في بداية الثمانينيات، وعى أبناء جيلي الذين تربوا، وعاشوا في مصر طيلة الأربعين عاما الماضية، على اللحظة التي قررت فيها الأم أو الأخت الكبرى ارتداء الحجاب، في هذه السنوات بالضبط، بدأت السلفية تتمدد بكامل قوامها الخشن في صلب الحياة اليومية للمصريين، لا يمكن الحصول على صورة لأم أو أخت قبل هذه الفترة، ترتدي طرحة على رأسها، كيف تربعت السلفية رغم ثقلها وبداوتها وخشونتها في العقل الإسلامي الشعبي بهذه السرعة، والقوة. تبدد المباح وتحرم ما أحل الله، وتقتل جهابذة الأمة دون استتابة، عشت وأبناء جيلي منذ الصغر، وحتى يومنا هذا نتجرع السلفية في المناهج، وتُتداول من حولنا شائعات تحكي عن صلبان ترش من أقلام حبر أسود على طرح النساء، كنا نسمع شرائط كاسيت لقساوسة يحكون قصص إسلامهم، ونرى شرائط فيديو “في اتش إس” تشغل في المنازل تحكي معجزات مقاومة الروس في أفغانستان، ومناظرات للشيخ أحمد ديدات مع ملحدين، يكبر فيها من ورائه في قاعات مغلقة جمهور من الملتحين، كلما أفحم ملحدا أو جعل أجنبيا يَسلم، خطب كشك المنبرية كانت تباع في كتب وتسجيلات، ينبعث صوتها من المواصلات والعصارات قبل البيوت، مجلات سلفية أشكال وألوان، زوايا ومساجد بالآلاف، تبنى أو يستولى عليها ولا تؤذن إلا آذانا شرعيا مزعجا، يخلو من المقامات الموسيقية التي تعودنها من كبار المقرئين، افتتحت مطابع على نواصي الشوارع الكبيرة تطبع كتيبات_ الحصن الحصين، ومقولات ابن تيمية_ وملصقات تمتلأ بأحاديث آحاد ليس لها سند، سوق انفتح وما زال على مصراعيه تُضخ فيه المليارات؛ بغرض استيلاء السلفية على عقول المسلمين، وبالتدريج ضاق التدين والاجتماع طوعا للمنظومة السلفية، وتلاشت بصمات أئمة التنوير الذين صمدوا عبر كل حقب التاريخ يدافعون عن الإباحة في وجه التضييق، والحضارة في وجه البداوة.
ومثلما حدث في القرون الأولى، حين انتقلت الأمة الاسلامية من فقه النبي، وصحابته القائم على الإباحة إلى فقه الفقهاء، والرواة القائم على التضييق، ستظل لحظة التحول إلى السلفية في الثمانينيات هي اللحظة الوحيدة الآن، القادرة على تفكيك ما آل إليه التدين مفرزا حيرة تاريخية، أربكت العقل الاسلامي وأبعدته عن روح العقيدة ونورها الفطري، ومن عاصر تلك الفترة وهي تنمو بين عموم المسلمين، يعلم جيدا أنه، ومنذ تلك اللحظة صار هناك خلط واضح بين الوحي والعلم، وأصبحت مقولات الفقهاء وأحاديث الرواة والآحاد، تتساوى بالنص القرآني الخالص، استبدلت جملة : “لا قول بعد قول الله” بجدال تملؤه الإسرائيليات وحكايات الرواة المتقولين على النبي، وعصره الذهبي الذي كان فيه المسلمون يعيشون دون فقه، أو حديث محققين العالمية، وحكم الأرض بقرآنهم السماوي.
خطة السلفية في العقل الإسلامي كانت تهدف بوضوح إلى خلق ماض، يصور حياة النبي وصحابته من زاوية واحدة، لا تقبل الاختلاف معها أو مناقشتها، وبعد أن تم تثبيت هذا الماضي في الذاكرة الإسلامية، منحه الرواة والمتحدثون قداسة مطلقة، تحكم بالنصوص على كل صوت جديد بالردة أو القتل الفوري، دون استتابة، كما في حكم الزندقة الوارد في كتب الفقه السلفي، هناك “عملية نفي صارمة، وممنهجة في كل التراث الاسلامي، مارستها السلفية في مواجهة التيارات الأخرى أو الحريات الشخصية، وهذا ما يهدد السلفية بقرب نهايتها، فالصوت الواحد في الإسلام لن يكون لغير الله وكتابه والسنة المصححة المعاد تدقيقها ومراجعتها، ذلك هو الصوت الوحيد الذي سيحرسه الله كما وعد “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” لقد ادعت السلفية_ وهي تنفرد بتدوين الفقه والحديث والكلام _ أحقية وحيدة في صياغة الإسلام، وهو ما سيصدمها بالعقل الإسلامي صدمة عنيفة، ستهمشها في أقوى مواضعها، فلا حجة في الإسلام إلا في النص الخالص، ولا إطلاق إلا في الوحي المتصل الإسناد بالله تبارك وتعالى، وطيلة تاريخ الإسلام، ومنذ أول محاولات السلفية أن تتسيد على العقل المسلم، كانت هناك أصوات قوية تتجاوز في تفكيرها النمط الإسنادي التقليدي الذي تتبناه السلفية؛ لتثبيت “القياس الفقهي الملزم” و”الإجماع” و و”الجمهور” لا بد أن تعود دائرة النص إلى حجمها الطبيعي الآن، وتكتمل بكامل نورانية الوحي السماوي الخالص، والذي يخاطب كل مسلم على حدة بفرده وشخصه.
هذا ما وعدت به مدرسة ابن حزم المسلمين، إن وقفوا يتأملون تلك الدائرة النورانية الخالصة، سيسمع العقل الاسلامي صوت باطنه، يحكي عن فقهاء وعلماء فقدوا حياتهم في معارك مع السلفية على إقرار أصالة الحرية الإنسانية والشخصية في القرآن، فهي أصالة تجاوزت تصورات علم أصول الفقه، أو استدلال الحديث، إذ يقول تعالى: “يا أيها الذين آمنو عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا”؛ قول واضح صريح؛ لإقرار حق لا يمكن انتزاعه من “نفس” أي مؤمن، وهو ما أربك الفقه السلفي، وجعله يتلجلج، وهي “أصالة” تنطلق من قاعدة الإسلام الأصلية، أن ” الأصل في الأشياء الإباحة” كما يقول ابن تيمية أعلى صوت في السلفية_ لا إلزامية في التكليف إلا بالوحي أو النص الإلهي. أي أمر جازم حصره القرآن يترتب على تركه الإثم فهو “واجب”، وما ورد بنهي جازم يترتب على فعله الإثم فهو “حرام”، وما وراء ذلك أو ما سكت عنه النص فهو يمثل الحياة الواسعة الممتدة في الزمان والمكان ويسمى “مباح”، تلك هي قاعدة إسلام النبي، والصحابة التي أقرها وارتضاها العقل الإسلامي في حياة النبي وبعد وفاته، وأمامها لم تستطع السلفية الهروب، حين بدأت التدوين، فطفقت تفتئت وتتحايل على الصعيد الفقهي الأصولي وتجعل من الإجماع والقياس وقول الصحابي، وفعل التابعي وعمل أهل المدينة مصادر تشريعية، ملزمة للأمة على مر الأجيال والعصور متناسية، أن الإسلام أكبر فكرا وعمرا من أن يكون له مثل هذه المرجعية للماضي_ آن للعقل الإسلامي أن ييتجب هذا التوجس الرهيب من العقل والحرية_ وأن يسأل لماذا غابت فكرة الإباحة عن الشعور الفقهي السلفي، لا سيما في تشريعات الإمامة والسلطة؟ وعوض عنها بمصادر إلزام وتكليف لا نصية ألغت _من الناحية العملية_ سماحة الدين ونورانيته على الرغم من أن : “المباح غير منحصر بينما الملزم_ بالوجوب أو الحرمة_ محصور.
في مقابل وجود تلك القاعدة كأصل من أصول العقل الاسلامي، أوجدت السلفية أحاديث، استطاعت بموجبها أن يُسمح لأفراد بالتدخل في حياة المؤمنين؛ لتغيير شيء تراه السلفية حراما أو منكرا، مثل، من رأى حامل آلة لهو فليكسرها وله الأجر، وهناك خلاف حول جواز ضرب صاحبها وإيلامه_ وعشرات المواقف الأخرى التي تحرم ما أحل الله لعباده، ثم إن حديث مسلم: “من رأى منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان” إن صح إسناده وسلم العقل الإسلامي بصدق نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم_ وهو بالمناسبة لم يرد في البخاري_ فإن سياق أول ظهور لهذا الحديث كان في أحد أعياد عام 65 هـ، زمن قاتل _طلحة بن عبيد الله_ مروان بن الحكم رابع خلفاء بني أمية، والذي حكم عاما واحدا من 64 إلى 65 ه،ـ وكما تقول عنه الروايات السلفية، إنه كان فقيها عالما من أهل الثقة في الحديث_ مات قبل أن يقضي على تمرد الزبير بن العوام في بلاد الحجاز، وامتلأت فترة حكمه بالشحن والخطب التي تحشد البيعة لبني أمية، في مواجهة جيش الضحاك، والزبير والتي قيل في إحداها هذا الحديث ونصه بالإسناد: ” حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ كِلَاهُمَا ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ ، وَهَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ، قَبْلَ الصَّلَاةِ، مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ_ جملة تفيد اعتراض مروان على السنة القديمة؛ لأن الناس كانوا يتركون الخطبة بعد صلاة العيد_ ،فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخدري موجها كلامه إلى المصلي المعترض على فعل مروان_: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ _أي فعل ما عليه في وجه الحاكم_ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ” مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ”.
الآن، وبعد 13قرنا، أكل بطولهم الزمان على مروان وعشيرته وشرب، انقرضت دولة بنى أمية، وتركت حديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مترسبا في العقيدة الإسلامية كقاعدة فقهية، تنطلق منها معظم الأحكام المنظمة للاجتماع والتدين، وبطول عمر الأمة الإسلامية، منذ أن تأسست المذهبية ودُوّن الفقه الحديث، كانت هناك مئات الأصوات التي تناقش حجية هذا الحديث بالذات، ومدى سلطاته المطاطية الواسعة التي بسطت يد الفقه على الحياة الشخصية للمؤمنين، وسمحت للأفراد أو جماعات منهم التدخل في الاجتماع بدعوى ضبطه، ونهيه عن المنكر، المعتزلة وابن حزم الأندلسي والقاضي المصري العظيم العز بن عبد السلام _ مدفون في مصر بمنطقة جامع عمرو بن العاص_ وهو أحد رموز القضاء الإسلامي، ومن أكابر مطوريه، وتحكي الروايات عنه، أنه كان كلما سمع هذا الحديث يقول مقولته الشهيرة: “خلق الله الانسان كالمملكة، وأكرس العقل على كرسي القلب، وأمر العينين أن تبصرا، والأذنين أن تسمعا، واليدين أن تبطشا، والقدمين أن تمشيا، وقال الديان كما تدين تدان”. وهنا يجب الإشارة إلى أن السلفية _مثلها مثل العقل الاسلامي _ لا تنكر حقيقة وضع الأحاديث أو تزويرها، وتقر معترفة إجمالا، بأن الروايات المقبولة ضمن كتب الحديث المعتمدة، والتي يدور عددها حول 5 آلاف حديث، هي خلاصة منتقاة من مادة حديثية تقدر بمئات الألوف من الروايات تزيد عن 500 ألف حديث، بل إن السلفية تتفاخر بطول وعرض تراث الإسلام بالطرق، والآليات التي وُضعت لاحقا _ بعد موت النبي وجيل الصحابة الأول بنحو قرنين_؛ لتقنين الفرز والانتقاء؛ معتبرة عملية الانتقاء كافية، لجعل ما دُوّن في كتب الحديث نهائيا مقدسا، يعد النقاش حوله جدلا في أصل الدين لا حول نمط الدين”.
مارست مدرسة ابن حزم الأندلسي قراءة النص بغير وصاية سلفية مستخدمة في ذلك بشكل علني، وصريح مبادئ العقل المنطقية، وهو ما يبدو ظاهرا في كل كتبه الأصولية والفقهية والكلامية، وكانت النتيجة أن تمكن من رؤية الحرية الشخصية والعقل ماثلا في النص القرآني، ولا يوجد في التراث الاسلامي أطروحة استبعدت كل المراجع اللا نصية، بما في ذلك الإجماع “السلفي” والقياس الفقهي، مثلما فعلت تلك المدرسة، بل أن المحاولات التي جرت في نطاق التفكير السلفي متبنية جزءًا ضئيلا من تجربة ابن حزم، أفرزت فقها منسجما اجتماعيا مع عموم المسلمين، مثل تجربة أبو حنيفة النعمان، فالمذهب الحنفي وحتى هذه اللحظة يحظى بحضور قوي في المعاملات الاجتماعية للمسلمين؛ لسبب واحد هو، أن أبا حنيفة كان من أهم الأئمة الذين يرفضون القياس، ويتعاملون بحذر شديد مع الحديث الذي رأوه، يدون أمام أعينهم. كان أبو حنيفة يقدم النص على الإجماع ويرفض زحمة الروايات وتزاحم الرواة؛ لأنه في الأساس كان محدثا يعرف الحديث الضعيف من الصحيح، لذلك عاداه البخاري، ولم ينقل عنه في صحيحه، ولو حديثا واحدا، مع أنه نقل كثيرا عن مروان بن الحكم قاتل طلحة بن عبيد الله، وهو ما أكسب المذهب الحنفي حضورا غير عادي في العقل الإسلامي، إذ لا يوجد حتى الآن مسلم واحد كتب على امرأته دون أن يقول جملة: “وعلى مذهب الإمام أبو حنيفة النعمان”، بما يعني أن قياس الفقهاء وزحمة الروايات وكثرة الأحاديث، يبعدون العباد عن المعاملات الدينية الموثوقة، ويحرمون الدين من الاندماج، والتماهي مع من يتدينون به، فالنص الصريح كما يقول ابن حزم وحده، هو القادر على توسيع دائرة الإباحة، واستبعاد التضييق والحرمة، وتجدر الإشارة هنا، أن معظم أهل الحديث جرحوا في أبى حنيفة؛ بسبب رؤيته المذهبية التي وإن لم تفرط في الابتعاد عن الرؤية السلفية، لم تكن منطبقة عليها تمام الانطباق، وفي ذلك يقول ابن عبد البر في كتابه الانتقاء: “كثير من أهل الحديث تجاوز الطعن على أبى حنيفة، لرده كثيرا من أخبار العدول_ ممن ترضى شهادتهم في صحة الأحاديث_ إذ كان أبو حنيفة يذهب إلى رد كل أخبار الرواة، والأحاديث التي يسمعها في زمانه إلى القرآن والسنة المصححة في عقله، فإذا لم تنضبط سماها شاذة ويرفضها. وكان يقول: الطاعات من الصلاة وغيرها لا تسمى إيمانا” وقال عنه أبو سفيان الثوري: لقد استتابه أصحابه من الكفر مرارا “وقال أيضا سفيان بن عيينة: “ما رأيت أجرأ على الله من أبى حنيفة”، كان يضرب الأمثال لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرده. إذ لما بلغته رواية حديث: “البيعان بالخيار ما لم يتفرقا” جعل يقول: أرأيت إن كانا في سفينة؟ أرأيت إن كانا في سجن، أرأيت إن كانا في سفر كيف يفترقان”.
الكلام السابق يعنى، أن السلفية تدعي انفرادها بصياغة الإسلام وبالتالي، فهي تطلب من أي مسلم أن يستبعد حواسه النقدية، حين يتعامل مع الدين ونصوصه، وهذا يناقض الإسلام الحقيقي الأصيل، قبل أن يحمل بأثقال التاريخ و الجغرافيا التي دون فيها الحديث وعلوم الكلام، إن شرعية الحاسة النقدية تستمد أساسها من داخل الإسلام ذاته، فهي أحد التداعيات الضرورية والمباشرة للمبدأ القرآني الأصيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي أيضا أحد التجليات الذاتية للعقل الذي دائما ما يحرص القرآن على تثبيته، ويمنع نفيه أو تنحيته في العقيدة قبل العبادات.