ورثت “حلا” عن أمها جسدًا نحيلًا، كما ورثت ضعف التركيز والذاكرة. تخبرنا دعاء أن مدرسي ابنتها ذات الثماني سنوات، يشكون تشتتها أثناء الحصص الدراسية، وضعف استيعابها ونسيانها المستمر.
“في الشهر الرابع من حملي بـ حلا، الدكتورة قالت لي إن عندي أنيميا ولازم أتغذى كويس، وكتبت لي فيتامينات، اشتريتها لمدة شهرين، وبعدين قلت أوفر ثمنها. كمان ما قدرتش أواظب على نظام الأكل اللي طلبت مني أمشي عليه، الظروف ما كنتش قد كده” تقول دعاء، والتي أنجبت بعد حلا ولدين، لم يكونا أفضل حالًا من أختهما، فأصغرهما (ثلاث سنوات) يعاني من الأنيميا المتوسطة.
بينما تشعر دعاء، أنها أورثت أولادها المرض، فإن شعورها حيال مستقبلهم، أو حتى صحتهم يزداد تشاؤمًا، فـ”الظروف” التي كانت قبل ثماني سنوات “مش قد كده”، قد ازدادت سوءًا، فـ 3500 جنيه، يتقاضاها زوجها العامل بمصنع للبلاستيك، لا تستطيع أن تضمن مجرد سد جوع خمسة أشخاص، فما بالك بحصولهم على طعام صحي.
اقرأ أيضا وخز الجوع.. سنوات التضخم والساقطون نحو هوة الفقر.. صور مصغرة لعوز يتسع
يشير موجز “حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم 2023”، والصادر في يوليو الماضي، عن خمس وكالات تابعة للأمم المتحدة على رأسها “الفاو”، إلى أن قدرة الناس على اتباع أنماط غذائية صحية، قد ضَعُفَتْ بشكل كبير خلال عام 2022، حيث بات أكثر من 3.1 مليارات شخص (42% من سكان العالم) عاجزين عن تحمل كلفة نمط غذائي صحي، فيما عانى ما يتراوح بين 691 و783 مليون شخص في العالم من الجوع في 2022.
في تقرير سابق على مصر 360، عرضنا شهادات لأمهات وآباء، تحدثوا عن معاناتهم في توفير الغذاء لأسرهم مع الارتفاع المتواصل للأسعار. وبقدر ما كانت هذه الشهادات تعبر عن واقع مؤلم، فإن جُل من تحدثنا معهم، باتوا مصابين بالهلع بشأن المستقبل غير متيقنين من استمرار قدرتهم على توفير الغذاء لأسرهم، حتى بذلك النمط غير الصحي الذي تتضاءل فيه تدريجيًا نسبة اللحوم والأسماك واللبن والبيض، والفاكهة، وأي مصدر للتغذية الصحية السليمة، معتمدين على أغذية رخيصة كثيفة السعرات الحرارية من الحبوب والنشويات.
مثل “دعاء” فإن “رانيا” – التي لا يزد ما يتقاضاه زوجها من عمله بائعًا في “هايبر” للمنتجات الغذائية عن 3 آلاف جنيه – تكافح من أجل تدبير احتياجات أسرتها المكونة من 4 أطفال إضافة لها ولزوجها.
أكثر ما يؤرق “رانيا” هو مرض ابنها الأوسط عمر (5 سنوات) بالتقزم، فرغم أنها تؤكد، أن الأطباء في المعهد القومي للتغذية يقومون كما تقول: “بأكثر من الواجب”، فهم يعاملونها وابنها: “باهتمام كبير”، ويصرفون الأدوية اللازمة لحالته، إلا أنها تشعر بألم شديد من اضطرارها توفير البرنامج الغذائي الخاص بعلاج عمر على حساب تغذية أبنائها الآخرين، خاصة الصغيرين “فارس” (3 سنوات) و”جاسمين” (سنة ونصف)، فهي تشعر دائمًا، أنه ربما يصاب أحدهما بأحد أمراض سوء التغذية مثل أخيه، مع خلو طعامهم يومًا بعد آخر من أي مصدر للتغذية الصحية.
رفاهية الطعام
“التغذية السليمة للطفل، يجب أن تبدأ من مرحلة الحمل، فالأم تحتاج أثناء فترة الحمل إلى زيادة في السعرات الحرارية، والبروتينات والفيتامينات والأملاح، وعدم حصولها على هذه الزيادة يؤثر على صحة الأم والطفل معًا”. تقول الدكتورة سارة سعد: أخصائي طب الأطفال والتغذية العلاجية لـ “مصر 360”.
وتشير سعد، إلى أن الطفل يكون أكثر عرضة للإصابة بأمراض سوء التغذية، بداية من سن الــ6 أشهر، مع احتياجه لتغذية تكميلية إلى جانب الرضاعة، فإذا كانت الأغذية التي يتناولها الطفل ليست من المصادر الغنية بالفيتامينات، والمعادن الضرورية للنمو، أو عندما يتناول الطفل سعرات حرارية أقل من المطلوب للمرحلة العمرية الخاصة به، فحينها يكون الطفل معرضًا لأمراض سوء التغذية مثل، الأنيميا والتقزم والهزال. أما إذا كان الطفل يتناول أطعمة تحتوي على سعرات حرارية عالية، ولا تحتوي على المغذيات الدقيقة المطلوبة للنمو، فعندها يكون الطفل معرضًا للإصابة بـ “السمنة”.
وتحذر الدكتورة نهلة عبد الوهاب استشاري البكتيريا والمناعة والتغذية الحيوية، ورئيس قسم البكتيريا والمناعة بمستشفى جامعة القاهرة، من خطورة سوء التغذية على المناعة، خاصة في مرحلة الطفولة، فعدم حصول الجسم على الطاقة الغذائية اللازمة للنمو والنشاط، يحرم الطفل من جهاز مناعي قوي، وهو ما يصاحبه في كل مراحل عمره.
وبينما تؤكد عبد الوهاب في حديثها لـ”مصر 360″، على أن التغذية السليمة، خاصة للأطفال أو النساء في مرحلة الحمل، ليس معناها الإفراط في تناول مصادر البروتين “المكلفة” بل يكفي: “طبق فول عليه بيضة في وجبة الإفطار، وقطعة من اللحم أو ربع فرخة، يمكن أن تقسم على طفلين في وجبة الغذاء، مع تناول الخضروات الطازجة، وبعض الفاكهة ومنتجات الألبان” فإن ما تعتبره استشاري البكتيريا والمناعة والتغذية الحيوية طعامًا، ليس مكلفًا، يصبح بالنسبة لـ”ريهام” – الأم لثلاثة أطفال (بين الثانية عشر والثلاث سنوات) – والحامل في شهرها الرابع، رفاهية من الصعب تحقيقها.
تحتاج “ريهام” لـ 400 جنيه شهريًا، لبند الأدوية والفيتامينات أثناء فترة الحمل، أما نصف كيلو من اللحم (100 جرام لكل فرد في أسرتها) أو فرخة، كوجبة وحيدة أسبوعيًا مع بعض الخضروات المطبوخة والأرز، يكلفها نحو 800 جنيه على مدار الشهر، كما يكلفها كيلو ونصف من السمك كوجبة واحدة أسبوعيًا 500 جنيه شهريًا.
وهكذا، فإن ثماني وجبات فقط شهريًا مع بعض الفيتامينات اللازمة للأم الحامل تأكل 1700 جنيه، من راتب زوج ريهام البالغ 4500 جنيه، من عمله في مكتب للسفر والرحلات، فإذا أضفنا 1300 جنيه للإيجار وفواتير الكهرباء والمياه والغاز، يتبقى من دخل الأسرة 1500 جنيه، من المفترض أن تكفي لإطعام 5 أشخاص، يحتاجون لـ 82 وجبة أخرى على مدار الشهر، ناهيك عن مصروفات الملبس والمواصلات والأدوية، وأي طارئ على حياة الأسرة في هذا الزمن الصعب.
يكشف تقرير صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، اعتمادًا على دراسة حالة أجراها في أكتوبر 2022، بعنوان “أثر الحرب الروسية الأوكرانية على الأسر المصرية” عن انخفاض استهلاك نحو 74% من الأسر المصرية من السلع الغذائية، فيما خفضت 90% من الأسر استهلاكها من البروتينات (لحوم وطيور وأسماك)، وعانت 36.9% من الأسر التي انخفض دخلها من عدم كفاية الدخل، فيما لجأ 95% من تلك الأسر إلى الاقتراض لسد احتياجاتها.
اقرأ أيضا أسعار “البروتين” تهدد صحة المصريين.. توقعات بتنامي “الأنيميا” والتقزم بين الأطفال
مؤشرات المرض وأهداف التنمية
يذكر موجز “حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم 2023″، أن عام 2022 شهد إصابة 148 مليون طفل، دون الخامسة من العمر بالتقزم (22.3% من أطفال العالم)، وتعرض 45 مليون طفل (6.8 %) للهزال، فيما عانى 37 مليون طفل (5.6 %) من الوزن الزائد (السمنة).
وفي مصر، جاءت مؤشرات “المسح الصحي للأسرة المصرية 2021”، والصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، والذي أُعلنت نتائجه النهائية في مارس 2023، لتكشف عن تقدم في بعض مؤشرات الحالة التغذوية، حيث انخفضت نسبة الأطفال (دون سن الخامسة) المصابين بالتقزم (الطول بالنسبة للعمر) إلى 12.8% عام 2021 مقابل 21% في المسح السابق له عام 2014.
كما تراجعت نسبة الأطفال (دون سن الخامسة) المصابين بالنحافة (الوزن بالنسبة للطول) إلى 3.1% عام 2021 مقابل 8% عام 2014. وسجلت نسبة الأطفال (دون سن الخامسة) الذين يعانون من زيادة الوزن (السمنة) 11.5% مقابل 15% عام 2014.
ربما كان ذلك التقدم نتاجًا لمبادرة علاج أمراض سوء التغذية للأطفال في المدارس، والتي انطلقت قبل 4 أعوام، مستهدفة الكشف المبكر عن أمراض التقزم، والهزال والسمنة والأنيميا لجميع تلاميذ المرحلة الابتدائية بقطاعي الريف، والحضر بالمدارس الحكومية والخاصة والمجتمعية والفكرية.
إلا أنه على الرغم من تعدد البيانات الواردة من وزاراتي التربية والتعليم والصحة، والهيئة العامة للتأمين الصحي، والمعهد القومي للتغذية، حول المبادرة، فإن هذه البيانات تخلو من أعداد المصابين الذين أسفر عنهم الكشف في محافظات مصر، وتكتفي فقط بذكر الرقم الإجمالي الذي خضع للكشف، والذي وصل بحسب آخر بيانات حكومية إلى 11 مليون طفل.
على أي حال، فإن هذا التقدم لا يزال بعيدًا عن أهداف “استراتيجية التنمية المستدامة 2030″، خاصة فيما يتعلق بالتقزم، والذي تستهدف مصر خفضه إلى 2.2%، والسمنة التي تستهدف خفضها أيضًا إلى 2.2% بحلول عام 2030.
فيما تضمنت نتائج “المسح “ ذاته، أرقامًا مقلقة بشأن الإصابة بـ”الأنيميا” بين الأطفال، دون سن الخامسة والتي قفزت قفزة كبيرة، حيث بلغت 43% عام 2021 مقابل 27.2% بالمسح السابق له، والذي أُجري في عام 2014.
اقرأ أيضا فول ومكرونة سادة ولحمة فيما ندر.. غول الغلاء يلتهم “غذاء” المصريين
أعمق من مجرد أزمة
لا يمكن فصل نسب الإصابة بأمراض سوء التغذية ومؤشرات الجوع، عن الوضع التغذوي العام في مصر، ومدى قدرة الناس على الحصول على الغذاء بكميات كافية ومنتظمة ومتنوعة، لمدهم بالطاقة الغذائية التي تضمن حياة طبيعية وصحية ونشطة، وهو ما بات أمرًا صعبًا على ملايين الأسر في ظل الموجات التضخمية المتتالية، وضعف برامج الحماية الاجتماعية.
كما لا يمكن فصل كل ذلك عن السياسات التي تبنتها الحكومة خلال السنوات الأخيرة، وعلى رأسها برنامج الإصلاح الاقتصادي، وما تضمنه من تحرير سعر صرف الجنيه، وتقليص الإنفاق العام على بنود الدعم.
إلا أن الأزمة في واقع الأمر أكبر من مجرد تبني الحكومة لجملة من السياسات الاقتصادية، خلال بضع سنوات، مهما كانت كارثية تلك السياسات. إن الأزمة تعود لعقود تخلت خلالها الدولة عن دعم القدرات الإنتاجية للقطاعات الحيوية، وفي مقدمتها القطاع الزراعي، حيث توجهت السياسات الزراعية بعيدًا عن الاحتياجات المحلية من الغذاء، وتبنت مفهوم “الأمن الغذائي” على حساب “الاكتفاء الذاتي”، فقد رأت تلك السياسات، أنه ما دامت كانت الدولة قادرة على توفير الغذاء عن طريق الاستيراد، فلا حاجة لإنتاجه، وهو ما خلق وضعًا اقتصاديًا هشًا، كشفت عنه بجلاء أزمة الحرب الروسية الأوكرانية. ما يحيلنا إلى أنه ربما يكون مفتاح حل الأزمة، هو البدء في تعزيز قدرة منتجي الغذاء على استمرار وتنمية إنتاجهم؛ لمواجهة الجوع والفقر المدقع، والتخلص من السياسات التي خلقت هذا الواقع المر.