وفقا للأعراف السياسية، فإن نصف ثورة أو نصف انقلاب، يستتبعه قطع رقاب، وهو الأمر الذي ربما تغافل عنه مؤسس مجموعة فاجنر، يفجيني بريجوجين، وهو ينهي التمرد الذي قاده ضد الجيش الروسي في يونيو الماضي، خلال أقل من 24 ساعة، دون أن يحقق أهدافه الرئيسية، واثقا في ضمانات رئيس بيلا روسيا ألكساندر لوكاشينكو، ووعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بالخروج الآمن.

بشكل درامي وعلى طريقة أفلام هوليود، أسدل الستار على حياة رئيس ومؤسس مجموعة فاجنر صاحبة التاريخ الدراماتيكي ، بعد سقوط طائرة، كان على متنها شمال العاصمة موسكو، كانت في رحلة لم تكتمل إلى سان بطرسبرج. ليلقى زعيمها حتفه ومعه نائبه في حدث لا يقل دراماتيكية عن مسار المجموعة الحافل بالإثارة.

وبدا خلال الانقلاب غير المكتمل، أن زعيم فاجنر، المعروف بـ”طباخ بوتين”،  لم يكن يقصد الرئيس الروسي بتمرده، بقدر ما كان يقصد قيادة الجيش، ممثلة في وزير الدفاع سيرجي شويجو، ورئيس الأركان قائد العملية العسكرية في أوكرانيا ڤاليري جراسيموڤ، وهو ما يفسر إنهاء التمرد خلال 24 ساعة فقط، لكن الأمر بالنسبة للرئيس الروسي لم يمر مرور الكرام، خاصة بعدما تسبب في حرج بالغ له، سواء داخليا عندما اتجهت قوات فاجنر نحو العاصمة موسكو، وخارجيا على مستوى الحرب في أوكرانيا، إذ سمح لأعدائه في الغرب برؤيته ضعيفا متراجعا، بعد ما أعلن زعيم فاجنر، أنه استولى من “دون إطلاق رصاصة واحدة” على مقر الجيش الروسي في مدينة  روستوف أون حيث مركز قيادة العمليات التي تستهدف أوكرانيا.

أصبح الملياردير البالغ من العمر 62 عاما، دون أن يقصد عدواً لبوتين، عندما قاده تهوره إلى تجاوز خط اللاعودة بهز هيبة سيّد الكرملين.

وفي 24 يونيو/حزيران، وهو اليوم التالي لبدء تمرد فاجنر، أدان بوتين “خيانة” يفجيني التي عزاها إلى “الطموحات المفرطة والمصالح الشخصية”.

صراع بريجوجين مع شويجو وجراسيموڤ

قبيل تمرد فاجنر الأخير، خلق بريجوجين معضلة لبوتين، عندما أصبح منتقدًا صريحًا لقادة روسيا العسكريين، ففي مايو/ أيار الماضي، أعلن أن قواته ستنسحب من مدينة باخموت الشرقية الأوكرانية المحاصرة، بعد أن اشتكى لأكثر من شهر من عدم تلقي الدعم الكافي من الكرملين في القتال الشاق بالمدينة.

وقبلها، وعلى مدى عدة أشهر، كان بريجوجين ينتقد القيادة العليا الروسية لـ “سوء إدارتها” للحرب في أوكرانيا، متهما وزير الدفاع بعدم الكفاءة.

انتقادات بريجوجين، لم تتوقف عند وزير الدفاع فقط، بل طالت أيضا قائد الجيش الچنرال ڤاليري جراسيموڤ، الذي ظل طيلة العام الأول للحرب في منأى عن الانتقادات، قبل أن يقوم بوتين بإنزاله درجة؛ ليلقي به في مسرح الحرب باعتباره آخر الرهانات.

نزول جراسيموڤ إلى مسرح الحرب، جعله في مواجهة عدو، يشكل خطرا على مستقبله أكثر من الجيش الأوكراني، وهو بريجوجين  الذي يحاول تحقيق مجد شخصي على حساب سمعة الجيش الروسي بقيادة جراسيموڤ، الذي بات القائد المباشر للعملية العسكرية في أوكرانيا بعد قرار بوتين .

تحقيق فاجنر لتقدم نسبي في عدد من المناطق الأوكرانية، قبل عملية التمرد، جعل جراسيموف في خشية من أن يخرج مهزوماً معنوياً أمام مسجون سابق، رغم أنه قائد لثاني أكبر جيش في العالم لأكثر من عشرة أعوام، وهو ما خلق عداء بين الرجلين خلال الفترة التي سبقت الانقلاب غير المكتمل.

وكان بريجوجين قد أمضى تسع سنوات في السجن في الحقبة السوفيتية؛ لارتكابه جرائم، وخرج من السجن عام 1990، عندما كان الاتحاد السوفيتي على شفير الانهيار، وأسس شركة ناجحة لبيع النقانق، قبل أن يؤسس أفخم مطاعم سان بطرسبرج، ويعمل على توريد بالطعام لقصر الكرملين “مقر الحكم الروسي” ليلقب بـ” طاهي الرئيس”.

سيناريوهات نهاية بريجوجين

في هذا الإطار، يرى الدكتور سيد غنيم، الخبير العسكري البارز، والأستاذ الزائر بالناتو، أن هناك احتمالين؛ بشأن الحادث الذي أودى بحياة زعيم فاجنر، الاحتمال الأول يتمثل، في أنه “تم ضرب الطائرة بأوامر من بوتين، صدرت لوزير الدفاع سيرجي شويجو، أو رئيس الأركان قائد العملية العسكرية في أوكرانيا ڤاليري جراسيموڤ”، لافتا إلى، أن ما يؤيد هذا الاحتمال هو تزايد مخاطر بريجوجين على بوتين نفسه.

أما التصور الثاني، من وجهة نظر الخبير الاستراتيجي، فيتمثل في أن يكون تم ضرب الطائرة بأوامر من جراسيموڤ، دون علم بوتين أو بإعلامه، والضغط عليه أو إقناعه بالموافقة، لافتا إلى أن ما قد يؤيد هذا التصور بدوره هو” أن تمرد بريجوجين في الأساس كان ضد جراسيموڤ وشويجو، وكان شرط توقفه عن التمرد عزلهما الفوري”.

ويشير سير الأحداث في أعقاب الانقلاب غير المكتمل، أن بوتين أسر الأمر في نفسه، منتظرا التوقيت المناسب، لمعاقبة بريجوجين على فعلته، وإعادة ترتيب البيت من الداخل، لتأمين ظهر قواته المقاتلة في أوكرانيا، وهي الخطوة التي جاءت بإخراج قوات فاجنر إلى بيلا روسيا بعد تجريدها من سلاحها الثقيل .

مصير فاجنر

ما أن تم التأكد من مقتل زعيم ومؤسس فاجنر، ونائبه ديميتري أوتكين، على متن الطائرة التي سقطت شمال موسكو، بات هناك تساؤل رئيسي يفرض نفسه على المشهد، يتعلق بمستقبل ومصير الشركة التي ينشط المرتزقة التابعون لها، في حروب بإفريقيا في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى وموزمبيق وليبيا، مقابل منحهم امتيازات تعدين بعض المعادن الثمينة مثل، الذهب والماس واليورانيوم.

وقبيل مقتله بيومين ظهر بريجوجين في مقطع فيديو، نشرته مجموعات قريبة من فاجنر على وسائل التواصل الاجتماعي، قال فيه، إنّه موجود في إفريقيا ويعمل على “جعل روسيا أعظم في جميع القارات، وضمان مزيد من الحرية في إفريقيا”.

وتذهب تقديرات إلى عدم تأثر الشركة بمقتل مؤسسها، كونها بالأساس تتبع المخابرات الخارجية الروسية، وباعتبار أن بريجوجين كان مجرد واجهة، تمردت على رئيسها بوتين، إذ يشير تأخر الرئيس الروسي في رده على محاولة الانقلاب إلى، أنه كان يرتب جيدا لمرحلة ما بعد التخلص منه عبر صناعة قائد جديد لها.

في مقابل تلك الرؤية، يعتقد الخبير الاستراتيجي اللواء سيد غنيم، أن مستقبل المجموعة بات على المحك، ” لأن بريجوچين كان يمثل لهم العمود الفقري الذي يستندون عليه، ويلتفون حوله منفذين كل قراراته”، مشيرا إلى أنه ” أمام جماعة فاجنر خيارات بوتين التي أعلنها مسبقاً، وهي إما العمل في بيلاروسيا وإفريقيا أو الانضمام للجيش الروسي، أو الخروج للحياة المدنية”، مؤكدا أن القيادات الوسطى بالمجموعة ستحدد موقفها من خلال بيان أو إعلان رسمي قريبا.