تأسيس المستقبل يبدأ من سؤالين: السؤال الأول، لماذا وصلنا إلى هنا؟ والجواب على هذا السؤال يلزمه إعادة قراءة التاريخ الأقرب منه والأبعد. والسؤال الثاني: كيف نخرج من هنا؟ والجواب على هذا السؤال يلزمه النقد الموضوعي الفاحص لكافة التطورات التي خلقت الوضع الراهن، أعني جذور التطورات وأبعادها العميقة وتأثيرتها المرئية أو الخفية، بدون النظرة النقدية سوف نقع في أحد خيارين: إما ننجذب للتاريخ ونعجب به ونقع أسرى له ونحاول إعادة انتاجه، وإما ننفر من التاريخ وننفصل عنه وننسلخ منه ونتأرجح في الهواء وفي الفراغ فلا نحن موصولين بجذورنا ولا نحن جزء من عصرنا وزماننا.
وخلاصة الإجابة على هذين السؤالين هي أن نسلم بحقيقة أننا وصلنا إلى هنا بأسباب ومقدمات موضوعية يمكن دراستها وفهمها والوقوف عليها فهي ليست ألغازاً ولا سحراً ولا مؤامرات، نحن هنا لأسباب على الأرض وليس لأقدار من الفضاء، والخروج من هنا ممكن بشرط توافر المعرفة الكافية بكافة الدروب التي وصلت بنا إلى ما نحن فيه، مأزق مغلق من كل الجهات وموصد من كل الأركان.
نورمان . ف . كانتور 1929م – 2004م من أكابر مؤرخي العصور الوسيطة في جامعة هارفارد أصدر في عام 1972م كتابه الأشهر ” التاريخ الوسيط : حياة وموت حضارة “، كان عليه أن يجيب على سؤال مهم : لماذا في عصرنا هذا ننفق الجهد والعمر والمال في دراسة العصور الوسيطة على مدار القرون العشرة من الرابع حتى الخامس عشر قبل أن تبدأ أوروبا تباشير عصر النهضة في القرن السادس عشر؟ ماذا نبحث في تلك العصور البعيدة عن عصرنا؟ ثم ماذا نستفيد من دراستها في فهم الحاضر والمستقبل؟.
وهنا أجاب الرجل عن السؤال بكل وضوح وحسم فقال ” الكثير جداً من جوانب حضارة القرن العشرين ليست سوى نتائج تجربة العصور الوسيطة، إن تجربة العصور الوسيطة ماتزال تتحكم في أقدارنا، سواء بما هو طيب، أو بما هو سيء، حتى الآن “. العصور الوسيطة الأوروبية عند – نورمان . ف . كانتور – عبارة عن ” لحظة طويلة ومعقدة من تجربة الإنسان الغربي، إذ تشمل الفترة ما بين عام 300م حتى عام 1500م تقريباً، وميراث تجربة العصور الوسيطة في أوروبا شاسع وشامل، فما إن أهل عام 1500م حتى بات واضحاً أن العصور الوسيطة قد انتهت، ولكنها كانت قد قدمت للعالم الحديث -يقصد العالم الغربي- التراث الغني بكثير من مؤسساته ونظمه السائدة مثل: الكنيسة المسيحية، والحكومة النموذجية، والنظام الراسمالي، والجامعة، وبعض أفكاره الأكثر حركةً وحيويةً، بما في ذلك الفكر الرومانسي، الفكر العقلاني، والوطنية، والمنهج العلمي، فضلاً عن الطبيعة المركبة المتناقضة للإنسان نفسه “. انتهى الاقتباس، والكتاب من ترجمة وتعليق مؤرخ العصور الوسيطة الكبير دكتور قاسم عبده قاسم. وخلاصة فكرة نورمان. ف. كانتور يمكن إجمالها في كلمتين: أن العصور الوسيطة لها تأثير راهن في عصرنا الراهن، وأن هذا التأثير كامن في أكثر ما نملك من أفكار ونظم ومؤسسات وتقاليد وأعراف.
إذا كانت أوروبا لها عصور وسيطة تقرب من ألف عام، تلحقها عصور حديثة ومعاصرة تقرب من خمسمائة عام، فنحن -تقريباً- كل عصورنا منذ نهاية الحكم البيزنطي وبداية الفتح الإسلامي لمصر 640 م وحتى يومنا هذا هي عصور وسيطة من حيث الجوهر والمضمون، مع إضافة قشور ودهانات ونصوص أوروبية حديثة في القرنين الأخيرين.
وإذا كانت عصور أوروبا الحديثة والمعاصرة قد حررت الإنسان الغربي من سطوة الحكام ورجال الدين والطبقات المميزة من النبلاء والأشراف والإقطاع، وإذا كانت حررت العقل والفكر والضمير، وإذا كانت مكنت الإنسان الغربي من التمتع بجملة حريات وحقوق خاصة وعامة لا يجوز المساس بها ناهيك عن مصادرتها لأي سبب من الأسباب.
وإذا كانت العصور الحديثة الغربية قد طبقت عملياً الفكرة اليونانية القديمة “المواطن السيد في البلد السيد”بأن نزعت الطابع الإلهي عن الحكام وجعلتهم -كما خلقهم الله- مجرد بشر مثل كل البشر، وبأن جردت طبقة رجال الدين من الحق في التسلط على عقول الناس وضمائرهم وتعظيم طاعة الحكام والاستسلام للواقع والانسحاق أمام الأقدار وتجريس الغضب والاحتجاج وإنكار حق الناس في التغيير، إذا كانت الحداثة الغربية قد فعلت كل ذلك، فنحن لم نفعل أي شئ من ذلك إلا من حيث المسميات والأشكال وقشور الطلاء وديكور الزينة.
فالحكم عندنا فردي مطلق، فرد واحد يُحكم سيطرته على عدة أفراد قليلين، ثم هؤلاء العدد القليل من الأفراد يُحكمون سيطرتهم على كافة مؤسسات الدولة، ثم هذه المؤسسات تُحكم سيطرتها على الدولة، ثم الدولة تُحكم سيطرتها على الشعب، ثم الشعب منزوع الحقوق لا يكاد يتمتع بحق التنفس ذاته . فرغم مرور قرنين من القطيعة الشكلية مع عصورنا الوسيطة، ليس عندنا حكم ديمقراطي يأتي بإرادة الشعب ويغادر بإرادة الشعب.
ولكن عندنا حكم -بالقوة المجردة- ثم فوق القوة قناع شكلي من استفتاءات بلا مصداقية وانتخابات بلا نزاهة، وبرلمانات يشكلها الحكام على مقاسهم وليس على مقاس الشعب، ثم حكومات تأتمر بأمر الحاكم سواء كان على صواب أو خطأ، وذلك كله معناه تجميع كافة السلطات في يد الحاكم الفرد دون مراعاة لما ينبغي أن يكون من توازن مطلوب بين سلطات التنفيذ والتشريع والقضاء، والحاكم الحديث أو المعاصر في ذلك لا يختلف، بل هو امتداد، للحاكم في العصور الوسيطة ، مع مراعاة فارق هام جداً وهو: أن الدولة الحديثة مكنت الحاكم الفرد من هيمنة فائقة لم تكن متاحة في العصور الوسيطة، سواء كانت هيمنة على الدولة أو تسلطاً على الشعب .
لم يعرف أي عصر سابق حجم السلطات التي تتركز في يد الحاكم الحديث من الباشا وذريته ثم عبد الناصر وخلفائه من الرؤساء القادمين من صفوف الجيش. هذا التسلط الحديث خلق طبقات ذات امتيازات خاصة، وهذه الامتيازات تركت تشوهات على ثلاث مستويات: الاقتصاد، المجتمع، السياسة. اختلال في الاقتصاد، تفاوت طبقي فادح في المجتمع، فساد في السياسة.
في كتابه ” مصر الخديوية 1805 – 1879م : نشأة البيروقراطية الحديثة”، يقول ف . روبرت هنتر ” شهدت تونس ومصر وتركيا العثمانية، خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن التاسع عشر ، دولاً جديدةً قويةً ذات بيروقراطيات مركزية، وذات جيوش على الطراز الأوروبي، بقيادة نخب مؤلفة -في جانب منها- من أشخاص تلقوا تعليمهم في الغرب”، ثم يقول “وقد دعمت هذه الدول الجديدة سطوة المستبدين على رعاياهم، والرعايا صاروا أكثر انصياعاً لمتطلبات الإدارة المركزية”، ثم يقول ” كان احتلال تونس من قبل فرنسا 1881م ثم احتلال مصر من قبل بريطانيا 1882م نهاية لحقبة طويلة من الاستبداد الشخصي “، ثم يستدرك ليقول ” على أن أجهزة الدولة التي بناها هؤلاء الحكام صمدت، لأنها كانت تشكل تركيبات اجتماعية ومؤسسية قوية، وحظيت بـتأييد جماعات أهلية وأجنبية، وتتمتع بهياكل هيراركية ذات أساس ثابت متين، وقد صارت هذه الأجهزة اللبنات الأولى في بيروقراطيات القرن العشرين”. انتهى الاقتباس من ف . روبرت هنتر، وهو من ترجمة بدر الرفاعي . ص 11 من مقدمة الكتاب.
وخلاصة فكرته أن الدولة الحديثة في تونس ومصر وتركيا زادت من فرص الاستبداد من جانب الحكام ، وزادت من انصياع الشعوب، وأجهزتها تتسم بالاستمرارية، يذهب الحكام وتمر الحقب وتبقى الأجهزة، والمهم فيما يقول ف . روبرت هنتر هو أن هذه الأجهزة ليست مجرد وظائف عامة يشغلها أفراد يؤدون واجبات محددة في مقابل رواتب شهرية، سواء في الجيش، سواء في البوليس، سواء في القضاء، سواء فيما يسمى الأجهزة السيادية الخ، لا هي أكثر من ذلك، هي أكثر بكثير جداً من مجرد كونها وظائف عمومية، إنما -في الحقيقة- هي تجميع مصالح اجتماعية، هي ملتقى طموحات طبقية، هي مراكز تحقيق منافع اقتصادية، هي مصدر تميز ومزايا اجتماعية، هي -في التحليل الأخير- نفوذ ومصالح وقوة ووجاهة وطبقية واستعلاء وضمان ظروف معيشية ذات وضع استثنائي ومتميز.
هذه الامتيازات التي يترتب عليها اختلال في الاقتصاد وتفاوت طبقي في المجتمع لها جذور ضاربة في تاريخنا، وإذا كان نورمان ف . كانتور، يرى أن القرن العشرين في العالم الغربي يتأثر بمواريث العصور الوسيطة الأوربية، فنحن في مصر، وغيرنا من بلاد الشرق الإسلامي، نتأثر القرن الماضي والحالي بل والقرون المقبلة، بمواريث التاريخ منذ انتهى الحكم البيزنطي وبدأ الحكم العربي والإسلامي من القرن السابع الميلادي حتى مختتم القرن الثامن عشر الميلادي، فقد حُكمت مصر من خارجها من المدينة ودمشق وبغداد وإسطنبول -باستثناء حكم الفاطميين ثم الأيوبيين ثم المماليك- وقد كان الدين في كافة تلك الحقب لما يزيد من اثني عشر قرناً هو مرجعية الحكم الرسمية.
لكن إملاءات الواقع العملي كانت هي مرجعية الحكم الفعلية وليس مباديء الدين الحنيف، الدين كان الغطاء الشرعي لما يتفق معه وما يخالفه مخالفة وقحة صريحة من سياسات الحكام من خلفاء وسلاطين وملوك وأمراء ، فباسثناء حضرة سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام -وهو معصوم من الله- ثم الخليفة الأول سيدنا أبي بكر رضي الله عنهما، باستثناء الرسول والصديق، اشتغلت آلة القتل، حتى صارت الميزة الأولى للحكم، وصارت علامةً أصيلة على ما يمكن تسميته التداول الدموي على السلطة، وقد أطلقته أحداث الفتنة الكبرى بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ومازالت بعض شعوب الحضارة الإسلامية أبعد ما تكون عن التداول السلمي على السلطة، ومازال التداول الدموي -بدرجات متفاوتة- ساري المفعول في عدد من البلدان المنتسبة للحضارة الإسلامية ، وحتى لو لم يكن دموياً في ظاهره فهو قهري قمعي في جوهره ومضمونه حيث الحكم لمن معه القوة وليس لمن معه الحق.
بات القتل- في السياسة العملية الإسلامية منذ انتهاء عصر النبوة ثم عصر الخلفاء الراشدين- وسيلة التداول على السلطة، أو الوسيلة للوصول إليها ثم الاحتفاظ بها ثم حرمان الغير منها، وهذا النوع من القتل بات عملاً من أعمال السيادة لا يتم تجريمه ولا يخضع فاعله للمساءلة ولا المحاسبة، فقد تم إقصاء الشريعة (القانون ) عن هذا القتل السيادي، وقد مارس هذا القتل خلفاء مشهود لهم بالورع والتقوى والعدل والفقه في الدين والجهاد في سبيل الله ، فبات من الطبيعيات والمسلمات أن يزاول الخليفة قتل منازعيه على الكرسي وفي الوقت ذاته يوصف بالعدل والورع، خليفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الوقت ذاته قاتل وعادل. هذ التداول البغيض على السلطة أسس للكثير من الأمراض المزمنة في نسيج الفكر والسلوك السياسي والاجتماعي والأخلاقي في المجتنعات الإسلامية حتى يومنا هذا.
سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هو ذروة عصر الراشدين، وهو المؤسس الفعلي للدولة الإسلامية كجهاز إدارة ومؤسسة حكم ومرفق قضاء وآلة حرب وغزو وفتح، وعهده من العهود النادرة في تاريخ الانسانية – قبل الاسلام وبعده- شهد موجةً استثنائية من الأمجاد العسكرية التي ترتب عليها زيادات جبارة في مساحة الدولة وسكانها ومواردها واقتصادها ونفوذها ووزنها الاستراتيجي. ومن البديهي مع هذه الانتصارات والفتوحات أن ترتفع مكانة الجند ويزداد وزن العسكريين في معادلات الاقتصاد والسياسة والمجتمع، وقد كان عمر بن الخطاب على حكمة كافية لمواجهة مثل هذا الموقف الضاغط، فرفض أن يترتب على الانتصارات العسكرية أي زيادة في مزايا ونفوذ ووضع العسكريين الطبقي والاجتماعي، كان حريصاً على قاعدتين لا تقوم بغيرهما دولة عادلة: الأول هو المساواة بين كل مواطنيها دون تعلية طبقة فوق غيرها من باقي الطبقات، ثم الثاني المساوة بين فرص الأجيال الحالية والأجيال اللاحقة في الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. وعلى هذا الأساس رفض ابن الخطاب تقسيم أرض العراق على الجند الفاتحين، لأن ذلك يخلق طبقة عسكرية مميزة داخل الدولة والمجتمع، ثم تمليكهم الأرض يقطع الطريق على تمتع الأجيال المقبلة بحقها في هذه الأملاك العامة.
لكن سيدنا عثمان رضي الله عنه فتح الباب لنوع من الإقطاعات العسكرية، حيث سمح بتملك بعض القادة العسكريين مساحات واسعة من الأراضي، تملك انتفاع، وليس تملك رقبة. هذه السياسة من سيدنا عثمان رضي الله عنه ورد نقدها من جانب سيدنا على بن أبي طالب رضي الله عنه، ففي ص 406 من الجزء الرابع من ” تاريخ الرسل والملوك” يروي أبو جعفر محمد بن جرير الطبري عن سيدنا علي بن أبي طالب- وهو يرصد أحداث 35 هجرية- يقول سيدنا علي “ما يريد عثمان أن ينصحه أحد ، اتخذ بطانةً من أهل غش ، ليس منهم أحد إلا قد تسبب ( من السبوبة والارتزاق ) بطائفة من الأرض( أي اقطاع من الأرض) يأكل خراجها ـ ويستذل أهلها ” . انتهى كلام سيدنا علي نقلاً عن تاريخ الطبري.
خلت القرون الهجرية الأربعة الأولى – الحكم الأموي ثم العباسي – من خلق طبقة عسكرية ذات اقطاعات اقتصادية ومزايا اجتماعية ونفوذ سياسي ، حتى تسلل الضعف إلى الخلافة العباسية في القرن الخامس الهجري – الحادي عشر الميلادي ، حيث صارت الخلافة العباسية اسماً عاجزاً عن الفعل، وانتقل الحكم الفعلي إلى الديلم من بني بويه، ثم السلاجقة، ثم الدولة الزنكية أو النورية، ثم الدولة الأيوبية، ثم الدولة المملوكية، وقد انتهت الخلافة العباسية مع نهاية الدولة المملوكية عندما سيطرت الدولة العثمانية على الشام ومصر والعراق والحجاز واليمن.
بدأ بنو بويه ثم السلاجقة سياسة توزيع الاقطاعات على الجند ثم عنهم أخذ هذه السياسة دولة آل زنكي ثم عنهم أخذها الأيوبيون، ومع صلاح الدين الأيوبي بلغ الإقطاع العسكري ذروته، ينقل إبراهيم علي طرخان، في كتابه ” النظم الإقطاعية في الشرق الاوسط ” عن تقي الدين المقريزي قوله “وأما منذ كانت أيام صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى يومنا هذا، فإن أراضي مصر، كلها ، صارت تُقطع للسلطان وأمرائه وأجناده”. انتهى كلام المقريزي عن تحويل صلاح الدين الأيوبي أرض مصر إلى اقطاعات عسكرية للسلطان والقادة والجند. ثم كانت سياسة صلاح الدين الأساس الذي قامت عليه فلسفة الحكم المملوكي حتى مطلع القرن السادس عشر، هو خلق طبقة عسكرية تضع يدها على الاقتصاد والسياسة معاً، وبهما تعلو فوق المجتمع ثم تستعلي عليه ثم تتميز عنه ثم تسعى لوضعه تحت السيطرة.
وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.