قبل أيام من انفجار طائرته ومقتله، التقى قائد مجموعة “فاجنر” الروسية، يفجيني بريجوجين، 5 من قادة قوات الدعم السريع السودانية، حاملين معهم هدايا من سبائك الذهب بعد تزويدهم بصواريخ أرض جو من قبل فاجنر، بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال”.
تقول الصحيفة، إن أخر رحلة لبريجوجين في إفريقيا، شهدت تنسيقًا بين مجموعته، والميليشيات المرتبطة بها في القارة السمراء. إذ تضم إمبراطورية فاجنر في إفريقيا حوالي خمسة آلاف رجل، فيما أشارت تحركات بريجوجين الأخيرة إلى، أنه كان يخطط لمستقبله وتوسيع شبكته في إفريقيا، ومن بينها دعم قوات محمد حمدان دقلو “حميدتي” في السودان.
وأثار مقتل بريجوجين تحليلات كثيرة عن مستقبل فاجنر في إفريقيا، ومنطقة الساحل، والسودان. ففي مالي بدأت أنباء تتواتر عن استدعاء فاجنر لروسيا مدة شهرين؛ لإعادة ترتيب شكل وجودها الجديد.
بينما أكدت تحليلات أخرى، أن روسيا التي تورطت في حرب أوكرانيا وتواجه الغرب، لن تتخلى عن فاجنر، واستثمارتها في إفريقيا، بل ستمضي في إعادة هيكلتها، والدفع بها للأمام بما يحقق لروسيا نفوذًا إفريقيًا في منطقة كانت حكرًا على خصومها، وثروات لا يمكن التفريط فيها.
فاجنر تخضع لإعادة هيكلة
وعقب تمرد بريجوجين، ظهر اسم أندريه تروشيف، وهو عقيد سابق بالجيش الروسي، وأحد أبرز مؤسسي فاجنر، “ويبدو الشخصية المؤهلة لخلافة بريجوجين؛ بسبب سجله، ولأنه سيكون الأكثر قدرة على الاستثمار في مهام فاجنر”، بتعبير “وول ستريت جورنال”.
ونقلت صحيفة “كوميرسانت” الروسية، أن بوتين كان قد اقترح تروشيف قائدًا جديدًا لفاجنر، خلال اجتماع مع قادة هذه المجموعة بعد أيام من انتهاء تمرد بريجوجين في يونيو /حزيران الماضي. إذ عمل تروشيف كمدير تنفيذي للمجموعة، وأشرف على العديد من عملياتها الخارجية.
وفي السادس والعشرين من أغسطس / آب الجاري، دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، جميع عناصر فاجنر، وغيرهم من المتعاقدين العسكريين الروس إلى أداء قسم الولاء للدولة الروسية. وينطبق المرسوم على أي شخص يشارك في أنشطة عسكرية في أوكرانيا، ويساعد الجيش ويخدم في وحدات الدفاع الإقليمي.
تقول ناتيا سيسكوريا، الزميلة المشاركة في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، لـ”بي بي سي“، إن “بوتين يريد أن تكون له سيطرة أكثر صرامة على فاجنر، للتأكد من أنه لن يواجه أزمة أخرى في المستقبل. وهذا يشير إلى، أن بوتين أصبح أكثر نفورًا من المخاطرة”.
ويأتي المرسوم في وقت يفتقر فيه مقاتلو فاجنر المرتزقة إلى قائد واضح حتى الآن، بعد أن تحطمت طائرة بريجوجين التي حملت قادة آخرين برفقته، مما أسفر عن مقتل عشرة أشخاص.
“لقد أقسموا اليمين في الماضي أيضًا، إنه إجراء اعتيادي للعديد من الجيوش. لذلك هو إشارة لمقاتلي فاجنر: إما أن تؤدي اليمين، وتحتفظ بسلاحك، أو تنزع سلاحك. أنت أمام خيار أن تطيع أو تذهب إلى السجن”، يوضح بترو بوركوفسكي، المدير التنفيذي لمؤسسة المبادرات الديمقراطية، وهي مؤسسة فكرية مقرها في أوكرانيا.
ويعتقد بوركوفسكي، أنهم كمقاتلين مدربين، وذوي خبرة، فهم نواة جيدة للجيش الروسي. “هم في الغالب جنود عسكريون محترفون، بخلاف كونهم أيديولوجيين. لقد اختاروا فاجنر، لأنها أعطتهم معاملة خاصة، دون بيروقراطية الجيش الروسي الكبير. إذ حصلوا على معاملة خاصة بموجب أوامر بوتين، فلا أعتقد أنهم يهتمون بمكان القتال ولمن ومن أجل من”.
فيما تظن سيسكوريا، أن أنصار بريجوجين الحقيقيين، الذين لا يريدون أداء اليمين، قد يخلقون مشاكل على المدى الطويل. وتقول: “أعتقد أن الرسالة واضحة جدًا، إما أن تتبع القواعد أو ينتهي بك الأمر مثل بريجوجين”.
خلال القمة الروسية الإفريقية التي عقدت الشهر الماضي في سانت بطرسبرج، شارك نائب رئيس المديرية العامة للأركان العامة للقوات المسلحة، أندريه أفريانوف، ضمن الوفد الرسمي لأول مرة. وذكرت وسائل الإعلام، أن أفريانوف هو القائد المسؤول عن تسميم العميل المزدوج سيرج سكريبال، وتاجر الأسلحة البلغاري إيميليان جيبريف.
وفقًا للشائعات، كان أفيريانوف هو من كان يطور خطة؛ لاستبدال فاجنر بالكامل في إفريقيا بهيئة عسكرية قوامها 20 ألف شخص. وذكرت قناة VChK OGPU الروسية، أن “بريجوجين كان معارضًا بشدة لهذا الأمر، وبذل كل جهد لمنعه”.
وقال مصدر خدم سابقًا في المخابرات العسكرية الروسية لموقع “المونيتور“، إنه على الرغم من أن فاجنر كانت لديها خطة عمل في حالة وفاة زعيمها، إلا أنها مؤقتة بطبيعتها، ولا تعني على الإطلاق عملية مستقلة كاملة. وشدد المصدر على، أنه دون بريجوجين، سيكون من المستحيل إدارة شركة “في مواجهة هياكل الدولة التي أنشأت هذه الأعمال”.
ومع ذلك، بحسب الصحيفة، لا يتعين على موسكو بالضرورة، أن تستبدل مرتزقة فاجنر في الخارج بآخرين بشكل كامل.
ما هو موقف الدعم السريع؟
ينسحب ذلك بطبيعة الحال، على موقف المجموعة المقاتلة مع قوات الدعم السريع في السودان، إذ وفرت للأخيرة خط إمداد مهم للسلاح في صراعها مع الجيش السوداني، والمعارك الدائرة منذ إبريل / نيسان الماضي.
وبحسب ما ورد، تزوِّد فاجنر قوات الدعم السريع بصواريخ أرض- جو، مما مكَّنها من مواجهة القوة الجوية للقوات المسلحة السودانية، بالإضافة إلى العديد من الأسلحة الأخرى.
يشرح الصحافي السوداني، أكرم الفرجابي “لولا جهود قوات فاجنر في تدريب، وتأهيل أفراد الدعم السريع، لكان الطيران الحربي حسم المعركة منذ الأسابيع الأولى، لكن القوات الروسية (يقصد مقاتلي فاجنر)، علّمتهم كيف يستخدمون مضادات الطيران، وكيف يستخدمون الطائرات المسيرة، باعتبار أن الدعم السريع قوات مشاة لا تربطهم صلة بالطيران”.
ويعود الظهور الأول للمجموعة في السودان، خلال حكم عمر البشير، وشاركت بشكل كبير في حماية الموارد المعدنية المهمة، مثل، مناجم الذهب. واتُّهم أعضاؤها لاحقًا بمساعدة حكومة البشير في محاولة قمع المظاهرات عام 2019، رغم إجبار البشير في النهاية على التنحي عن السلطة.
منذ اندلاع الحرب السودانية الأخيرة، ظهرت تقارير عديدة تشير إلى، أن فاجنر كانت تُلقي بثقلها خلف حليفها الراسخ، حميدتي رغم أن الأخير نفى مرارًا تورُّط فاجنر في الحرب.
وفي مايو / أيار الماضي، اتهمت الولايات المتحدة فاجنر بتزويد قوات الدعم السريع في السودان بالسلاح. وقال براين نيلسون، وكيل وزارة الخزانة الأمريكية لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية في بيان، إن “وجود مجموعة فاجنر في القارة الإفريقية يمثل قوة مزعزعة للاستقرار، لأي دولة تسمح بنشر موارد المجموعة على الأراضي الخاضعة لسيادتها”.
وقال دبلوماسيون غربيون في الخرطوم في عام 2022، إن فاجنر كانت ضالعة في عمليات تعدين غير مشروعة للذهب في السودان.
وتجدر الإشارة إلى، أن السودان يحتل المركز الثالث في إنتاج الذهب على مستوى قارة إفريقيا، حيث يتجاوز قيمة إنتاجه السنوي الـ90 طن من الذهب سنويًا، ما توازي قيمته نحو خمسة مليارات دولار أميركي.
كاميرون هدسون، الدبلوماسي الأمريكي السابق، والمحلل بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، قال: “أعتقد أن الخاسر الأكبر إلى جانب بريجوجين هو حميدتي في السودان”.
وأضاف هدسون لموقع “ميدل إيست آي“، إن اعتماد قوات الدعم السريع على خطوط الإمداد الأجنبية؛ لمواصلة الصراع في السودان -الذي شهد مقتل أكثر من 5 آلاف شخص، وتشريد الملايين حتى الآن- يعني أن الخسارة المفاجئة لحليف رئيسي قد تكون كارثية.
وتساءل قائلاً: “هل سنشهد عدوانية قوات الدعم السريع، كما كانت في الأسابيع القليلة الماضية؟ هل سنراهم حتى يحاولوا الاحتفاظ بمواقعهم في الخرطوم؟ لديهم خوف دائم من إغلاق خطوط إمداداتهم”.
وفي يونيو / حزيران الماضي، نشرت شبكة “سي إن إن” تحقيقًا مفصلاً تتهم من خلاله مجموعة فاجنر الروسية بدعم قوات الدعم السريع في المعارك المستمرة في السودان.
ونقلت “سي إن إن” عن مسؤولين استخباراتيين، وشهود عيان قولهم، إن فاجنر تقوم بتسليح قوات الدعم بالأسلحة عبر طرق الإمداد في منطقة دارفور. وحسب تحقيق الشبكة الأميركية الذي دام عدة أشهر، فإن إمدادات فاجنر إلى قوات الدعم بدأت قبل اندلاع الأزمة السودانية.
كما وفرت فاجنر خطوط إمداد للوقود والنفط، عبر الصحراء الليبية المجاورة، وتولت عمليات نقل الدعم باستخدام شاحنات نقل متوسطة الحجم، تضمن لهم سرعة الوصول والتحرك عبر المسارب الصحراوية الوعرة بين سلاسل الجبال.
وقالت علياء الإبراهيمي، وهي زميلة غير مقيمة في المجلس الأطلسي، إن الأساس لمستقبل ما بعد بريجوجين، ربما وضعه الكرملين بالفعل. وأوضحت “لسوء الحظ، بعيدًا عن الكاريزما التي يتمتع بها الرجل نفسه، هناك بنية كاملة لا تزال قائمة وفاعلة، ومن غير المرجح أن نشهد تأثيرًا كبيرًا على أنشطة مجموعة فاجنر في ليبيا والسودان”.
وأضافت: “كان أمام الكرملين أسابيع؛ لتمهيد الطريق للتخلص من بريجوجين، ومن الواضح أن الكرملين شعر بالثقة من هذا التوقيت”. وأشارت إلى، أنه سيظل هناك الكثير من “العملاء” لروسيا، حتى دون فاجنر كوسيط”، خاصةً مع صعود الحكومات الانقلابية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
رغم ذلك، تساءل هدسون مجددًا: “هل سيُسمح لفاجنر بمواصلة أعمالها بقيادةٍ جديدة، أم سيحاول امتصاص فاجنر، وأصولها كافةً في هذه البلدان، والعمل بها كمجموعة تابعة للجيش الروسي؟”.
وأضاف، أنه لا تزال هناك قيمة في أن تحظى روسيا بمجموعةٍ عسكرية غير رسمية تعمل في القارة، وتموِّل نفسها ذاتيًا عبر علاقاتٍ بالعملاء، موضحًا، أن “هذا المال يشق طريقه عائدًا إلى روسيا ويفيد الاقتصاد”، الذي يتضرَّر حاليًا بفعل العقوبات الغربية.
ومن أجل دعم قوات الدعم السريع، تحتاج فاجنر إلى تجميع الأسلحة من قواعد روسية مختلفة، فقوات المرتزقة تقوم بنقل أسلحتها من القاعدة الجوية، والبحرية الروسية في منطقة اللاذقية الساحلية السورية، وأيضا من قواعدها في شرق ليبيا، والوجهة مطار بانجي في جمهورية إفريقيا الوسطى، بعدها يتم نقل الأسلحة برًا إلى النقاط الحدودية مع دارفور على الحدود مع إفريقيا الوسطى.
ولا تزال قوات الدعم السريع تسيطر على عدد من المقرات السيادية والعسكرية الاستراتيجية للجيش في العاصمة الخرطوم، منها القصر الرئاسي، ومجمع اليرموك لصناعة الأسلحة والذخيرة، ومناطق عسكرية وأمنية في محيط المقر الرئيسي لقيادة الجيش بوسط الخرطوم. ولا تزال كذلك تحاول السيطرة على مقر قوات المدرعات الاستراتيجي.
ما هو الموقف المصري؟
على مدار الأشهر القليلة الماضية، تكرر الطلب المصري بإخراج قوات فاجنر من السودان، نظرا للدعم العسكري الكبير الذي تقدمه المجموعة الروسية لقوات الدعم السريع، في حربها ضد الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان. والأخير تدعمه السلطات المصرية منذ الوهلة الأولى.
وعنونت مصر طلبها المتكرر بضمان إبقاء الأمور تحت السيطرة في الجارة الجنوبية، إلا أن هذا المطلب لم يلق استجابة روسية حتى الآن، حسبما كشفت مصادر روسية لموقع “رصيف22“، خلال القمة الإفريقية الروسية.
يوضح الباحث الروسي، دينيس كوركودينوف، أن قمة دول جوار السودان – التي عقدت في القاهرة منتصف يوليو/ تموز الماضي بحضور عدد من الزعماء الأفارقة – شهدت مناقشة قضية الحد من أنشطة مجموعة فاجنر كذلك. لكن لم يلق هذا الموضوع ردًا إيجابيًا من غالبية العسكريين السودانيين الذين يواصلون الاعتماد على مساعدة المرتزقة الروس؛ للضغط على خصومهم السياسيين، حسبما يقول الباحث.
من جانبها، تقول أماني الطويل، مدير البرنامج الإفريقي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن “انتشار فاجنر في السودان مقلق لمصر، ويتعارض مع مصالحها، واستراتيجياتها؛ لضمان الأمن والاستقرار بالسودان، وتضخم الشركات الأمنية في إفريقيا أمر مقلق للدولة الوطنية بشكل عام”. فيما ترجح ألا تستجيب الحكومة الروسية بسهولة للطلب المصري الخاص بسحب مقاتلي فاجنر من السودان.
تثق الطويل -في حديثها مع “رصيف 22”- أن الضغط المصري سيتواصل على روسيا؛ لإخراج فاغنر من السودان، لقناعة الدولة المصرية، أن الشركة الروسية تلعب دوراً رئيساً في إطالة أمد الحرب السودانية؛ بسبب دعمها لميليشيات الدعم السريع، منذ بداية هذا الصراع.
وتلفت إلى، أن الحكومة الروسية أغلقت الباب أمام طلب سوداني مماثل، تقدم به نائب رئيس مجلس السيادة، مالك عقار، خلال القمة الروسية الإفريقية الثانية، حيث لا توجد مؤشرات على الأرض حتى الآن؛ لاستجابة روسيا لمثل هذه المطالب.
“الشركة لها دور مهم في القارة الإفريقية، ولا أعتقد خروجها من السودان تحت أي ظرف، وسيبقى لها دور”، يختتم الباحث السياسي الروسي، ديمتري بريجه.