في نهاية شهر يناير الماضي، كتبت هنا أرصد اتساع الفجوة بين الشرعية الدستورية، وبين الشرعية السياسية في النظام السياسي المصري مع اقتراب الفترة الرئاسية الثانية، للرئيس عبد الفتاح السيسي من نهايتها، والترقب أو الاستعداد للاستحقاق الانتخابي الرئاسي التالي في عام ٢٠٢٤، ومما قلته في ذلك الوقت، أن الشرعية السياسية هي رصيد يتبدد أو يتجدد، وقد تتبدد الشرعية السياسية كلية؛ بسبب استمرار الاخفاقات، فيما تبقى حالة الشرعية الدستورية قائمة ونافذة، طبعا في انتظار الانتخابات التالية في النظم الديمقراطية، أما في النظم غير الديمقراطية، فالتغيير أو الاستمرار ليس رهنا بإرادة الناخبين، وإنما بتوازنات القوى وصراعات المصالح في المجتمع ككل، وبين مؤسسات النظام نفسه، وبالطبع فهذا، قد يُنتج وضعا دستوريا كافيا من الناحية الشكلية، لكنه لا ينتج تجديدا حقيقيا -ولو بنسبة محدودة- للشرعية السياسية، ومن ثم تبقى المعضلة بعد الانتخابات على ما كانت عليه قبل الانتخابات.
يزيد من حدة وإلحاح سؤال الشرعية مقترنا بسؤال الانتخابات الرئاسية المقبلة، تبلور أشكال من الحراك السياسي الجاد -في أنحاء المجتمع السياسي- للتعامل مع هذه الانتخابات بوصفها فرصة، إما للتغيير الفوري، وإما التغيير طويل النفس، وإما الإصلاح، وإما المشاركة المؤثرة.
طبعا، كلنا نعرف أن النائب السابق أحمد الطنطاوي يتحرك الآن ميدانيا، لتأكيد ترشحه، ولاستكمال الإجراءات المطلوبة دستوريا لهذا الترشح.
وكان عدد من أقطاب الحركة المدنية الديمقراطية قد أكدوا في أكثر من مناسبة عزم الحركة الدفع، بمرشح لمنافسة الرئيس السيسي (الذي لم يعلن رسميا عزمه الترشح حتى الآن، لكن كل الأطراف تعتبر ترشحه (تحصيل حاصل )، وفي أوضح تعبير عن هذه النية قال الصديق مدحت الزاهد، إن عدم الدفع بمرشح عن الحركة المدنية هو استسلام مبكر.
من جانبه، لم يجد الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، وهو من أركان الحركة المدنية الديمقراطية، ما يمنعه من إبداء استعداده للانخراط بكل الإيجابية في الاستحقاق الانتخابي الرئاسي المقبل، سواء بالدفع بمرشح عن الحزب أو بتأييد مرشح توافقي، وذلك حال توافر النية والقرار والسياسات والإجراءات التي تجعل تلك الانتخابات بداية مسار، لتحول مدني ديمقراطي في البلاد، وعدد بيان الحزب القرارات والسياسات والإجراءات التي تكفل مناخا صحيا لانتخابات رئاسية، تحظى بالمصداقية، ومن ثم تجدد الشرعية، ومنها تصفية حالات السجن، والحبس الاحتياطي؛ لأسباب سياسية بالكامل، وغير ذلك من الشروط الجوهرية لإعادة بناء المجال السياسي التعددي التنافسي السلمي، والتي يمكن إجمالها في استعادة هذا المجال برمته من أيدي أجهزة الأمن، والبيروقراطية الحكومية، إلى أيدي المواطنين والأحزاب والمجالس المنتخبة.
وفي هذا السياق، وبما لا يقل أهمية تأتي مجموعة رسائل الدكتور حسام بدراوي، في حديثة الصحفي الأخير، وبغض النظر عن القيمة الذاتية الكبيرة لهذه الرسائل، فإنها فسرت في المجتمع السياسي القاهري على أنها جس نبض للأطراف المعنية حول امكانية ترشح د/ حسام نفسه للاستحقاق الرئاسي المقبل، ممثلا لجبهة عريضة، تضم تيار الوسط على اتساعه يمينا ويسارا، وهو بالمناسبة ما يلقي ترحيبا في دوائر عديدة من الحركة المدنية الديمقراطية.
مؤكد هناك شواهد أخرى، وهناك مرشحون محتملون آخرون، لكن ما ذكرناه يكفي للقطع بأن، الرئيس عبد الفتاح السيسي مواجه هذه المرة بسؤال حاسم، وهو: أي نوع من الانتخابات الرئاسية ستختار؟ هل ستكون على طريقة الانتخابات السابقة، حيث المنافس موسى مصطفى موسى الذي أعلن تأييده للرئيس الذي يُنازِله؟ أم ستكون انتخابات مفتوحة تتصارع فيها الرؤى، وتتباين فيها البرامج التي سيكون برنامج الرئيس الحالي أحدها -ويعبر من خلالها عن الأوزان الحقيقية للقوى الاجتماعية والأفكار والمصالح؟
إذا اختار الرئيس الطريقة الأولى القديمة فأمامه ودون عناء الدكتور، عبد السند يمامة، رئيس حزب الوفد، الذي يترشح لمنافسة الرئيس على خلفية ولائه الكامل للسيد الرئيس، ولسياساته كما قال هو نفسه: وهذه هي حالة الاكتفاء بالشكل الدستوري، بغض النظر عن تطابق الشرعية السياسية مع الشرعية الدستورية المستندة أصلا إلى قوة الأمر الواقع.
أما إذا اختار الرئيس الطريقة الثانية، -أي الانتخابات التعددية التنافسية المفتوحة- وتوافرت لها ضمانات الحيدة والعدالة وحرية التعبير والتحرك والاتصال، فسنكون أمام عملية سياسية واعدة، فإذا سبق هذه الانتخابات، وكجزء لا يتجزأ من مناخها تصفية السجون والمحابس السياسية، ورفع الحصار والاشتباه عن الأحزاب، وإذا استكملت تلك الضمانات بتعهد واضح بانتخابات برلمانية عادلة وحرة. وفق قانون هو أصلا عادل، وبتعهد لا لُبْس فيه بعدم تعديل الدستور مرة أخرى، مع التزام صريح من الرئيس السيسي بذلك في إطار حملته الانتخابية، فهذه هي أقصر وأنجح وسيلة؛ لتجديد الشرعية السياسية، ومن ثم جسر الفجوة بين الأمر الدستوري الواقع، وبين الاختيار الشعبي الحر، ومن ثم أيضا، تكوين مجموعة من السوابق تصلح تراثا مقدرا، وجميلا في تاريخ جمهوريات الضباط المصرية والعربية.
فأي الطريقين سيختار الرئيس السيسي؟
سوابق التاريخ وهواجسه لا توحي بكثير من التفاؤل، ولكن صعوبات الواقع وآمال المستقبل تقول، إنه لا يأس مع الحياة.
فكما قلت بالحرف الواحد في مقال يناير الماضي: فلا يجادل إلا القلة في أن الرئيس عبد الفتاح السيسي، بدأ حكمه في ظل تطابق تام وفريد بين الشرعية الدستورية والشرعية السياسية، إذ كانت الغالبية الشعبية ترجوه الترشح لمنصب الرئاسة، وكانت هذه الغالبية تؤمن حقا، بأنه مرشح الضرورة، وبمعنى آخر مرشح الإنقاذ الوطني الشامل، وكذلك تجاوبت معه تلك الأغلبية الكاسحة في كل قراراته السياسية والاقتصادية والأمنية، بما في ذلك تخفيض دعم السلع الضرورية، ورفع أسعار السلع الاستراتيجية، وإغلاق المجال السياسي، وتغليب الاعتبارات الأمنية على حقوق الانسان… إلى آخر تلك القرارات والسياسات، بغض النظر عن تقييمنا الخاص، أو تقييم غيرنا من المعنيين أو المتخصصين في الشأنين السياسي والاقتصادي، ممن يسمون بالنخبة، بل يمكن القول، إن قطاعا لا يستهان به من هذه النخبة كان مؤيدا على بياض للرجل، استنادا إلى ما وصفوه هم أنفسهم بشرعية الإنجاز (على الطريقة الصينية التي سبقت الإشارة إليها).
الآن، لا يجادل إلا القلة في أن شرعية الإنجاز أو الشرعية السياسية المستمدة منها، قد تضررت بشدة، أو تبدد قدر كبير منها، بسبب سوء الإدارة الاقتصادية في المقام الأول، فحين تتدهور مستويات معيشة هذه الغالبية الساحقة التي رحبت بالنظام الجديد، ودافعت عنه بشراسة في البداية، وحين لا يقتنع المواطن العادي بكل المبررات المطروحة، ثم لا يقتنع أيضا بوعود احتواء الأزمة والخروج منها قريبا، وذلك في وقت تتدهور فيه أحوال الخدمات العامة أيضا، بالرغم من قسوة الجبايات الحكومية، والاستمرار في بيع بعض أصول الدولة الاقتصادية، نقول حين يكون ذلك كذلك، فإن النظام يكون في حاجة ماسة إلى وقف نزيف شرعيته السياسية، ثم تجديدها، ليس فقط بالحديث عن الإنجازات السابقة التي منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو محل خلاف واسع، ولكن بسياسات جديدة تدفع النمو، وتحسن الخدمات، وترفع مستويات المعيشة، وترعى الحقوق، وهذا كله لا يتحقق إلا بإصلاح سياسي شامل، وهنا نعود لتأكيد، أن سؤال الشرعية الدستورية ليس هو المطروح، فهذه الشرعية الدستورية مكفولة بالنصوص وبقوة الأمر الواقع.
لا ننكر، أنه جرت وتجري محاولات في سياق تجديد هذه الشرعية السياسية، منها وثيقة ملكية الدولة، ومبادرة الحوار الوطني، والاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وإذا كان المجتمع والنخبة والإقليم والعالم، قد تحلوا جميعا بصبر مطول في انتظار التنفيذ البطيء، فإن لحظة انتخابات الرئاسة المقبلة هي لحظة الامتحان النهائي لكل ما سبق، فإما، أو.