لعل المطلع على سجال الحوار الوطني، والذي دار بين الاختيار بين القوائم المطلقة (الكتلة الحزبية)، وهو أحد أساليب النظام الأغلبي، والنظام النسبي، يؤكد أنه سجال سياسي لا علاقة له بقانون، أو دستور أو حتى الاحتكام لمعايير النزاهة، وحرية الرأي والتعبير… آية ذلك ما يلي: –
سجال سياسي لا دستوري
إن الحوار الوطني الذي ناقش تلك القضية على مدار أربع جلسات، منها جلستان عامتان في 14مايو 2023، وخاصتان في 25 يوليو 2023، لم يشارك فيها سوى طرف واحد من أطراف اللعبة الانتخابية، وهم الأحزاب السياسية التي سبق للحوار الوطني ذاته أن أقر، أنها في حاجة إلى تغير درامي في علاقتها بالدولة والمجتمع، ناهيك عن ضرورة إصلاح أوضاعها الداخلية المهترأة. هذا الطرف الغائب هو الناخب، الذي دونه لا تجري أية انتخابات. فالناخب ليس فقط شخص مقترع في لجان التصويت، بل هو من يتعرض (وربما يقود) للدعاية والحملات الانتخابية، وهو من ينتمي لدائرة انتخابية، وهو المخاطب بالبرامج والوعود، وهو المتلقي لبرامج التوعية من الهيئة الوطنية والمرشحين والمجتمع المدني، وهو المانح بمشاركته في الانتخابات الشرعية لها…إلخ.
إن المشاركين في الحوار الوطني حول النظام الانتخابي، هم نوعان من الأحزاب: الأول، نوع أمعن في وصف ذاته بالمعارضة المدنية القوية، وقد تلقفته السلطة للمشاركة في الحوار الوطني؛ بسبب تجريف الحياة الحزبية في البلاد، بل وموت السياسية، بسبب أمور تخضع لسياسات داخلية، وخارجية خارج نطاق البحث هنا. وهذا الصنف من الأحزاب ما برحت أن تفتت مرة تلو الأخرى خلال الأشهر الماضية، تحت دعوى ما يسمى تشكيل التحالف الليبرالي، وأخرى تحت دعوى ما يسمى مجموعة حوار، ثم اكتملت الصورة ببوادر انشقاق آخر؛ بسبب مقابلة بشار الأسد -حمدين صباحي. النوع الثاني من الأحزاب، هو أحزاب مولاة تعددت، وبلغت العشرات رغم ما هو معروف، أن البلاد لا تختلف إلا حول بضعة قضايا أقل بكثير من هذا التعدد الحزبي. والغريب أن على رأس تلك الأحزاب، من هو منشأ من خارجه، وبرغبة غير حزبية، وإدارة يومية كاملة من خارج الهياكل التنظيمية لتلك الأحزاب، وهو أمر على أي حال نبع من رغبة رسمية في توالي وراثة تنظيمات حزبية لبعضها البعض، ويقصد هنا الاتحاد الاشتراكي والوطني الديمقراطي ودعم مصر فمستقبل وطن.
تعد المشاركة في إعداد النظام الانتخابي في الحوار الوطني عملية معقدة، إذ يدرك جميع أطراف الحوار بمن فيهم مجلس أمناء الحوار ذاته، أن حائط السد، بل والصد المنيع لمقترحاته في نهاية المطاف هو مجلس النواب، الذي تصبح أي رغبة خارجية في تغيير النظام الانتخابي له محل شك كبير، في ظل وجود نواب نصفهم من المنتخبين على أسلوب القوائم المطلقة، التي عينتهم (وذويهم حال وفاتهم) في البرلمان، بكل ما تعنيه كلمة تعيين من معان. صحيح أن البعض يعتبر أن نظام 30 يونيو قوي إلى الدرجة التي يتفوق فيها على أي رغبات آنية لنواب برلمان، ما فتئ أن خضع لهذا النظام كلية خلال العقد الماضي، وسار في ركابه وفق قاعدة الخلل البين في العلاقة بين السلطة التنفيذية، والتشريعية الذي يحكمه الواقع قبل الدستور، إلا أن هذا النظام لا يمكن له بأي حال وهو في حالة الضعف الاقتصادي والاجتماعي الراهن، ناهيك عن حاجته الشديدة للنواب؛ لدفع الناس بالمحليات للمشاركة في انتخابات الرئاسة القادمة، أن ينكر أو يتجاهل رغبات النواب، وحقهم في تعديل كل ما جاء في مقترحات الحوار، حتى لا يفقدوا مكانتهم النيابية المتعلقة بشكل رئيس بالحصانة البرلمانية، وكلها أمور ترتبط أحيانا بمصالح اقتصادية واجتماعية لا مجال للخوض فيها.
سجال انتهى إلى دعم تزوير إرادة الناخبين
وفي خضم تفاصيل السجال بين المتنازعين، كانت ورقة الكوتات الدستورية الست، هي الحصان الأسود للفوز، بل وتعاطف الكثيرون في الحوار مع وجهه نظر أحزاب الموالاة. فمن خلال تأكيد الحوار على عدم المساس بالدستور هناك إصرار، بل وتعمد على الاقتناع، بأنه لا مفر من القائمة المطلقة بتمثيل الكوتات الدستورية.
بالمقابل، كان هناك رأي مقابل بأن الكوتات الدستورية يمكن أن تمثل بالشكل الوارد في الدستور، مع النظام النسبي على مستوى كافة أعضاء مجلس النواب. وعلى الرغم من أن جلستي الحوار الخاصة التي عقدت في 25 يوليو الماضي، قد حضرها خبراء دستوريون، إلا ألا أحدا بمن فيهم منسق المحور السياسي استطاع أن يقوم بعرض مقترح النظام النسبي بنسبة 100%، مفصلا على الخبراء الدستوريين الحاضرين؛ كي يقولوا رأيهم!!!
الأمر الثاني، رصدت الأحزاب الداعمة للقائمة المطلقة أفكارًا، بأن هذا الأسلوب رغم الإقرار بأن 4 نظم انتخابية فقط حول العالم تعمل به، إلا أنه نظام يدعم الأحزاب، ويقوى من وجودها في الشارع، بل أنه يدعم المشاركة في الاقتراع، ويحد من تفتيت الأصوات كما يحدث في القائمة النسبية.
بالمقابل، رأى أنصار القائمة النسبية، أن أسلوب القائمة المطلقة ينتمي إلى النظام الأغلبي، وهو نظام يستبعد 49% من الأصوات لصالح من حصل على 51% منها. وبذلك هو يعد تزوير بالجملة لإرادة الناخبين، وهو على هذا النحو يحد من المشاركة، إذ كيف يرى الناخب أن صوته سيوجه إلى قائمة أخرى لم ينتخبها، ثم يتحمس ويحمس ذويه للتصويت!! لذلك فإن نظام القائمة النسبية، وإن قسم الأصوات بين القوائم وترجمها الى مقاعد، إلا أنه ساهم في تمثيل الجميع في البرلمان بشكل عادل ومتوازن يتوافق مع الأصوات التي حصلت عليها القوائم.
إضافة إلى كل ما سبق، فإنه عندما أثارت بعض الأحزاب والخبراء مقولات، أن الكوتات الدستورية مجرد شماعة تعلق بعض الأحزاب عليها خيبة عدم الشعبية، وأنها تشبه التعيين المقنع أو التزكية، ودللوا على ذلك، بأن انتخابات مجلس الشيوخ تأخذ في جزء منها بالقوائم المطلقة، رغم أن الدستور قد خلا من تمثيل الكوتات في هذا المجلس. تجاوز أنصار القوائم المطلقة عن الرد، وأصر هؤلاء على أن القوائم المطلقة تساهم في تنمية الحياة النيابية، واستقرار البرلمان على عكس القوائم النسبية المهددة بالعوار الدستوري. وقد جاء هذا الموقف على الرغم من أن نظام القوائم المطلقة هو من حُكم بعدم دستوريته ثلاث مرات، إحداها في انتخابات مجلس الشورى عام 1989، وهنا حل المجلس وتحول الانتخاب للأسلوب الفردي، ومرتان إبان انتخابات المحليات، إحداهما عام 1988 والأخرى عام 1996. وعلى العكس لم يكن حل مجلس القوائم النسبية في عام 1984 إلا بدعوى عدم المساواة بين الحزبيين والمستقلين لصالح الأحزاب، في وقت كانت نشأة الأحزاب السياسية فيه شديدة التقيد بقانون 40 لسنة 1977.
البرلمان القادم حمائم بلا صقور
ولعل الغريب في الأمر، أنه كان من المنتظر بعد تلك السجالات أن تعود الأحزاب للتشاور مع من هم داخلها وخارجها، قبل أن تقول كلمتها الأخيرة؛ بشأن التوافق على نظام بين كافة الفرقاء، لكن تفاجأ الجميع أن الحوار الوطني أعلن أن الأمر حسم، دونما حاجة لاجتماع خامس، وأن الوضع انتهى إلى 3 آراء، سترفع لرئيس الجمهورية بعد ضبط الصياغة على النحو التالي: – الرأي الأول، الإبقاء على النظام الحالي بانتخاب 50% من أعضاء مجلسي النواب، والشيوخ عبر نظام القائمة المطلقة المغلقة على 4 دوائر بالجمهورية، والباقي بالأسلوب الفردي. والرأي الثاني، يتم انتخاب كل الأعضاء بنظام القوائم النسبية غير المنقوصة عبر 15 دائرة على مستوى الجمهورية. أما الرأي الثالث، فهو انتخاب 50% من الأعضاء بالنظام الفردي، كما هو قائم، و25% بأسلوب القائمة المطلقة، و25% بأسلوب القوائم النسبية.
وهكذا سيتم إبلاغ الرئيس عمليا، بأن الحوار فشل في حسم أهم وأول نقطة فيه كما يقول د. جودة عبد الخالق عضو مجلس الأمناء. ومن ثم فإن على الرئيس أن يختار هو النظام الانتخابي، لأن المجتمعين عجزوا أن يختاروا، رغم أن الجميع كان على علم بأن حجج أسلوب القائمة المطلقة واهية، وأن خلفها الرغبة في بقاء برلمان تمريري، نابع من معادلة منح الحصانة البرلمانية، مقابل تمرير ما يطلب من البرلمان تمريره، مع بقاء الرقابة البرلمانية في أضيق صورها عبر وسيلتي السؤال وطلب الإحاطة، ودون الاستجواب وتقصى الحقائق ومن باب أولى إجراءات المسئولية الوزارية. ولن يكن تمثيل الأحزاب به إلا مجرد شكل. فاليوم يوجد بمجلس النواب 13 حزبًا، إضافة إلى المستقلين، مثل 68.4% منهم من أحزاب مستقبل وطن والشعب وحماة وطن، وهي أحزاب يعرف القاصي والداني طريقة نشأتها وأسباب بقائها. أما باقي الأحزاب، فباستثناء الوفد تراوح تمثيلها بين 2 و9 ممثلين. والأرجح أن البرلمان القادم سيكون على ذات الشاكلة.
هنا يصبح السؤال الجوهري، هل ساهم الحوار الوطني في حدوث تغيير في شكل أوحى ملامح النظام السياسي، وهو الهدف الرئيس منه، ومن دعوة الرئيس لهذا الحوار، خاصة وإنه ربما يتم الإبقاء على الوضع القائم في الانتخابات القادمة (الخيار الأول)، من زاوية أنه نظام انتخابي معروف ومجرب، ولا داعٍ للخوض فيما هو جديد، وهي ثقافة مصرية معروفة. إذا كان الأمر كذلك، أو كان الخيار الثالث، الجامع بين كل النظم، فإن الوضع بالتأكيد سيكون الإبقاء على حالة الوهن الهيكلية في علاقة السلطتين التنفيذية والتشريعية على النحو الذي كانت عليه، منذ نشأة التعددية الحزبية الثالثة في 11 نوفمبر 1976، من حيث وجود برلمان مُهيمن عليه من السلطة التنفيذية. برلمان بلا صلاحيات واقعية، وإن امتلك بعض الصلاحيات الدستورية.