لا يمر أسبوع إلا وتظهر شائعة أو ينتشر توقع ويخبو، ويظهر آخر ثم يتراجع، وفي بورصة السياسة هناك كل يوم سيناريوهات بعضها وارد، وبعضها الآخر “أحلام” وبعضها الثالث متخيل.
وقد يرى البعض، أن ذلك متعمد؛ لإضفاء جو من الحيرة والارتباك أمام الرأي العام، يسهل من خيارات معدة سلفا، والمطلوب لحبكها مزيد من “السسبنس” والأخبار المغلوطة والمراوغة.
أول ما ردده البعض في بورصة التوقعات في الجلسات الخاصة، وعدد من التسريبات، أن الرئيس السيسي لن يترشح، وهو أمر أربك البعض، وبنى عليه البعض الآخر سيناريوهات كثيرة لمرحلة جديدة، ليس هناك دليل واحد عليها، وأن كل المؤشرات تقول، إن الرئيس سوف يترشح لولاية جديدة، وأخيرة وفق الدستور تنتهي في ٢٠٣٠.
ثاني التكهنات، هي أسماء المرشحين لانتخابات الرئاسة، فبعيدا عن الصيغة غير المسبوقة في أي مكان في العالم في وجود مرشحين، يؤيدون الرئيس الذي قرروا “منافسته” في الانتخابات، فإن هناك أسماء تردد بقوة، أنها ستترشح بتفاهم مع الدولة، وسيترك لها هامش من الحرية غير متاح للآخرين؛ لضمان حبكة الشكل الديمقراطي.
ورغم أن هذا السيناريو ربطه البعض بأسماء بعينها لها حضور في المجال السياسي، إلا إنه حتى اللحظة لم يعلن أي منها، إنه سيترشح، مما فتح باب التكهنات على مصراعيه أمام ما سيكون عليه حال انتخابات الرئاسة.
أما السيناريو الثالث، فهو سيناريو المرشح المعارض أحمد الطنطاوي الذي لم ينتظر توجيها أو تكليفا بالترشح، وقرر خوض المحاولة، ومع ذلك لم تتوقف تكهنات البعض حول دوافع ترشحه، وهل يستطيع أن يغير شيئا؟ وهناك من يقضي وقته؛ ليجيب عن سؤال لماذا تركته الدولة يترشح؟ وهل سيستطيع الحصول على ٣٠ ألف توقيع في ١٥ محافظة، حتى ينتقل من مرشح محتمل إلى مرشح حقيقي؟
الحقيقة، أن الحديث في التكهنات أكثر من الحديث عن البرامج والأفكار السياسية، والرغي في التخمينات أكثر من الحديث في المعلومات والوقائع، كل ذلك أربك أداء كثير من القوى السياسية، وجعلها تبني مواقفها على تكهنات وسيناريوهات غير مؤكدة، وهو لن يبني تجربة سياسية مستقرة، ولن يؤسس لانتخابات رئاسية، تنقل البلاد للأمام في اتجاه مزيد من الانفتاح السياسي ومواجهة الأزمات الاقتصادية.
إن تجارب النظم السياسية الأخرى بما فيها نظمنا السابقة، كان فيها دائما مساحة يعتد بها من اليقين، ومن المعلومات الدقيقة، وأحيانا الشفافية، وهناك مساحات مخفية تخضع للتكهنات والتخمينات المختلفة، وحين طغى المخفي على المرئي، وغُصنا في بورصة الأخبار الكاذبة كانت هزيمة ٦٧.
وتصورنا جميعا، أننا تعلمنا الدرس، وعشنا مرحلة تالية، أخرج فيها النظام القائم التفاعلات المخفية إلى حيز النور، وعرفنا معنى المهنية والمعلومات الصحيحة ولغة الأرقام، فكان انتصار أكتوبر الذي تحتفل مصر بذكرى مرور نصف قرن على حدوثه.
والحقيقة، أن من يتصور أن الأصوات المحجوبة أو المكتومة غير موجودة في الواقع مخطئ، وأن تعمد ترك الباب مفتوحا أمام التكهنات؛ لإخفاء الحقائق سيعني إضعاف الهياكل المعلنة من الأحزاب، والمؤسسات السياسية لصالح الفعل العشوائي، وغير المنظم، والذي يحمل عادة مخاطر كبرى على الجميع.
والحقيقة، أن هناك أصواتا، لو حجبت في العلن فهي موجودة في الواقع، وهو ما يعرف في البلاد الديمقراطية بالرأي العام، ويمكن وصفها في بلادنا بالتفاعلات غير المرئية أو المخفية، وفي ظل الأوضاع السياسية الحالية، أصبحت غالبيتها العظمى بعيدة عن الفعل السياسي المنظم ووسائل الإعلام “المعتمدة”.
والحقيقة، أن هذه التفاعلات عادة ما تحرص مختلف النظم السياسية على نقل، ولو جانب منها إلي النور بما فيها نظم الحزب الواحد غير الديمقراطية فعلى سبيل المثال، بلد مثل، الصين يحكمه الحزب الشيوعي، يضم حاليا حوالي ١٠٠ مليون عضو، أي أكثر من 5% من عدد السكان، وهو بذلك يعد أكبر حزب سياسي في العالم، ويناقش قضايا المحليات والسياسات العامة من صحة وتعليم، وخدمات في العلن وبالعلم ولغة الأرقام، وهناك مساحة معلنة وشفافة للنقاش الحر والمعلومات الدقيقة، وأخرى مغلقة وضيقة، تتعلق بالسياسات الكبرى وباختيار الرئيس وكبار القادة.
لا توجد بلد، مهما كان نظامها إلا وتترك مساحة “يقين” ونقاش حر وأخرى ضيقة محسوبة، وتختلف درجة هذه المساحة من نظام إلى آخر، ومن سياق سياسي إلى ثانٍ.
مشهد حيرة الناس، وعدم ثقتهم في المؤيدين والمعارضين راجع؛ للإصرار على هندسة المشهد السياسي، وترتيب تفاصيله وتصنيعها، وهذا جعل صورة من تبقى من المؤيدين أنهم فقط باحثون عن منفعة، وجعل صورة كثير من المعارضين أنهم متفقون مسبقا مع أجهزة الدولة، وأن البعض يبدي دهشته، حين يستمع لصوت إعلامي أو سياسي يعارض بشدة بعض السياسات، فيكون رد بعض الناس، لماذا تركوه ولم يتركوا غيره؟ ولماذا سمحوا لـ س ولم يسمحوا لـ ص؟ وهو وضع أربك المشهد السياسي وترك الناس في “حيص بيص”.
البعض يتصور من أهل الحكم، أن هذا الإرباك “انتصار”، وأن النجاح في هندسة تجارب سياسية سابقة يمكن سحبه على انتخابات الرئاسة، وهو أمر فيه مخاطرة كبرى، لأنه في الحقيقة لا يعرف بدقة تبعات عمق الأزمة الاقتصادية الحالية، ولا معنى فقدان الثقة في نخب كثيرة من مختلف الأطياف المدنية.