في بلد مثل مصر مأزوم اقتصاديا ويعاني من مشكلات سياسية واجتماعية عميقة، بدا مدهشا انشغال الدولة بتفاصيل تتصور أنها حلول للمشاكل، في حين أنها أشبه بمن قرر أن يسير في عكس الاتجاه الصحيح.
ولكي نعرف حقيقة الوضع الاقتصادي، مطلوب التذكير بمجموعة من الأرقام التي تاهت أمام ركام الحديث عن المؤامرات الكونية وعن الإنجازات غير المسبوقة.
لقد أقترب الدين الخارجي في مصر من 170 مليار دولار ومطلوب أن يسدد منه هذا العام حوالي 9 ونصف مليار دولار وهي عبارة عن 3 مليار فوائد ديون + 6 ونصف مليار دولار أقساط ديون مستحقة، كما أنها ستكون مطالبه العام المقبل بسداد حوالي 28 مليار دولار (5.5 مليار فوائد ديون + 22.5 مليار أقساط ديون) أي بمعدل 2.3 مليار دولار كل شهر.
والمؤكد أن عبء وخدمات الدين باتت حملا ثقيلا لا يمكن لمصر ولا أي بلد أن تتحمله إلا بمراجعة جذرية للسياسات التي أدت إلى هذه الأزمة، وعلى رأسها الإنفاق غير المسبوق ولا المقبول على الانشاءات والكباري والمحاور والمشاريع غير المنتجة، التي مثلت هدرا صارخا للمال العام ولا زالت الدولة “تبدر” كل يوم كباري في كل تقاطع حتى لو لم تكن هناك أي حاجة مرورية له، وتعيد رصف 400 كيلو ذهاب وإياب في طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي وتصرف عليه مليارات الجنيهات رغم أن حالته كانت جيدة ولا يمثل إعادة رصفه أي أولوية. وامتد مجال الصرف في غير محلة إلى ما عرف بتطوير الحدائق من المنتزه إلى القلعة حتى حديقة الحيوان واختارت الدولة أن تعبث بالمقابر لصالح توسيع طريق وبناء محور، كما امتد التشوية إلى المساجد والمقامات الأثرية مثل ماجرى في مسجد السيدة نفيسة الذي أجمع تقريبا رجال الآثار وخبراء العمارة على أن ماجرى فيه من “تطوير” كارثة معمارية مكتملة الأركان، بل أن تقرير اللجنة التي شكلتها الحكومة لتقييم وضع مقابر الإمام الشافعي والسيدة نفيسة وانتهي في توصيته بعدم هدم مزيد من المقابر، وإن المحور الذي تنوي الدولة إقامته لا يوجد احتياج مروري له ومع ذلك لم تأخذ بما أوصت به اللجنة وقررت استكمال مسلسل هدم المقابر والمقامات.
كما توالت القروض التي وافق عليها البرلمان في لمح البصر من أجل إنشاء القطار السريع والكهربائي واستكمال المونوريل ولم يهتم أحد بتأجيل هذه المشارع أو التوقف النهائي عن كثير منها لنقص العملة الصعبة أو لعدم أولوياتها.
ولا زال العمل يجري على قدم وساق من أجل نقل الوزارات والموظفين في أقرب فرصة إلى العاصمة الإدارية مهما كانت الكلفة المالية، ودون أي تفكير في مراجعة هذه الخطوة أو تأجيلها وفق حسابات الرشادة الاقتصادية.
طبيعي أن تكون الخطوة الأولي التي تقدم عليها الدولة هي مراجعة هذه السياسات الخاطئة والأولويات المعكوسة والتوقف الفوري عن الإنشاءات الجديدة وتجميد أي مشروع غير منتج وتخارج شركات الدولة من الاقتصاد وخلق بيئة جاذبة (وليست طاردة) للاستثمار المحلي والأجنبي المنتج.
والغريب لم تُقدم الدولة على هذه البديهيات التي تمثل أول طريق الخروج من الأزمة فإنشاء الكباري والمحاور والمنوريل واستكمال العلمين والعاصمة لا زال العمل فيهم يجري دون أي تغيير أو مراجعة، في حين اخترعت الدولة إجراءات لاستعاده جانب من “الأموال الساخنة” فقررت إصدار شهادة دولارية “الأهلي بلس” مدتها 3 سنوات بعائد سنوي 7٪ يصرف ربع سنويا بالدولار، وهو أعلى من عائد شهادات أذون الخزانة الأمريكية، ويمثل تسديده عبئا جديدا على الدولة وليس حلا، إنما ترحيل شهري وليس حتى سنوي لأزمة نقص الدولار.
كما ابتكرت الدولة حلا جديدا وغير مسبوق أعلنت فيه استهدافها للمصريين في الخارج بإصدار “وثيقة المعاش” بالدولار للأشخاص من عمر 18 حتى 59 سنة، بحد أدنى لعمر الوثيقة 5 سنوات، على أن يتم صرف المعاش إما دفعة واحدة وإما من خلال معاش شهري ثابت لمدة 10 أو 15 عاما، في محاولة لاستعادة جانب من تحويلات المصريين في الخارج بعد تناقصها، وهو حل لم تقدم عليه أي دولة أخرى في العالم ولا تبدو هناك مؤشرات على نجاحه أو نجاعته.
وأخيرا قررت الدولة فتح باب التسجيل على مواقع وزارة الخارجية للمصريين المقيمين في الخارج ممن حل عليهم الدور في سن التجنيد اعتبارًا من عمر 19 وحتى 30 سنة، وكذلك لمن تجاوزوا 30 سنة لتسوية موقفهم التجنيدي في مقابل دفع مبلغ 5 آلاف دولار!!.
وقبل هذه الخطوات كانت الدولة قررت أن من حق المصري في الخارج استيراد سيارة خاصة لاستعماله الشخصي معفاة من الرسوم الجمركية التي كان يتعين دفعها للإفراج عن السيارة، مقابل وديعة بالعملة الأجنبية بقيمة تلك الرسوم لمدة 5 سنوات، وهي الخطوة التي لم تلق استجابة كبيرة من المصريين في الخارج.
الشيء اللافت أن كل هذه الحلول التي راهنت عليها الدولة لا تحمي جهد رجل الصناعة ولا عرق رجل الزراعة، ولا علم رجل الاقتصاد، ولا تمثل أي مراجعة للسياسات الحالية ولا جهد لتغيير ثقافة اللقطة والصورة التي باتت أهم من المضمون، فكل هذه “الحلول” ليست حلولا في واقع الأمر، إنما بحث عن أنشطة غير منتجة وسهلة يتصور البعض أنها ستحل مشاكلنا.
صادم ألا تفكر الدولة في تعظيم مواردها الإنتاجية، وأن تتوقف فورا عن كل المشاريع غير المنتجة، إنما تبحث عن حلول سهلة من جيوب المصريين في الخارج وتبتكر “حلول” ليست حلول وتستمر في نفس السياسات رغم تفاقم الأوضاع الاقتصادية ووصولها لمرحلة الخطر.