في مصر، بدأ يعلو صوت بعض الشخصيات والأحزاب السياسية عن حاجة الدولة المصرية إلى الإصلاح، والتغيير متمثّلان في فتح المجال أمام التعدد السياسي، والفصل بين السلطات، والتداول السلمي للسُلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة، وبرلمان غير مُهندس أمنيًا، يُعبّر عن مصالح الفئات المختلفة، مع إطلاق سراح المعتقلين سياسيًا، سواء من حُبسوا عبر آلية الحبس الاحتياطي، أو عبر التدوير بأحكام قضائية.
وبينما ظهرت تلك المطالب في إطار انسداد الأفق السياسي، والاقتصادي الذي طال مصر مؤخرًا، وما جرى فيها من تجريف للحياة السياسية، وإهدار للموارد خلال السنوات الأخيرة، ما أوصلها لمرحلة عدم اليقين ومخاوف عدم الاستقرار، فإن الحاجة لفهم السياق والمحيط الإقليمي الحالي يصبح ضروريًا، ضمن الصورة الأكبر للتفاعلات الداخلية المصرية وعلاقتها بالعالم الخارجي.
كان ذلك درسًا من الفترة بين 2011 و2013، حين لعبت التفاعلات الإقليمية دورًا مؤثرًا في القضاء، على المسار الديمقراطي المصري الوليد جنبًا إلى جنب مع أخطاء الفاعلين المحليين من القوى السياسية المختلفة، وارتباطات وتشبيكات “الدولة العميقة” مع محيطها الإقليمي.
وبالتالي، فإن أي حديث عن إصلاح سياسي مصري، أو تحوّل نحو الديمقراطية -يراها البعض بحاجة، لأن تكون متدرجة- يحتاج لنظرة على السياق السياسي الإقليمي والدولي، من أجل تلافي العقبات.
نظام إقليمي “أكثر استبدادًا”
من هذا المنطلق، شهدت السنوات العشر الماضية بالشرق الأوسط ثلاثة اتجاهات متوازية ومتقاطعة. أولاً: أعاقت النخب الراسخة والجيوش جهود إرساء الديمقراطية. ثانيًا: تتعاون الأنظمة الاستبدادية بشكل متزايد في الحفاظ على الوضع الراهن على الرغم من خصوماتها الشرسة، فيما بينها في كثير من الأحيان. ثالثًا: لدى القوى العظمى الخارجية الآن حافز أكبر للحفاظ على الأنظمة غير الديمقراطية.
كان ذلك خلاصة ما توصل إليه حميد رضا عزيزي، الباحث في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية في برلين، في عرضه المنشور بمجلة “ناشيونال إنترست” الأمريكية. ويشير عزيزي إلى سلسلة التحولات الدبلوماسية، والتطورات السياسية الأخيرة في الشرق الأوسط، باعتبارها تُنذر بظهور نظام إقليمي استبدادي.
إذ كانت المصالحات الإقليمية الأخيرة مؤشرًا على ذلك، سواء اتفاق استعادة العلاقات بين السعودية وإيران، أو تصالح الأخيرة مع الإمارات قبلها، أو عودة سوريا لجامعة الدول العربية، وإنهاء الحصار على قطر، والمصالحات التركية مع مصر والسعودية والإمارات.
ويرى الباحث المعني بشؤون الشرق الأوسط، أن امتناع الرياض خلال احتجاجات إيران عام 2022، عن الدعم الصريح للمتظاهرين، كان قرارًا متأثرًا، بقلقها من تأثير الدومينو المحتمل؛ لتغيير النظام في إيران. وهذا الامتناع الواعي عن التدخل المباشر ضد منافستها، كان بمثابة تحول ملحوظ في نهج الرياض، مما ساهم في النهاية في تحسين العلاقات الثنائية برعاية صينية.
وتنظر طهران والرياض إلى بكين كوسيط فعّال على وجه التحديد، لأنها تشترك في شكل حكومي غير ديمقراطي، وغير مهتمة بقيم شركائها، وشراكاتها. وبالتالي، فإن الاستبداد ليس فقط صفة مميزة للفاعلين الإقليميين، بل يمتد أيضًا إلى القوى الخارجية القادرة على التأثير في الاتجاهات الإقليمية.
“تعتمد الأنظمة الاستبدادية على بعضها البعض من خلال المصالحة الإقليمية، وهو نهج يمكن أن يعزز الاستقرار، ويعزل الحكومات عن المعارضة الداخلية”، يلفت عزيزي.
وأخيرًا، يلوح في الأفق التوسيع المحتمل لاتفاقات إبراهيم، حيث تدرس السعودية الانضمام إلى الإمارات والبحرين، والمغرب في تطبيع العلاقات مع إسرائيل. “معنى هذه التطورات واضح. شهد عام 2023، طفرة في توطيد النظام الاستبدادي، وتحولًا نحو المصالحة الإقليمية، وقبولًا براجماتيًا للواقع الجيوسياسي من قبل جهات فاعلة إقليمية مختلفة”.
وبناء على ذلك، فإن الانتعاش الأخير في التعاون والتفاهم بين الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط يمثل خروجًا كبيرًا، عن الأعراف السابقة. ويتأثر هذا التحول بشكل أساسي بتغييرين أساسيين في المشهد العالمي، بحسب رضا: الأولويات الانعزالية المتزايدة للقوى الغربية -الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة- والنفوذ المتزايد للقوى “غير الديمقراطية” مثل، الصين وروسيا.
وفي خضم الحرب في أوكرانيا، سعت الدول الأوروبية إلى تأمين احتياجاتها من الطاقة، من خلال اللجوء إلى الممالك البترولية في العالم العربي كبديل لروسيا. وهم بذلك يتجاهلون سجلات حقوق الإنسان السيئة، كما يقول الباحث.
وأوقفت الولايات المتحدة انتقاداتها للسلوك المحلي السعودي، وسعت بدلاً من ذلك إلى إقناع الرياض، بإعادة النظر في علاقاتها مع روسيا والصين. وفي الوقت نفسه، فإن النفوذ المتزايد للصين وروسيا قدم بديلاً لأنظمة الشرق الأوسط، من دون عوائق بشروط مسبقة تتعلق بحقوق الإنسان أو الممارسات الديمقراطية.
وهو ما أتاح الفرصة للحكومات الإقليمية؛ لتعزيز أنظمتها الاستبدادية، بينما لا تزال تتمتع بعلاقات اقتصادية وسياسية مفيدة. وتكتسب ثقة أكبر للتصرف كما يحلو لها.
يوضح الباحث الإيراني “، يسمح هذا الوضع للقوى الإقليمية بالمناورة للوصول إلى موقعها الأمثل، وتأمين أقصى الفوائد مع تعزيز شكل الحكم المفضل لديها. فقد أعطى هذا المشهد الجيوسياسي المتطور للقوى الإقليمية مساحة أكبر للمناورة، وترسيخ ممارساتها الاستبدادية، مما يسلط الضوء على العلاقة بين تحولات القوة العالمية، والديناميكيات السياسية الإقليمية”.
حقبة جديدة من “الاستقرار الاستبدادي”؟
أدت هذه التفاهمات المتبادلة بين مختلف الفاعلين الإقليميين؛ لتطبيع علاقاتهم واستقرارها. كما أدى إلى إخماد النزاعات والخلافات الإقليمية، ما يُمكّن من الشروع في حقبة جديدة من “الاستقرار الاستبدادي”.
“من سمات هذا النظام الناشئ، الفهم الضمني بين الحكومات الاستبدادية الإقليمية، أن هناك ميزة لعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض. هذا الفهم مدفوع جزئيًا بالخوف من تأثير الدومينو في حالة سقوط نظام ما. ومن ناحية أخرى من خلال مصالح القوى الخارجية في الحفاظ على الوضع الراهن. وبالتالي، أصبحت فكرة تغيير النظام الاستبدادي مفهومًا غير مستساغ في المنطقة”، وفق تحليل المجلة الأمريكية.
ويضرب الباحث عزيزي مثلاً، أسماه بـ”السلام الاستبدادي” في مقارنة مع نظرية “السلام الديمقراطي” التي تفترض أن الدول الديمقراطية أقل عرضة للانخراط في نزاع مسلح مع بعضها البعض. بينما في الأول فإن الأنظمة الاستبدادية تُظهر مستوى عالٍ من التفاهم المتبادل، وبالتالي فهي تميل أكثر إلى حل نزاعاتها سلميًا.
ولهذا “من المرجح أن تواجه أي حركات معارضة شعبية ناشئة تحديات أكثر أهمية في الدعوة إلى الإصلاح. بالنظر إلى ترسيخ “وترسخ” الأنظمة الاستبدادية وندرة الدعم الخارجي، يمكن قمع مثل هذه الحركات بقوة أكبر مما كانت عليه في الماضي”.
علاوة على ذلك، “حتى لو نجحت هذه الحركات، فإنها ستجد نفسها في بيئة دولية مليئة بالتحديات، مثل قارب نجاة ديمقراطي محاط ببحر من الأنظمة الاستبدادية التي ترى أن بقاءه يهددها. قد يؤدي هذا الظرف الغريب إلى وضع يؤدي فيه التحول الديمقراطي إلى مزيد من عدم الاستقرار”.
وفي هذا الإطار، فإن الولايات المتحدة والدول الغربية تواجه خيارات محدودة، مع تعزيز تعامل دول المنطقة مع الصين وروسيا، ومن هذا المنطلق، سوف تتخلى عن دعواتها الديمقراطية والحقوقية لصالح منافعها البراجماتية.
الحفاظ على الاستقرار مشكوك فيه
في مقاله على مجلة “فورين أفيرز“، يرى جوست هيلترمان، مدير برامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمجموعة الأزمات الدولية، ومقرها بروكسل، أن التحولات الأخيرة في المنطقة من اتفاقات تطبيع مختلفة بين الدول وبعضها البعض ربما تكون “سرابًا”.
ويقول، إن كثيرا من العوامل الكامنة خلف صراعات المنطقة تبقى إلى حد كبير دون معالجة، مثل المناظرة القائمة بشأن دور الإسلام والإسلاميين في الحكم؛ والعداء طويل الأمد بين إيران وإسرائيل، وبعض الدول العربية؛ والصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، الذي يواجه جولة جديدة وسط صعود حكومة إسرائيلية من أقصى اليمين.
بجانب “الافتقار المدمِّر للحكم الفعال في المنطقة”، الذي تعززه إعادة فرض الحكم الاستبدادي في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك في تونس. في الواقع، فإن “تطبيع العلاقات بين مختلف الحكومات قد أدى إلى ترسيخ بعض هذه المشكلات”.
لكنه يوضح، أنه من منظور منع الصراعات، فإن عودة الشرق الأوسط إلى الدبلوماسية والتطبيع يوفر مزايا لا ريب فيها. فوجود خطوط اتصال ودبلوماسية نشطة أمر حيوي، حتى لو لم تشمل تلك القنوات المتحاربين المباشرين.
أما ما إذا كان لكل هذا الكلام أن يساعد في معالجة القوى الأعمق المسببة للصراع في المنطقة، فإنه “أمر غير مؤكد”، بحسب هيلترمان. إذ تمثل المناظرة القديمة الحديثة؛ بشأن دور الإسلام في الحكم، ولا سيما في شكله الأكثر تنظيمًا، الإخوان المسلمين، إحدى هذه القوى الدافعة، الأمر الذي يؤدي إلى حالات متكررة من عدم الاستقرار، والتوتر في بلدان مثل، مصر وبين قطر والإمارات، على نحو خاص.
ويضيف: “ما يجعل الأمور أكثر تعقيدًا، هو أن المسألة الإسلامية تكتنفها، وتعيد صياغتها اختلافات إثنية وطائفية، وأيضًا تطلعات بعض الدول إلى الهيمنة الإقليمية… ورغم أنه من غير المرجح أن يستلم الإسلاميون السلطة في أي مكان قريبًا، فإن الدعم الشعبي الذي ما يزالون يتمتعون به في جميع أنحاء المنطقة، وقدرتهم التنظيمية الكبيرة مدعاة قلق إماراتي دائم”.
وفيما يتعلق باتفاقات إبراهيم التطبيعية مع إسرائيل، فلا تزال تكتنفها قيود كبيرة. فرغم أنها تمثل تغيرًا مهمًا في التحالفات الإقليمية، فإنها تركت كثيرًا من القوى الكامنة خلف الصراعات، ولا سيما فيما يتعلق بالاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، دون معالجة، بل إنها “أصبحت أكثر رسوخًا”.
“بالنسبة لأولئك في واشنطن الذين يعتقدون أن علاقات التطبيع بين السعودية، وإسرائيل من شأنها أن تفضي إلى تحقيق تقدم في الوضع الفلسطيني، فإن الأمر يستحق النظر إلى نتائج الاتفاقات القائمة”، يلفت الباحث والناشط الهولندي هيلترمان.
أسباب الانتفاضات لا تزال دون علاج
لكن الأمر الأكثر أهمية، هو أن موجات تطبيع العلاقات في الشرق الأوسط من غير المرجح أن تساعد شعوب المنطقة التي تعاني. إذ إن أعمق الأسباب الدافعة للصراع لا علاقة كبيرة له بدبلوماسية النخبة، ولكن لها علاقة بكيفية إدارة الدول منفردة لاقتصاداتها وكيفية حكمها لمجتمعاتها.
في المحصلة، كان انتهاك الكرامة والغضب الشعبي حيال النخب الحاكمة -محسوبيتها، وعدم قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية بشكل يمكن الاعتماد عليه وسط شد الأحزمة على البطون، وتوزيع الدعم على أولئك الذين يحتاجونه أكثر من غيرهم- هي التي أخرجت الناس إلى الشوارع خلال ثورات عام 2011، وأنتجت صرخة مشتركة تطالب بتحقيق العدالة الاجتماعية.
ووفق هيلترمان، فإن بعض البلدان التي تمكنت من تفادي الاضطرابات آنذاك -مثل الجزائر ولبنان والعراق والسودان- مرت بتجربة مماثلة بعد ذلك بثماني سنوات، وشهدت إيران موجة خاصة بها العام الماضي.
ومع ذلك، فإن الأنظمة التي تمكنت من تجاوز عاصفة الغضب الشعبي -مثل مصر وسوريا والجزائر، وربما تونس- أعادت تشكيل أنفسها كدول “شرسة”؛ أي أنها ضعيفة داخليًا لكنها توجه الحد الأقصى من الموارد إلى ضبط شعوبها من خلال الأعمال الشرطية، وتعزيز المراقبة والضوابط الاجتماعية.
وقد أظهرت العقود الماضية، أن الدول المفرطة في قمعها تظهر قدرتها على البقاء لبعض الوقت، إلا أن عدم قدرتها المتنامية على التكيف مع الضغوط الاجتماعية، والاقتصادية المتراكمة تصل إلى نهايتها في المحصلة.
تقدم تقارير التنمية البشرية العربية الصادرة عن الأمم المتحدة تبصرات ثاقبة. إذ حذرت مع بدايات الألفية الثانية من أن نظام الدولة العربية المتأخر في مجال التنمية البشرية مع جميع مشكلاته الاجتماعية، والاقتصادية الأخرى أمر غير مستدام، وتنبأت بالانتفاضات بعد عدة سنوات.
لكن اليوم باتت التحديات أسوأ. إذ إن الشرق الأوسط يواجه تأثيرات الحروب، وجائحة كوفيد-19، ونموا سكانيا سريعا، وبطالة شباب واسعة الانتشار، وموجة تمدد للمدن غير منضبطة، ناهيك عن التغير المناخي، والانتقال الناشئ إلى الطاقة النظيفة.
“ما من دولة في المنطقة قادرة الآن على مواجهة هذه القضايا بجدية”، يقول هيلترمان:
حتى لو لم يخرج الناس مرة أخرى إلى الشوارع بأعداد كبيرة -والحديث لا يزال للباحث- فإن الضغوط الشعبية من أجل تحسين طريقة الإدارة، والحكم ستستمر في التفاعل. وهذا قد يدفع الأنظمة الاستبدادية إلى تقدير، أن تنظيم بيوتها الداخلية قد يسمح لها بمواجهة التحديات الأصعب التي يستمر “اللانظام العالمي” في رميها عليها. والسؤال هو: هل ستغتنم الفرصة؟
يرى الباحث المخضرم في تاريخ الشرق الأوسط، روبرت كابلان، بعد مراجعة لتاريخ المنطقة تحت حكم الإمبراطوريات والإمبرياليات، وما جلبته من مشاكل كامنة وعميقة، أنه سواء كانت الدولة ديمقراطية أم لا، فإن ما تبحث عنه الشعوب العربية هو الكرامة والحماية من الذل واليأس.
وهنا يمكن لطريقة إدارة السُلطة الأكثر تشاورية -ضرب مثلاً بالإصلاحات في الملكيات التقليدية في المغرب وسلطنة عُمان- أن تشق طريقًا وسطًا. وفي هذا الاتجاه، قد يكمن أفضل أمل في استمرار التطور في الشرق الأوسط.