تصريح رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، أثناء زيارته لمصر الأسبوع الماضي، بأنه لا نية لدى القوات المسلحة السودانية؛ للسيطرة على السلطة والحكم في السودان “مؤكدا حرصه على وضع حد لهذه الحرب” ونسعى لإقامة فترة انتقالية، يستطيع بعدها الشعب، أن يؤسس دولة من خلال انتخابات حرة نزيهة”.
والمؤكد، أن هذا الكلام سبق وتكرر في أكثر من بلد عربي، وحدث العكس تماما، وسيطر الجيش على السلطة، وأن حديث النوايا حتى لو كانت حقيقية وطيبة، لا يحكم بمفرده المسار السياسي لدول العالم، وقد يكون البرهان صادقا في نواياه، ولكن سيبقى التحدي الذي يجب مناقشته، هو كيف سيكون مستقبل السودان بعد 4 سنوات من مرحلة انتقالية فاشلة، وما يقرب من 6 أشهر من المواجهات المسلحة، وماهي الأوزان النسبية للمكونات المدنية والعسكرية حاليا، والتي ستشكل مستقبل النظام السياسي في البلاد، وليس خطاب النوايا ولو صادقة.
والحقيقة، أن معضلة فشل 4 سنوات من المرحلة الانتقالية، ثم المواجهات الدموية بين الجيش والدعم السريع تقول، إن هناك قطاعا واسعا من المجتمع السوادني بات يعطي لعودة الأمن، وإنهاء الحرب أولوية قصوى قبل الديمقراطية، بعد أن هُجر الناس من ديارهم، وشاهدوا جثث الأقارب والجيران، تملأ الشوارع بسبب الحرب، وبات تقدم الجيش في المعارك محل دعم من غالبية السودانيين، الذين باتوا يستقبلون قواته بالترحيب والتهليل، بعد أن كانوا قبل عام يهتفون بسقوط سلطته.
ورغم أن الجيش والدعم السريع هما المسئولان المباشران عن الحرب الأهلية التي اندلعت في السودان، إلا أن معاناة الناس من ويلاتها سيجعل قطاعا واسعا منهم يرى، أن الأولوية يجب أن تكون لعودة الأمن، وبسط النظام، وهنا يقدم الجيش نفسه، على أنه الحارس الأمين للنظام العام.
إن السؤال الأساسي الذي كان يجب أن يطرحه الجميع، وخاصة القوى المدنية عقب الثورة السودانية، هو أسباب جعل الحكم العسكري، منذ استقلال البلاد عام ١٩٥٦، هو القاعدة والحكم المدني هو الاستثناء، فقد عرف السودان أول انقلاب عسكري بقيادة إبراهيم عبود في عام ١٩٥٨، أي بعد عامين من الاستقلال، وبقي في الحكم حتى عام ١٩٦٤، حيث شهدت البلاد ثورة شعبية أسقطت حكم عبود، واستمرت الصراعات السياسية، حتى قام الضباط الأحرار بقيادة جعفر النميري بانقلاب عام ١٩٦٩، والذي بقي في السلطة حتى عام ١٩٨٥ الذي عرف ثورة شعبية، أنهت حكم النميري، وظهر القائد العسكري الاستثنائي “سوار الذهب” الذي قاد مرحلة انتقالية لمدة عام واحد، كما وعد وأجرى بعدها انتخابات وفق نظام برلماني، لم يستمر إلا ٤ سنوات، وجاء انقلاب البشير الذي بقي في السلطة ٣٠ عاما، حتى الثورة الأخيرة التي أسقطته في إبريل ٢٠١٩.
والحقيقية، أن بلدا استقل منذ ٦٧ عاما، عرف فيها حكما أو دورا مدنيا في الحكم حوالي ١٠ سنوات، و٥٧ عاما، حكم عسكري شاركه لحوالي عام حكم مدني، أثناء حكومة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، يصبح السؤال الذي يجب أن يطرح، لماذا يفشل الحكم المدني ويستمر الحكم العسكري؟ وألم يكن هناك استدعاءات للتدخل العسكري من قبل قوي مدنية، عقب تعمق الخلافات فيما بينها، فيذهبون للجيش؛ لكي يحسمها وليس الآلية الديمقراطية؟
الواقع، أن هذا حدث أكثر من مرة، سواء في عهد حكومة إسماعيل الأزهري عقب الاستقلال مباشرة، أو حاليا في رهانات بعض القوي المدنية على أحد طرفي الصراع الحالي من المكون العسكري، وهو واقع يجب مواجهته بشفافية، وتقديم مخرجات للتعامل معه، لا أن تقفز عليه بشعارات سياسية، تطالب بإنهاء الحكم العسكري من الباب؛ ليعود مرة أخرى من “الشباك”.
واللافت أيضا، أن الحكم المدني في السودان تبنى نظاما برلمانيا، أفرز حالة من الانقسام والهشاشة السياسية، وعدم الفاعلية والقدرة على الإنجاز، في حين أن الحكم العسكري تبني نظاما رئاسيا مركزيا، اعتبره جانب من الشعب السوداني رمز للأمن والاستقرار.
والحقيقة، كان يجب على القوى المدنية أن تعمل على تبني النظام “الرئاسي الديمقراطي”، وليس التمسك بالنظام البرلماني الذي تحول إلى ساحة للانقسام والصراعات الحزبية، وعدم الفاعلية، وكان أحد أسباب الانقلابات العسكرية.
إن هذا الإرث التاريخي “لانقلابات السودان” تجاهلته قوي التغيير، وركزت على السيطرة على مرحلة انتقالية طويلة، ومتعثرة “أبدعت” في التوقيع على اتفاقات لا تحترم، واهتمت بالصياغة والشعارات، وتجاهلت قضية توحيد المؤسسة العسكرية كشرط أساسي؛ لبدء عملية الانتقال الديمقراطي، إنما ترك الجميع الانقسام بين الجيش والدعم السريع لأربع سنوات، حتى تعمق وانفجر في شهر رمضان الماضي.
طول المرحلة الانتقالية تحت حجة تفكيك النظام القديم، انتهت بأن أضعفت قوى الثورة نفسها وقسمتها، وأصبح تيار الحرية والتغيير يضم كتلتين رئيسيتين أحدهما: هو المجلس المركزي، والثاني هو القوي الديمقراطية، كما اندلعت حرب بين طرفي المكون العسكري، أي الجيش والدعم السريع، وبات المشهد الأمني والسياسي والعسكري يقول، إن الحرب قد تنتهي قريبا، وقد يسيطر الجيش على معظم المدن الكبرى والولايات، وفي نفس الوقت بات يمتلك حاضنة شعبية كبيرة، وربما أكبر من التي تمتلكها قوي التغيير المدنية، وبالقطع أكبر (بكثير) من الدعم السريع.
إن حسم الجيش للمعارك الدائرة في السودان لن يعني اختفاء عناصر الدعم السريع أو إبادتها، إنما سيظل مطروحا التوافق على آليه لدمجها داخل مؤسسات الدولة السودانية الأمنية والعسكرية، وأن من المهم أيضا معرفة انعكاس هذا “النصر العسكري” الراجح للجيش على المستقبل السياسي للسودان في ظل حصول “أولوية الأمن” على نقاط جديدة في الشارع السوداني، والمطلوب وجود شريك مدني، يضع أيضا الديمقراطية في قلب معادلة “الأمن أولا” وإلا سيعيد السودان تكرار الدورة السابقة بين حكم عسكري طويل، وومضات مدنية متقطعة.