رقية السادات ابنة الرئيس الراحل الكبرى كشفت خلال كتابها “ابنته” التي تكشف فيه الكثير من محطات حياة محمد أنور السادات، أن الرئيس الراحل كان شديد الولع بالفنانين فريد الأطرش واخته أسمهان، وكان يحب الاستماع إلى أغانيهما بشكل كبير، بل إن السادات خلال فترة الخمسينيات كان على اتصال دائم بالفنان فريد الأطرش.
وقد قال فريد الأطرش للسادات، إنه عندما يكون هناك زيارات للقادة العرب أو لضيوف مهمين فإن العوامة تحت أمر المؤتمر الإسلامي وضيوفه، وبالفعل استقبل فيها السادات قادة العرب والضيوف المهمين الذين يأتون إليه في تلك العوامة بترحيب شديد من فريد الأطرش، وبسعادة كبيرة من السادات.
حدثت نقلة نوعية في مسلسلات السبعينات في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، واتجهت لأنواع جديدة من الأعمال التليفزيونية مثل مسلسل “العنكبوت” وهو قصة للدكتور مصطفى محمود وبطولة محمود المليجي وعزت العلايلي ومديحة كامل وتهاني راشد، وهو من المسلسلات المصرية القليلة التي تناولت قصة من الخيال العلمي، ناقش أمر الروح والتي اثار جدلا واسع حيث تدور احداث المسلسل حول عالم شاب يظهر في إحدى القري المصرية وتناسب ظهوره مع ظهور كثير من حوادث القتل ومع اختفاء الرأس لكل الجثث.
بنهاية السبعينات اتجهت الدراما نحو الأعمال الاجتماعية بشكل كبير، وهو ما برز ذلك في مسلسل (أوراق الورد)، الذي تمت اذاعته عام 1979، بطولة الفنانة وردة الجزائرية، والفنان المصري عمر الحريري، تدور القصة حول زوجين انفصلا عن بعضهما البعض ولديهما طفل واحد فيشرعان إلى المحكمة لكي يأخذان القرار من سوف يأخذ الطفل فيأتي القرار بأن يأخذ الطفل كلا منهما لمدة أسبوع، ويعد للفيلم دور بارز في التغيرات التي طرأت على قوانين الأحوال الشخصية فيما بعد.
عيد الفن وجائزة الجدارة
تعود فكرة عيد الفن إلى الرئيس الراحل محمد أنور السادات والذي قرر أن يكون الاحتفال به في يوم 8 من شهر أكتوبر، بدأ هذا تحديداً في عام 1976، وتحديداً في ذكرى الاحتفال بوفاة موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.
وفي أول احتفال له بعيد الفن ألقى السادات خطبته الشهيرة التي قال خلالها (يسعدني كل السعادة أن التقى اليوم بكل فناني وفنانات مصر وكتابها ومفكريها وقادتها على جميع المستويات، فقد جئنا إلى هنا لنحتفل بعيد الفن، والاحتفال بهذا اليوم، هو في الحقيقة احتفال بمصر وبالقيم الانسانية العليا.
اهتم السادات أيضاً باتخاذ بعض القرارات جاءت في صالح أهل الفن والمبدعين والمثقفين، وكان أولها التزام الأجهزة التابعة لوزارة الإعلام بكفالة حق الأداء العلني في مجال الإبداع الفني والأدبي للمؤلف والمخرج والمؤدى، بحيث يكون لكل منهم الحق في مقابل مادى عن كل مرة يقدم فيها العمل للجمهور، هذا بخلاف توصية السادات بالتأمين الشامل على حياة الفنانين والفنانات، كما اتخذ السادات قراراً بتطبيق القانون رقم ٦٤ لسنة ١٩٦٤، الخاص بالإعفاء الضريبي للفنانين بنسبة ٢٥% من صافى إيراداتهم ، وهو حق قانوني لهم سواء تم تطبيقه هذه الأيام أو لم يُطبق.
كذلك أطلق السادات جائزة الجدارة للفنانين، وقدرها ألف جنيه لعشرة من الفنانين والكتاب (وهو مبلغ يعد كبير بالنسبة للفترة الزمنية التي أطلقت خلالها الجائزة) هذا بخلاف منح شهادات التقدير لعدد من الفنانين والنقاد والكتاب في نفس الاحتفالية التي توزع خلالها جوائز الجدارة.
ومن أبرز الأعمال الدرامية التي عرضت خلال فترة حكمه كانت مسلسل الرجل الثالث، بطولة يوسف شعبان وسهير رمزي ومديحة كامل وإبراهيم خان، ومسلسل الخماسين بطولة أحمد مظهر وزوز شكيب وسمير صبري، وبالرغم من أنها أعمال قديمة إلا أن لها جمهور عريض عند إعادة إذاعتها إلى الآن .